انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2019/02/07
إحسان الإحسان - 9 -
مراجعة وتوبة يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: [صاحبنا الإمام الشوكاني نشأ زيديا شيعيا، ثم توسعت مداركه حتى بلغ درجة الاجتهاد. ونجده في كتاب «نيل الأوطار»، وهو شرح لكتاب «منتقى الأخبار» لابن تيمية الجد، يمشي مع التشدد في مسألة التمسح بالأضرحة والحلف بغير الله، ويندد «بالكفر الفظيع والمنكر الشنيع» و«الشرك المبين». ويستعدي العلماء والحكام قائلا: «فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك المبين؟»]: يريد الكاتب إرغامنا على اتباع الشوكاني، وكأنه إمام للأمة لا تنبغي مخالفته؛ وهو في الحقيقة فقيه كآحاد الفقهاء المقلدين، الذين لا يتمكنون من معرفة الدين الذي هو أوسع من المذهب. وأما صفة الاجتهاد التي أضفاها عليه الكاتب، فهي من الاجتهاد المعروف داخل المذاهب، لا الاجتهاد المطلق. كل هذا، من وجه الفقه وحده، الذي ليس هو العلم الديني كله. ولكن هذا الخلط، استمر من بداية "عصر التدوين" إلى اليوم، من دون أن يتصدى له من له أهلية إعادة الأمور إلى نصابها من الدين. لهذا، فإن قول الكاتب عن الشوكاني إنه قد بلغ درجة الاجتهاد، يكاد يكون لا معنى له؛ بما أن مجال الاجتهاد نفسه غير متبيَّن للعموم. وحُكم الشوكاني ومن هم على شاكلته، بعد ذلك على الناس، ونسبتهم هذا إلى الشرك وهذا إلى الكفر، ليس في الغالب صحيحا؛ لأن الحكم هنا قد خرج من مجال الفقه العام، إلى مجال التوحيد الذي هو من العلم الخاص. والتوحيد الذي يعلمه الشوكاني، ويعلمه ابن تيمية قبله لا يتجاوز العام منه، والذي يكون عليه جميع المسلمين. وما من فرق في مجال التوحيد بين من ذَكرنا وعوام الناس، إلا ما يكون من إدراك لأحكام الفقه وقواعده؛ وهذا لا يعطي الأهلية بالكلام في التوحيد، ناهيك عن الحكم على عقائد الناس وترتيبها. وكل ما نشأ عن هذا الخلط في المراتب، ما أفلح إلا في توسيع دائرة الفتنة، وفي اختراع مذاهب عقدية جديدة، صارت عاملة في الأمة بالتفرقة، إلى جانب المذاهب الفقهية الأولى. ونحن لا نتكلم عن توحيد ابن تيمية ومن تبعه، إلا من مرتبة التوحيد الخاص؛ لذلك فأحكامنا، وإن كنا أحيانا لا ندخل في تفاصيل بنائها، متيقّنة وبيّنة. والشرك الذي يجعله التيميون أصلا لدى الناس إلى أن يثبت العكس، ليس الأمر فيه كما يُظن؛ فهو لا يقع في الحقيقة، إلا ممن نوى بتوجهه إلى شخص أو إلى صاحب قبر أو إلى صنم أنه يعبده: إما من دون الله، وإما مع الله؛ غير هذا لا يصح من جهة الشرع. ولهذا السبب كان الله يذكر عبارة {من دون الله} عند المواطن التي تكون مظنة لاعتقاد شرك القائم فيها. فمن ذلك قوله تعالى (على سبيل المثال): {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. وفي هذا التعبير القرآني سر لا يجوز كشفه للعموم، نحن نعلم منه بطلان القول بشرك المسلمين، الذين حكم الشوكاني بشركهم. وأما من يريد معرفة السبب الذي دعا الشوكاني ومن يوافقه، إلى تكفير شطر من المسلمين، وهم يعلمون أن مسألة التكفير خطيرة لا يسلم منها إلا من يكون فيها على بيّنة لا تتطرق الشبهة إليها البتة؛ فإننا نجيبه بأن ذلك وقع منهم، عندما دخلوا بعقولهم في مجال العقيدة والتوحيد. ومجال العقيدة، منطقه فوق المنطق العقلي العام، الذي يعتمده الفقهاء أنفسهم في القياسات. وقد دخلت هذه الشبهة على الفقهاء، عندما رخص لهم الشرع بإعمال المنطق العقلي في استنباط الأحكام، فظنوا أنه قد رخص بذلك في كل الدين؛ وهو غلط منهم أصابهم في مقتل. نعني من هذا، أن المنطق العقلي والتفكر، هو مما تقوم عليه مرتبة الإسلام في جلها، لكنه يتضاءل كلما أوغل العبد في الدين، من مرتبة الإيمان إلى الإحسان... وبغياب هذا الأمر الذي نذكره هنا عن العقول، قد وقع خلط منذ القرون الأولى كما ذكرنا آنفا، وصار يتفاقم مع مرور الزمان واشتداد الغفلة. ذلك لأن الغفلة كلما قويت، رجع الناس بها إلى عقولهم (نفوسهم)، بدل أن يعودوا إلى ربهم يستهدونه. وقد جاء في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي: كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ.»[1]؛ ولم يدل سبحانه ضُلاّل عباده على عقولهم!... فليُحفظ هذا!... وإن من أشد الضلالات، ربط هداية الله بإعمال العقل، كما يقول بذلك من لا علم له بالهداية ولا بطريقها. وتجد العوام ينساقون خلف هذه الضلالات، لظنهم أنها مما يتأيد الدينُ فيه بالعقل. وهيهات!... ومتى كان الدين بحاجة إلى تأييد؟!... ولو أن الناس حافظوا على التوجه الأساس، الذي يتبيّنون منه التوجه إلى الله من التوجه إلى سواه بسهولة، لكفاهم في تمييز سبيل الهدى من سبل الضلال؛ ولكنهم عندما ينزلون إلى التفاصيل، يفقدون وضوح الرؤية فيسهل إضلالهم. وهذا الأمر على شدة وضوحه، لا يكاد يعمل به إلا أفراد من الناس. وإن كان الكاتب يسوق كلام الشوكاني هنا، وكأنه حجة هو معجب بها؛ أو كأنه دليل على فقه الرجل وصحة غيرته على الدين؛ فالأمر ليس كذلك وعلى النقيض؛ إنما هو توافق بين كاتبنا ومَن يأتي بهم، على عدم وضوح في الرؤية والعلم، انجر عنه غلط في أحكام، لا يسلم صاحبها من تبعاتها أبدا؛ لأنها دخول فيما هو من اختصاص الربوبية، وتجاوز لطور العبودية. ولا ينفع هنا حسن النية، إن اعتذر به صاحب التكفير؛ كأن يقول الواحد منهم: إنما فعلت ذلك سدا للذرائع، وحماية لعقائد العوام!... ذلك لأن هذه المسألة ليست من الصغائر، بل هي مما يشتد فيه تحريج الشرع بما لا يقارن مع سواها. وهذه سقطة كبيرة للأستاذ عبد السلام، نسأل الله أن يقطع عنه بعض سوئها بما نصححه له هنا. فإن الناس لا يسألون عن أحوال أصحاب المقولات حيث هم في البرزخ، ولا يهمهم إلا استعمالها بعدهم في الانتصار لهواهم. ومن كان يحب عبدا حقيقة، فليعمل على قطع آثار سقطاته عنه بعد موته، إن كان يعلم. فهذا هو ما يقتضيه البر والشكر... [هذا الرجل المعتدل الذي قرأنا فتواه المنظومة في الفقرة السابقة الداعية إلى الرفق خاض معارك من جملتها معركته مع الروافض.]: يريد الكاتب أن يقنعنا باعتدال الشوكاني، ليمرر الأحكام المذكورة في الفقرة السابقة، التي هي ليست من التشدد فحسب، وإنما هي من الضلال. والشوكاني معتدل (مع ردنا للمصطلح) بمنطق من هم على رأيه، أو بمنطق من هم أشد غلوا منه، أو بمنطق من يرغب في استمالة شطر من التيميين به وحدهم. لقد سبق للكاتب أن حذرنا من معرفة الحق بالرجال، وها هو يأتينا برجال، يزعم أنهم يعرفون الحق؛ لنقبل منهم ومنه من دون تمحيص؛ وهو بهذا التناقض، يفقد الصدقية عند القارئ اللبيب فحسب. وقد كان حريا به، أن يأتي بالأدلة عند ذكر بعض الأحكام، كالتكفير ورمي الناس بالشرك؛ وإن كانوا -كما يشير الكاتب دائما- من الروافض؛ لأن الروافض لا يجوز أيضا تكفيرهم، وإن كانت بعض مقولاتهم من الكبائر. هذا، إن كنا نريد أن نسير في الأحكام على قواعد علمية تشمل الموافق والمخالف جميعا. وأما إن كنا ننزل القواعد بانتقائية، ومن غير عدل وإنصاف؛ فإن ذلك يفقدنا أهلية الكلام في شؤون الأمة العامة، كما يبغي صاحبنا أن يُفهمنا بجمعه في الكلام بين السنة والشيعة، من غير مراعاة لما ذكرنا. إنه بهذا الفعل، يعيد تأسيس مذهب أهل السنة مع إيهام المعاصرين بالتجديد في التناول. وهذا احتيال غير مجد، لكونه لا يضيف جديدا إلى الواقع، مع استمرار العمل على الوهم السابق الذي يجعل الفرقة التي ننتمي إليها على "معظم" الحق، إن لم تكن على الحق كله. [لنستمع إليه يقص قصتها فهي مليئة بالعبر. قال رحمه الله: «ولما ألفت الرسالة التي سميتها «إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي» ونقلت إجماعهم من ثلاث عشرة طريقة على عدم ذكر الصحابة بسب أو ما يقاربه، وقعت هذه الرسالة بأيدي جماعة من الرافضة الذين بصنعاء المخالفين لمذاهب أهل البيت، فجالوا وصالوا وتعصبوا وتحزبوا وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة (...). وكل من عنده أدنى معرفة يعلم أني لم أذكر فيها إلا مجرد الذب عن أعراض الصحابة الذين هم خير القرون، مقتصرا على نصوص الأئمة من أهل البيت، ليكون ذلك أوقع في نفوس من يكذب عليهم وينسب إلى مذاهبهم ما هم منه برآء. ولكن كان أهل العلم يخافون على أنفسهم ويحمون أعراضهم، فيسكتون عن العامة. وكثير منهم كان يصوبهم مداراة لهم. وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن وتسلط العامة عليهم وخمول ذكرهم وسقوط مراتبهم، لأنهم يكتمون الحق. فإذا تكلم واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم وأوهموهم أنهم على الصواب. فيتجرأون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء وهضم شأنهم. ولو تكلموا بالصواب أو نصروا من يتكلم به أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم لكانوا يدا واحدة على الحق، ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شيء من الفتن. فإنا لله وإنا إليه راجعون».]: لم يفعل الشوكاني، إلا أنه أحيى فتنة لم تزل مستعرة منذ وُلدت؛ لكنه مضطر ككاتبنا، إلى أن يتظاهر بالإنصاف في البداية، لتكون استنتاجاته في النهاية أكثر قبولا لدى من لا يتفطن إلى تلاعبه بعقل سامعه. ولنلاحظ أن الكاتب كان في فصل سابق يأبى أن يقبل الخوض في المعارك القديمة، ويرفض من العاملين للإسلام أن يُحيوها من بين دفات الكتب، وزاد على ذلك بإخباره عن نفسه بأنه من أهل الاعتدال؛ وها هو يأتي برأي الشوكاني "المتسنن" في الرافضة، من دون أن يأتي برأي الرافضة في الشوكاني ومن هو من صفه!... فأين الاعتدال؟!... وأما الشوكاني الذي قام يذب عن الصحابة، لاعتماده على خيرية قرنهم الوارد بها الحديث بحسب ما يزعم، فإنه ما زاد على أن خاض بذلك المعارك المذهبية التي لم تنشأ من الجانبين إلا بالغفلة عن الله، والاشتغال بالفضول. وبما أن الكتاب كتاب إحسان، فقد كان يجمل بالكاتب دلالة الناس على الله (إن كان قد عرفه)، ليخرجوا بتلك الدلالة من دائرة الفتنة، لا أن يعيدهم إليها باستجلابها من خلف القرون. فالصراع الأيديولوجي الذي بين النواصب والروافض، ليس في الصدارة من صراعات عصرنا، وقد صار الناس يبتعدون عن الدين نفسه بفعل التوجيه الدجالي الخارجي والداخلي. فاليوم لسنا في معرض الذب عن الصحابة -رضي الله عنهم- ولا عن أهل البيت -عليهم السلام- بقدر ما نحن بحاجة إلى عرض الدين عرضا صحيحا، يعود بالناس إلى ربهم بدل أن يبقيهم معلقين تاريخيا في زمن من الأزمنة ومع إمام من الأئمة أو فقيه من الفقهاء. ولو أن الكاتب -من كونه سنيّا- عمل على فضح تيار النصب في أهل السنة، وعمل الشيعة في المقابل على فضح تيار الرفض لديهم، لكان ذلك أنفع للأمة، من الاستمرار على النهج نفسه الذي كان عليه سلف الفريقين. وماذا سينفع انتصار للصحابة من دون معرفة بالله؟!... وماذا سينفع تأييد للأئمة من دون سير على خطاهم؟!... إن الناس عندما صاروا يفتشون في ضمائر غيرهم، ليقعوا على ما يُخالف "أمر الرب"، يذكّروننا بمحاكم التفتيش التي عرفتها أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي نُكّل بسببها بكثير من الناس. فهل يظن حقا أصحابنا من "محاكم التفتيش" السنية والشيعية أنهم يخدمون الدين بها حقيقة؟... أم إنهم كنظرائهم الأوروبيين يستعملونها للقضاء على خصومهم من طريق الدين، عند عجزهم عن منازلتهم في مختلف ميادين النزال!... نحن لا نشك في أن الكاتب -في أحسن أحواله- ملبوس عليه، لم يعرف الحق ليكون مؤهَّلا لدلالة الناس عليه. وبدل أن يسكت ويكف أذاه عن المسلمين، إلى أن يأتي الله بمن هو أكثر أهلية منه؛ نجده يأخذهم في سبل السابقين، يحييها من جديد لكي يجد ممرا عليها إلى عقولهم، فيأخذهم وقتئذ إلى حيث يريد. ولقد عرف الكاتب أنه لا أصلح لهذه الوظيفة من ابن تيمية وتلبيسه، إن قُدّم في صورة جديدة؛ لا يكون فيها مركزُ الاهتمام "التوحيد"، وقد صار مستنفدا غير قابل لإعادة الاستعمال في الصورة الأصلية، كما هو معلوم. ولم يكن من بد إلا استحداث مزج بين التوحيد التيمي في صورة غير صورته؛ وإنما بادعاء الإحسان "الصوفي"؛ طالما أنه لا أحد سيعلم عن أي إحسان هو الكلام؛ ولا عن مرتبته ضمن التوحيد كله... المهم في هذا، هو أن لا يُصادم التوحيد التيمي من حيث المبدأ، ليبقي على الباب مشرعا في وجه كل التيميين، من أجل الانضمام إلى المشروع الجديد (العدل والإحسان)، الذي يُراد له أن يخرج إلى طريق جانبي كما خرج الطريق التيمي الأول. ولا بد من أجل إضافة الجديد على ما سبق إليه ابن تيمية، أن يعمل على الجمع بين التصور التوحيدي والتصور السياسي، الذي سبق إلى شق طريقه في المتأخرين حسن البنا، من دون أن يخطر له الجمع بين الأمرين... كان حرص حسن البنا على العمل السياسي في زمانه، يجعله يقبل بجميع التصورات العقدية داخل جماعته، من أجل الوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس. ولقد أفلح -رحمه الله- في ذلك إلى حد كبير!... غير أن الأمر مع جماعة "الإخوان المسلمون"، لم يلبث أن انقلب إلى عمل السرورية الجزئي، الذي صار بفعل ضم العمل التنظيمي إلى التوحيد الوهابي، أميل إلى العنف، وأبعد عن غاية جمع شمل الأمة، وإن زُعم ذلك دائما. وفي الوقت الذي كان التيار السروري يتبلور في الجزيرة العربية، بدأ كاتبنا في الدعوة إلى عمل سياسي، أقرب ما يكون إلى عمل الإخوان؛ لكن بصورة أكثر تركيزا على الوطن (المغرب)، الذي يريد الأستاذ عبد السلام، أن يجعله منطلقا فيما بعد إلى العمل العام المتعلق بالأمة جمعاء. ولقد أعطاه الخميني -كما سبق أن ذكرنا- صورة العمل الوطني الناجح، فلم يبق له إلا استنفار الشعب المغربي، على غرار ما وقع في إيران... ولم يكن أجدى من مخاطبته من جهة العدالة الاجتماعية، والعدل في توزيع الثروات، في مقابل الفساد المستشري في البلاد، والذي لا ينتظر إلا من يقوم له، بالحكمة والحنكة اللازمتين فحسب. لكن صاحبنا، لم يمهل تنظيره ما يكفي من الوقت ليكتمل، كما لم يتوافر له من العقل ما يجعل تنظيره يبلغ النضج المنشود. ولسنا نعني هنا، إلا قصور التصور السياسي لدى الكاتب من جهة؛ وضبابية معنى الإحسان الذي يدعو إليه من وراء تربيته، من الجهة الثانية. فهذان العنصران، على ما لهما من أهمية في الطرح "الياسيني"، سيبقيان نقطتي الضعف الكبريين لديه، وإن لم يعلم ذلك كل أحد. وإن مسارعة الكاتب إلى تسمية جماعته بـ"جماعة العدل والإحسان"، تُعد من أكبر التدليس الذي انتهجه في عمله؛ لأنه سيجعل من مفهومه للعدل عدلا قرآنيا عند اشتراك اللفظ، وسيجعل من إحسانه إحسانا قرآنيا أيضا؛ وكأن الناس باتباعه لن يزيدوا على التزامهم بالقرآن شيئا!... وكأن من لم يستجب له، إنما يفرط في "أمر" الله؛ وهذا يجعل اتباعه في "لاوعي" العامة أمرا واجبا، كما لا يخفى. وهذا هو ما سميناه تدليسا لديه. ولا بأس هنا من أن نتكلم قليلا عن قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]. فالأمر من الله هنا أمران: أمر إيجاب وأمر استحباب. فالعدل واجب، والإحسان مستحب. والعدل حيث كان، هو إيتاء كل ذي حق حقه؛ والإحسان حيث كان، هو المعاملة بالنفل (الفضل). فمن يأتي بالفرائض في مجال الأعمال، يكون من أهل العدل؛ ومن يأتي بالنوافل زيادة عليها، يكون من أهل الإحسان (إحسان مرتبة الإسلام). ومن يلتزم من الناس بحكم القاضي الشرعي، فهو من أهل العدل في المعاملات؛ وأما من يعفو أو يتنازل عن بعض حقوقه طوعا، فإنه يكون من أهل الإحسان (إحسان مرتبة الإسلام). وفي مجال الدين عموما، فإن من يكتفي بمرتبة الإسلام المشتركة، يكون من أهل العدل؛ ومن يزيد عليها بمجاهدات الإيمان فإنه يكون من أهل الإحسان (بالمعنى الاصطلاحي). وهكذا، بحسب كل مجال وكل أمر... وأما إيتاء ذي القربى، فإن الله قد ميزه عن الإحسان العام في المعاملات، ليؤكده، وليجعله في رأسه. ويبقى في مقابل الأمر، النهي عن الفحشاء والمنكر، الذي هو نهي الكراهة الذي يكون في مقابل الاستحباب، ونهي التحريم عن البغي الذي هو المقابل للإيجاب في الأمر. فهذه الآية مما يعم أحكام الإسلام الجزئية والكلية، ظاهرا وباطنا، وفيما يتعلق بالفرد وبالجماعة؛ وكأنها وصف للإسلام ذاته بكل شموله. وهذا يجعل العدل أشمل والإحسان أعم، ليبقى معنى العدل ومعنى الإحسان لدى الكاتب جزئيا، وفي أحيان كثيرة غير صواب. وسنعمل على تفصيل هذا الأمر، كلما دعت الضرورة إلى ذلك إن شاء الله؛ لأننا لا نريد الحكم على أحد، من غير دليل ولا برهان. وحينما نجد الأستاذ عبد السلام ياسين يضخم معنى العدل السياسي على حساب العدل بكل معانيه، ويحصر الإحسان في إحسان المعاملات جزئيا، على حساب كل معاني الإحسان، فإننا سنعلم أنه مغرض، وأنه يسعى إلى حجر الواسع وحصر المطلق. وهذا بعينه، هو ما تقع فيه الجماعات الضالة، كجماعة الخوارج الأولين، وكالجماعات المذهبية التي لا ترى الإسلام إلا ما هي عليه حصرا؛ وهو مما يقع أيضا للغلاة من الأفراد كابن تيمية ومن تبعه، الذين يجعلون تصورهم للدين -بحسب مرتبتهم وإدراكهم- هو الدين ذاته. فلهذا، كان الكاتب مصرا على أن يأتينا بابن تيمية ومن دار في فلكه؛ نعني لولا أن الفعل منه يشبه الفعل من ابن تيمية، ما كان ليلح عليه كل هذا الإلحاح!... وسنبرز هذا الأمر عند الدخول في التفاصيل معه، بأشد مما أوضحناه هنا إن شاء الله. [حكمة جليلة يضع الشوكاني أصبعنا عليها. حكمة عملية سياسية اجتماعية. وهي سقوط القيادات في قبضة الجماهير بتعبير عصري. في المجتمع الشيعي يعيش الناس إسلامهم على نمط خاص: عاطفة فوارة وذاكرة تتأجج بمآسي الفتنة الكبرى ومقتل الحسين رضي الله عنه. الجماهير تنوح وتحزن وتسب وتلعن، والعلماء يخشون ثورة العامة فيصانعون ويداهنون ويسكتون. تماما كما يصانع علماء السنة الحكام ويداهنون ويسكتون مخافة بطش السلطان.]: نحن لا ننكر أن الشيعة قد نسجوا أيديولوجيا حول ما وقع من مصائب، ونوافق الكاتب على أن أهل السنة لم يسلموا من ذلك أيضا، وعلى طريقتهم؛ لكننا لا نجعل انحراف أهل السنة هو بالسكوت على ظلم الحكام وحده؛ وإنما هو بالانقياد لتيار النصب الذي ما زال عاملا فيهم إلى الآن، والذي حجب عنهم شطر الدين من جهة العلم؛ زيادة على اشتراك العلماء من الطرفين في الوقوع تحت تحكم الجماهير. ولقد رأينا كثيرا من فقهاء أهل السنة يجارون الناس ويكلمونهم بما يشتهون، لكي يُبقوا عليهم تحت تحكّمهم من وجه آخر مقابل. وإن أغلب ما يسعى إليه علماء السنة وعلماء الشيعة عند العوام اليوم، المال والقوة العددية التي ينالون بها المكانة لدى الحكام. وإن كان مراجع الشيعة يأخذون خمس أموال أتباعهم وجوبا، فإن علماء السنة لا يقلون عنهم في النيابة عن الناس في توزيع الزكوات بحسب الزعم. ولو تتبعنا المخالفات التي تكتنف هذا الجانب وحده، لكفت في صرف الناس عن هؤلاء المتسترين بلباس العلم، وهم لا يختلفون كثيرا عن رجال المال في العادة. نحن من أهل السنة في الأصل، وبلادنا من بلدانهم كما لا يخفى؛ فهل يستطيع أن يجيبنا الكاتب: لم لا يُذكر أئمة أهل البيت عليهم السلام على المنابر هنا، مع ثبوت إمامتهم حتى على الأئمة المعتبرين لدى أهل السنة؟... ولمَ يُعظم الصحابي الذي ليس من أهل البيت، بأكثر مما يُعظم من جمع بين الصحبة والنسب الشريف؟... ولمَ يُقبل رأي سفيه كابن تيمية لدى أهل السنة، وهو من لم تثبت له الإمامة في مرتبة الإسلام نفسها، ويُتجنب ذكر كل رأي لأيٍّ من أهل البيت، مهما علا وسما؟!... لا شك أن الأمر أخطر وأعظم مما يبدو عليه لأول وهلة. فإما أن يكون الكاتب كفؤا لما يريد الخوض فيه، وإما أن يسكت كغيره، إلى أن يأذن الله بفتح "الملفات القديمة". يعلم الله أننا بكلامنا هذا، لا نبغي الانتصار لطائفة على أخرى، ونحن من ندعو إلى الإسلام الصحيح الجامع؛ ولكنه الإنصاف في التناول، الذي لن تقوم للأمة قائمة، إلا باعتماده وسيلة من أجل معرفة الحق، لا من أجل عبادة الرجال. أليس من الشرك، أن يُضرب بوصية الله ووصية نبيه عليه الصلاة والسلام عرض الحائط، والإعراض عن العترة النبوية الشريفة، وكأن الأمر ترك لمستحب من المستحبات الفردية أو أقل؟!... أليس النصب تيارا معاديا للإسلام ذاته، يتخفى خلف تأميم غير معلن للدين؛ وخلف تسنن مشبوه؛ وخلف حرص على توحيد وضعي، بعيد عن روح الوحي بعد المشرقين!... بدأ الانحراف من غير شك مع الأمويين، ولكنه ما لبث أن صار يتزايد مع كل حامل لهذا التوجه الخبيث ممن ولوا من أمر الأمة شيئا عبر التاريخ. لا بد لهذا العمل التحريفي من نتائج، لا ينبغي إغفالها لمن كان يريد تبيّن الحق من خلال الركام!... [فإذا نقلنا تحليل الشوكاني، وهو الخبير بالمجتمع الشيعي، إلى عصر الثورة الإيرانية، وحسبنا الفرق بين الزيدية المعتدلين وبين الإمامية الأكثر صلابة ظهرت لنا أبعاد القضية كلها. المسلمون الشيعة في قبضة حركية تولدت من الانكسار التاريخي، وقويت واشتدت وتأزمت حتى انفجرت اليوم في وجه العالم. العامة ثائرة، والقادة لا يملكون الزمام. والمسلمون السنة في قبضة حركية تاريخية السلطان فيها هو المحرك والعامة لا تملك من أمرها شيئا، من ضمن العامة العلماء.]: واضح من هذه الفقرة، أن الأستاذ عبد السلام ياسين، يريد الدعوة إلى ما يجمع الطائفتين معا على الحق الذي كانت عليه الأمة فيما قبل الانقسام؛ وهذا جيد!... لكن ما كل ما يُراد يُدرك؛ خصوصا عند فقد أهلية التناول، والتي على رأسها الحياد التام والإنصاف. فجعل الكاتب علماء الشيعة تحت حكم العوام منهم، وجعل عوام السنة تحت حكم السلاطين، في مقابلة متكلّفة مختزِلة، ليس صحيحا دائما. وإن اكتوى أحد بنار السلاطين، فإنهم الشيعة وفي مقدمتهم علماؤهم؛ بل والأئمة من أهل البيت عليهم السلام في المرتبة الأولى!... وهل سيتمكن الكاتب من الفصل بين السياسي والديني، عند بداية نشأة الخلاف؟... هذا ما نشك فيه!... ويختار الأستاذ مصطلح "الانكسار التاريخي" الذي يردده كثيرا أتباعه، من دون تمييز لحمولته؛ وقد كنا نفضل لو استعمل "الانكسار القدري"، ليرفع احتمال إمكان تغيير ما وقع وهو قد وقع. إن بعض الناس يدخلون مع ضعف إيمانهم في الشرك، عندما يتوهمون أنه لو وقع خلاف ما وقع، لسبب من الأسباب، لتغيّرت النتيجة؛ وكأنهم لم يسمعوا يوما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ.»[2]. هذه العبارة، تقطع مدد الشرك عن النفوس الضعيفة، وتضعها أمام حقيقة كون المشيئة الإلهية هي الحاكمة على كل ما يظهر في الوجود إجمالا وتفصيلا. ولا يهم هنا إن كان العبد يعلم ذلك أم لا؛ لأن العالم لا يتحرك أو يسكن تبعا لظن أحد أو وهمه؛ وإن كان هذا أيضا مما يخفى عن عمي البصائر، الذين في مقدمهم أهل الكفر من المفكرين، الذين أصبحوا أئمة لكثير من المسلمين في أزمنة التقهقر هذه. إن الأستاذ عبد السلام قد انقلب إلى ربه، من دون أن يتحقق له ما أراد، وعلى الوجه الذي كان يرجو؛ وهذا دليل من الواقع على عدم أهليته لما اشرأب إليه عنقه، لا يتمكن أحد من الطعن فيه. وأما دليل العلم، فهو عدم غوصه في الخلاف السني-الشيعي إلى الجذور. ونعني بالجذور: علم الخلافة من حيث هي، والعلم بالمراتب، والعلم بمراتب الرجال من الأقوال، والكشف الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. كل هذا، ما وجدنا له أثرا من كلام الأستاذ، وإن جهدنا في إرادة تأييده لأقل الذرائع... [عاش الشوكاني معركة من موقع مريح. كان القاضي العام في اليمن تحوطه رعاية الإمام الحاكم. هدوء حياته كان لا شك عاملا مهما في صياغة شخصية كانت صاخبة متطرفة في شبابها، ثم ترزنت وتثبتت لتعطينا المفتي الرفيق. يتهمه بعضهم بأنه كان تيميا وهابيا، أي مقلدا جامدا. والحقيقة أن الرجل حر في رأيه، حر في بحثه، حر في اجتهاده.]: يتكلم الكاتب عن حكم الشوكاني (وغيره) على المسلمين وفِرقهم، بما يرفع هذا أو يضع ذاك؛ بل أحيانا بما يبيح دم هذا، ويُطلق يد ذاك؛ وكأنه أمر يعود إلى الاجتهاد، وإلى الحرية في الاجتهاد!... ومتى كان الدين هكذا؟!... أَيُسوّى النظر في الطهارة بالدماء؟!... وإن نحن جوزنا للفقهاء من كل فرقة النظر في الدماء، داخل نطاقها بما يوافق أحكام الشريعة، فهل يجوز لهم الحكم على المخالف، وهم ما سلموا من الأهواء!... إن هذا لَمما ينبغي أن يُعمل على إيقافه في زماننا، إن كنا نبغي العودة إلى الحق الصراح؛ وكنا نسعى حقيقة إلى توحيد صفوف الأمة، بدل الزيادة في تمزيقها. وسيبقى الشوكاني -رغما عن الكاتب- تيميا سطحيا، لا يرقى لأن يُعتبر من الفقهاء الكبار ولا من المجتهدين؛ لأن الوصمة التيمية تُفقد من أصابته كل فضيلة في مقابلها. وقد يرى بعض الأجانب عن هذه المسائل، أن في كلامنا تحاملا فوق ما ينبغي؛ غير أننا لا نقول ما نقول إلا لعلمنا بضلال ابن تيمية الذي لا نرى أن أحدا من سابقيه أو لاحقيه قد بلغ فيه مبلغه، ولا أتقن إلى الوقوع فيه طريقه، ولا بالغ في حفه بالمحامد حده!... [ففي مسألة من «مسائل ابن تيمية» وهي مسألة التوسل نراه يسلك مسلكا واسعا لينا. في كتابه «قطر الولي على حديث الولي» يذكر مناقب الإمام البخاري رحمه الله ويثني ويقول: «وجعل الله سبحانه كتابه (كتاب البخاري) هذا أرفع مجاميع كتب السنة المطهرة وأعلاها وأكرمها عند جميع الطوائف الإسلامية، وأجلها عند كل أهل هذه الملة. وصاروا في جميع الديار إذا دهمهم عدو أو أصيبوا بجدب يفزعون إلى قراءته في المساجد والتوسل إلى الله بالعكوف على قراءته لما جربوه قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر من حصول النصر والظفر على الأعداء بالتوسل به، واستجلاب غيث السماء، واستدفاع كل الشرور بذلك. وصار هذا لديهم من أعظم الوسائل إلى الله سبحانه. وهذه مزية عظيمة ومنقبة كبيرة».]: هذا تدليس من الكاتب، لأن ابن تيمية منع من التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وكان عليه (الكاتب) لو كان صادقا، أن يدخل في مناقشة ابن تيمية لمسألة التوسل أصلا وفرعا؛ لا أن يأتينا بـ"توسع" للشوكاني (ولا توسع في الحقيقة)، يجعله في كفته، وكأنه مُلحق به كما يُلحق أهل الأنساب في المواريث!... وهذا من أعجب ما وقعنا عليه من تدليس المدلسين!... لا ندري لمَ يتفانى الناس في المنافحة عن ابن تيمية، وهو من لا يبلغ أن يُلتفت إليه في أي باب من أبواب العلم؛ إلا أن يكون الجامع بينه وبين المنتصرين، سوء طوية وكيد للإسلام والمسلمين!... نقول هذا، رغم أننا لا نبني أحكامنا على المسائل المعلومة التي أصبحت لدى التيميين روائز يقيسون بها مدى توحيد العباد ومدى تسننهم. فنحن لا نلزم أحدا بالكلام فيها ولا بإبداء رفض أو قبول؛ لأننا نرى الدين منوطا بما أناطه الله من غير زيادة ولا نقصان. وعلى هذا، فإن المسلم لدينا من شهد الشهادة المعلومة، وإن داخل إسلامه كلام فيما ابتدعه المبتدعون... والفرع الذي هو كل مسائل الكلام، لا يبلغ عندنا الأصل في الإسلام لينقضه أو يلغيه. ولقد كنا نفضل من الكاتب، وهو من أبان عن إرادته لجمع الشتات، أن يبتعد عما ذكرنا، مما وقع فيه التيميون من جهة أهل السنة؛ ليصدّق الفعلَ منه القولُ. وأما وهو يعيد إحياء مواطن الخلاف، وإن كان يحتال في ذلك بزعم التقليل من حدتها أو بتوسيع دائرة التسامح فيها، فإنه لن يكون إلا تابعا لمن سبقوه وحاصدا لما زرعوه. وحتى ما ذُكر هنا من توسل بكتاب البخاري، فإني قد سمعت مرة من أحد الأشخاص ينسب الفضل فيه إلى رجال السند المذكورين؛ وكأن كلام النبوة الذي هو عمدته، لا ينبغي أن يظهر له فضل عند الناس، مع ظهوره على كل حال!... أليس هذا من النصب المشيَّد على الكفر، الذي انتشر في أهل السنة حتى كاد يعم!... إنا لله وإنا إليه راجعون!... ويبقى السؤال: لو لم يذكر الشوكاني عند إبراز حرمة الحديث ما ذكر، ألم يكن يجدر بالناس معرفة ذلك بأنفسهم، ومن دون دلالة أحد؟... ألم يُعط الفقهاء بهذا، فوق ما يستحقون من مكانة!... وإن كان الأمر المقلَّد فيه، وافق هذه المرة أن جاء صوابا جدلا، فكيف يكون الحال عند الخطأ؟!... وكم هو مقدار الخطأ في كلام الفقهاء، بالمقارنة إلى صوابهم؟!... وما مصير العامة عند أخذهم للغث والسمين، من دون تمحيص؟... وهل التدين هكذا في أصله، أم هذا من التحريف الطارئ على الدين؟... وحتى نعلم موقف الشوكاني من التوسل بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو العمدة في المسألة، فلنأخذ قوله في تعليقه على بيت من أبيات بردة البوصيري: [فانظر رحمك الله تعالى ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه المخالف لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما يقوله صاحب البردة رحمه الله تعالى: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنا لله وإنا إليه راجعون.][3]. فهذا الكلام من الشوكاني -ومن الوهابية عموما- لا يدل على علم منهم بالتوحيد وما يتعلق به، وإنما يدل على جهلهم به من وجهه الشرعي قطعا؛ لأن التوحيد الصوري الذي يعتمدونه، لا يسلم المرء معه من الشرك بحسبهم عند كل ذكرٍ لما سوى الله حيث ذكر؛ وهذا سيكون شاقا على كل متلفظ إن رام التزامه. وهذا، لأن التوحيد مستقرُّه القلب، لا اللسان دائما. فمن كان على توحيد (خاص) لم يقدح في كلامه ما يُتوهّم منه الشرك إن تلفظ به. فهو كقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 59]. فهل يكون ما آتاه الله هنا، غير ما آتاه رسوله؟... وهل يكون فضل رسول الله غير فضل الله؟... ودليلنا ختام الآية الذي يقول الله فيه: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 59]، والذي اكتفى فيه أهل التوحيد بالرغبة إلى الله، مع كونهم راغبين إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فهل يكون -مثلا- ذاكر فضل رسول الله من أهل التوحيد، مشركا إن أبقى ذكر فضل الله مضمرا؟!... لهذا السبب كنا دائما نقول: إن التيميين من كونهم على توحيد عام، يتكلمون فيه عن غير إذن إلهي، لا يدلون إلا على شركهم، لا على التوحيد، كما يتوهم من هو أجهل منهم. وإن الكاتب عندما يدل على "اتساع" الشوكاني و"سماحته"، من دون ذكر لرأيه في البيت المذكور من البردة وأمثاله، لا نراه إلا مدلسا، يبغي عدّ الشوكاني من غير التيميين الوهابية وهو منهم. ولا نراه يتعمد هذا، إلا من أجل استمالة وهابية زمانه، لعلهم ينخرطون في عمله السياسي إذا علموا موافقته لهم في توحيدهم. وقد كان يجدر به -لو أنه كان على توحيد الإحسان كما يزعم- أن ينصح لهم ويدلهم على سبيل الترقي، بدل أن يزيدهم بعدا عن الحق... إن الكاتب عند إرادته إبراز فضل الشوكاني، ومن ورائه ابن تيمية، لم يزد على أن نبه إلى فقرهما إلى الفضائل عموما. فالكلام في التوسل وفي غيره، ليس من الأصول التي ينبغي أن يقع عليها الاختلاف، وإنما هو مما علقت به همم العوام وتصوراتهم. والعلم لا يُترك تعيين مناط الكلام فيه للعوام، حتى يرد عليهم بعد ذلك الرادّون. والتوحيد الذي يريد ابن تيمية (والشوكاني من بعده) أن يحتكم إليه، ليس توحيدا معتبرا في الشرع؛ وإنما هو تصور عقلي للتوحيد العام، دخل فيه القاصرون من غير إذن، فنتجت عن مخالفتهم وسوء أدبهم مصائب لا حصر لها. وربما سنعود إلى الكلام في التوحيد من بعض الوجوه، إذا وجدنا ما يدعو إلى ذلك من كلام الكاتب نفسه، في المستقبل إن شاء الله. [توسع ورجوع وتجربة. وكذلك رجع الشوكاني عن تكفير المسلمين وأعلن توبته في صفحة مشرقة نقدمها هدية لكل عاقل لبيب من أهل الإيمان.]: وما دليل الكاتب على صحة أخذه بكلام الشوكاني الثاني (بعد توبته)، دون الكلام الأول؟... هل الأمر منوط بالترتيب الزماني دائما، ليكون الصواب معقبا للخطأ حيث كان؟... ولمَ يضل قوم بعد هدى، إن كان الأمر كذلك؟... وهل ينتظر الكاتب أن يقبل منه كل واحد ما انتهى إليه هو، هكذا، من دون دليل؟... وما قوله في الوهابية الذين سيرون أن الكلام الأول للشوكاني كان أهدى وأصوب؟... فما هكذا يُتناول الدين، ولا هكذا يُقدّم!... إن الاشتغال بالتكفير، نراه نحن مما يُفقد المتكلم به صفة العلم، وبالتالي يجعل تقليده أو العمل بما يقول، من المنكرات التي ينبغي أن يُربى على اجتنابها العامة حيث كانوا. وإن تغاضي الكاتب عن تكفير الشوكاني وإشادته بتوبته، لهو مما ينبغي أن يُعكس؛ ولقد كان جديرا به أن يسلبه الإمامة في الدين بفعله الأول، وإن هو عاد بتوبة، فإنما يعود كآحاد الناس فحسب. وهذا الاختلال في ميزان الرجال، ينبغي أن يُعدل، إن كنا نريد الحد من الآثار السيئة التي جعلت العوام يلحقون بالمجانين، عند كلامهم في التوحيد بعقولهم المعاشية، وعند تصنيفهم للأمة بالنظر إليه. إن هذا لا يليق بدين وضعي يكون أهله من عقلاء الناس؛ فكيف بدين رباني مصدرا ومددا!... [كان أحدهم استفتاه في جماعة من الصوفية نظما، فأجابه نظما بتكفير الجميع.]: السؤال هنا هو: كم من واحد عمل بما في القصيدة قبل إلغائها؟... وكم من واحد ما زال يعمل بها رغم إلغائها؟... لأنه لا ينبغي أن نحكم على كل الناس بأنهم يقتدون بالشوكاني (وغيره)، كما يريد هو وعندما يريد فقط!... ولمَ يصير تكفير الصوفية مستسهلا هكذا في مجتمع مسلم، لولا عمى البصائر الذي صار سمة عامة لفقهاء آخر الزمان!... [وأورد القصيدة بتمامها في كتابه البدر الطالع ليشطب عليها ويلغيها ويتوب مما احتوته. قال: «وقد أوضحت في تلك الرسالة (رسالة منه أصحبها فتواه المنظومة) حال كل واحد من هؤلاء، وأوردت نصوص كتبهم، وبينت أقوال العلماء في شأنهم». قال: «وكان تحرير هذا الجواب في عنفوان الشباب. وأنا الآن أتوقف في حال هؤلاء، وأتبرأ من كل ما كان من أقوالهم وأفعالهم مخالفا لهذه الشريعة البيضاء الواضحة التي ليلها كنهارها». هكذا رجع من التورط في التعيين إلى التعميم الأسلم.]: واضح أن الأمر يتعلق بمدة من السنين، ما بين شباب المفتي وكهولته، ظلت فيها الفتوى عاملة، من دون أن يحد من أثرها أحد. وبمجرد أن خرج الشوكاني من التعيين إلى التعميم، جعل كاتبنا صفحته بيضاء وكأنه الملك المكلف بمحو السيئات، من دون أن يحسب لأثرها حسابا؛ وهو لا يعلم تعميم الكاتب نفسه، هل يكون مصيبا فيه، أم إنه يحتاج معه عشرات السنين مرة أخرى، ليعلم أنه كان فيه متحاملا جاهلا؟... أليس منهج الكاتب يدل على أنه ممن يعرفون الحق بالرجال، بعكس ما أخبر عن نفسه في فصول سابقة؟!... ثم لا بد أن نشير هنا إلى داء الفقهاء العضال، الذي هو "الحكم" على كل شيء وعلى كل أحد. مَن خولهم ذلك؟!... فبدل أن يدلوا الناس على ما ينفعهم على قدر الضرورة، صاروا أجهزة للكشف عن كل شيء يعرض لهم. يفعلون هذا أحيانا آليا ومن دون عقل، ومع تمام الغفلة عما يتعلق بهم في خصوص أنفسهم. فكأنهم -بهذا- يقولون للناس: أنتم وحدكم المكلفون، وأما نحن فمبلغون عن الله غير مكلفين!... ولا هذا يصح منهم ولا ذاك!... هذا كله من الأمراض والبدع التي طرأت على الأمة؛ وعلى من يريد الإصلاح أن يبدأ من هنا!... بإلجام الفقهاء عن الكلام في كل شيء، وكأن لهم العلم المحيط!... وحتى لو كان المرء من أعلم العلماء، فإن كلامه بكل ما يظن أنه يعلم، علامة على حمقه ليس غير!... فما القول عندما يكون الكلام من فقهاء ليس لهم من الفقه إلا الاسم، ويشرعون في تكفير هذا وتبديع ذاك، وكأن الأمر لعبة من أجل التسلية واللهو فحسب!... [قال: «ولم يتعبدني الله بتكفير من كان في ظاهر أمره من أهل الإسلام.]: هذه القاعدة، كان ينبغي أن يُلقّنها صبيان المسلمين؛ لا أن يتوقف فيها "العلماء" سنين ليعلموها!... [وهب أن المراد بما في كتبهم وما نقل عنهم من الكلمات المستنكرة المعنى الظاهر والمدلول العربي، وأنه قاض على قائله بالكفر البواح والضلال الصراح، فمن أين لنا أن قائله لم يتب عنه؟]: ما أسوأ حال الفقهاء!... يعدل الواحد منهم عن السؤال الأقرب، إلى السؤال الأبعد: كان ينبغي أن يسأل نفسه: وما أدراني، رغم معرفتي بظاهر الألفاظ، أن صاحب الكلام يقصد معنى يغيب عني!... هذا هو ما كان ينبغي أن يتنبه إليه، بما أن العقول من الناس متفاوتة، وأن العلم منهم ليس على درجة واحدة!... ألم يقل الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. فلمَ لا يقرّ الفقهاء بأن فوق علمهم علما، وهم من لم يرد النص باستثنائهم!... المسكين ينسى نفسه، وأنه يمكن أن يكون على جهل فيما يحكم، وينصرف إلى حال القائل، لعله تاب عن قوله وهو لا يعلم. أي عمى هذا!... والأشد عمى منه، هو من يأتي بعماه ويقدّمه على أنه اتساع بعد ضيق، وتوبة بعد تشدد!... [ونحن لو كنا في عصره بل في مصره، بل في منزله الذي يعالج فيه سكرات الموت لم يكن لنا إلى القطع بعدم التوبة سبيل، لأنها تقع من العبد بمجرد عقد القلب ما لم يغرغر بالموت. فكيف وبيننا وبينهم من السنين عدة مئين، (...)]: المسكين مشغول بأحوال الناس، ناسٍ لأحوال نفسه؛ وهو من قد يكون في حاجة إلى شفاعة من يحتقره، عند انكشاف الغطاء!... [وفي ذنوبنا التي أثقلت ظهورنا لقلوبنا أعظم شغلة. وطوبى لمن شغلته عيوبه.]: وصل إلى هذا الاستنتاج متأخرا. لهذا السبب كنا نجعل نحن نهاية الفقيه بداية المريد. الحال منهم يؤيد مقالتنا التي لم نصدر فيها -بحمد الله- إلا عن علم. [ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.]: وهل يستطيع الفقهاء العمل بهذه القاعدة؟!... [فالراحلة التي قد حملت ما لا تكاد تنوء به إذا وضع عليها زيادة عليه انقطع ظهرها وقعدت على الطريق قبل وصول المنزل. وبلا شك إن التوثب على ثلب أعراض المشكوك في إسلامهم، فضلا عن المقطوع بإسلامهم، جراءة غير محمودة. فربما كذب الظن، وبطل الحديث، وتقشعت سحائب الشكوك، وتجلت ظلمات الظنون، وطاحت الدقائق، وحقت الحقائق. وإن يوما يفر المرء من أبيه، ويشح بما معه من الحسنات على أحبابه وذويه، لحقيق بأن يحافظ فيه على الحسنات، ولا يدعها يوم القيامة نهبا بين قوم قد صاروا تحت أطباق الثرى قبل أن يخرج إلى هذا العالم بدهور. وهو غير محمود على ذلك ولا مأجور. فهذا ما لا يفعله بنفسه العاقل.]: ومتى كان مقلدة الفقهاء يُنسبون إلى العقل، حتى ننتظر منهم أعمال العقلاء!... [وأشد من ذلك أن ينثر جراب طاعاته، وينثل كنانة حسناته على أعدائه غير مشكور بل مقهور. وهكذا يفعل عند الحضور للحسنات بين يدي الجبار بالمغتابين والنمامين والهمازين اللمازين، فإنه قد علم بالضرورة الدينية أن مظلمة العرض كمظلمة المال والدم، ومجرد التفاوت في مقدار المظلمة لا يوجب عدم إنصاف ذلك الشيء المتفاوت أو بعضه بكونه مظلمة. فكل واحدة من هذه الثلاث مظلمة لآدمي، وكل مظلمة لآدمي لا تسقط إلا بعفوه. وما لم يعف عنه باق على فاعله حتى يوافي عرصات القيامة».]: هو يخوف نفسه، لعلها ترعوي وتكف عن أذى المسلمين؛ ولو كان عاقلا، لعلم نقصه من دون تخويف. ما ينتهي إليه هو هنا، من الرجال من لم يقع فيه قط منذ صباه!... ومع ذلك لا يرى لنفسه مزيّة على أحد!... [ثم يقول رحمه الله مخاطبا العقلاء الأشحاء على دينهم، المشفقين من لقاء ربهم، مناشدا عندهم خشية الموقف الرهيب الذي لا ريب فيه:]: كما سبق أن ذكرنا، فهذا ليس حال العقلاء، ولا الأشحة بالدين؛ وإنما هو من حال الطغاة الذين لولا خشيتهم للعقوبة، ما علموا لأنفسهم حدودا يقفون عندها، لضعف عقولهم وقوة حيوانيتهم!... [«فقل لي كيف يرجو من ظلم ميتا بثلب عرضه أن يعفو عنه؟ ومن ذاك الذي يعفو في هذا الموقف وهو أحوج ما كان إلى ما يقيه عن النار؟ وإذا التبس عليك هذا فانظر ما تجده من الطباع البشرية في هذه الدار، فإنه لو ألقي الواحد من هذا النوع الإنساني إلى نار من نيران هذه الدنيا وأمكنه أن يتقيها بأبيه أو أمه أو بابنه أو بحبيبه لفعل. فكيف بنار الآخرة التي ليست نار هذه الدنيا بالنسبة إليها شيئا. ومن هذه الحيثية قال بعض من نظر بعين الحقيقة: لو كنت مغتابا أحدا لاغتبت أبي وأمي، لأنهما أحق بحسناتي التي تؤخذ مني قسرا. وما أحسن هذا الكلام!»]: هذا كلام العوام، ولا يستحسنه إلا العوام؛ بل أشد العوام غلظة وكثافة!... [قال رحمه الله: «ولا ريب أن أشد أنواع الغيبة وأضرها وأشرها وأكثرها بلاء وعقابا ما بلغ منها إلى حد التكفير واللعن. فإنه قد صح أن تكفير المؤمن كفر، ولعنه راجع على فاعله، وسبابه فسق. وهذه عقوبة من جهة الله سبحانه. وأما من وقع له التكفير واللعن والسب فمظلمته باقية على ظهر المكفر واللاعن والساب. فانظر كيف صار المكفر كافرا واللاعن ملعونا والساب فاسقا، ولم يكن ذلك حد عقوبته، بل غريمه ينتظر بعرصات المحشر ليأخذ من حسناته، أو يضع عليه من سيئاته بمقدار تلك المظلمة. ومع ذلك فلابد من شيء غير ذلك، وهو العقوبة على مخالفة النهي، لأن الله قد نهى في كتابه وعلى لسان رسوله عن الغيبة بجميع أقسامها. ومخالفة النهي فعل محرم، وفاعل المحرم معاقب عليه».]: كيف يزعم الفقه من لا يعقل إلا مثل هذا الكلام، ويظن أن له به المزية على الناس!... ومتى كان الفقهاء يلتزمون بترك المحرمات ومعرفة الحرمات!... [انتهى كلام عالمنا الورع.]: عن أي ورع يتكلم الكاتب؟... هو يوزع الألقاب مجانا، ويظن أن ذلك يحق له!... ما كان أحوجه إلى الصمت، لو كان يعلم!... [ كتبه بعد أن استجمع عقله وإيمانه، وترك وصيته معلمة على طريق كل باحث عن سبيل النجاة بدينه.]: يتكلم عنه، وكأنه نطق بالحكم البليغة؛ وهو ما وصل إلا إلى ما كان ينبغي أن ينطلق منه بمجرد إسلامه!... أين الإيمان بعد هذا؟ وأين الإحسان!... [من كان لا يستحضر بيقين أهوال العرض على الله يوم توزن الأعمال بمثقال الذرة فهذا الكلام النير موجه لغيره.]: الأصح أن يقول: من كان لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فالكلام موجه إلى غيره؛ أما النور فهو للخواص. [ومن كان لا يستطيع أن يعرف الحق فيعرف بالحق الرجال ومقاديرهم ومرتبة قراراتهم ومنعطفات فكرهم وحياتهم فقد بسطنا له طرفا وجيزا من مواقف الرجال ليعتبر، وعساه يهتدي إلى الحق باقتفاء آثار من سبقوه بالإيمان، يفحص تلك الآثار ويقارن ويحكم. ذلك لمن كان فيه استعداد للبحث، وطلب للحق، ووحشة من الجهل، واستنكاف عن الهينة اللينة حياة التقليد والسطحية والرضى بالدنية.]: عرفنا الآن أن الأستاذ عبد السلام ياسين يدعو إلى الإسلام، مرتبة الإسلام: يدعو إليها من كان كافرا، يؤمن بالفلسفات ويكذب بالوحي؛ ويدعو أيضا من كان على تديّن تقليدي باهت، ليصحح إسلامه بأخذ أموره بجدية وحزم. هذا فحسب. وأما الإحسان الذي يتكلم عنه، فإنه لا يتجاوز المعنى اللغوي الذي يعلمه العوام، من غير زيادة. ولا غرابة فيما نقول هنا -وإن رجونا أن يكون الأمر على غير ما ذُكر- وقد نزل التديّن العام في معظم الأمة إلى أضعف الإسلام. وقد سمعنا "دعاة" آخرين من أبناء زماننا، فلم نجدهم يدعون إلا إلى ما يدعو إليه الأستاذ عبد السلام... [لماذا يخرج أمثال الغزالي عن الجاه العريض، والرياسة العلمية، ويترك الأهل والوطن ليلقى «متبوعا مقدما»؟]: لقد أخطأ الكاتب بذكره للغزالي في معرض حديثه عما يعلم هو من الدين، فالغزالي فوق ما يعلم الكاتب وفوق ما يدعو إليه. [لِمَ يزحف سلطان العلماء العز بن عبد السلام أمام المشايخ وهو الذي ترتعد منه فرائص الملوك ويجثو بين يديه الأمراء والكبراء؟ من هو السيوطي الذي يشيد الطريقة الشاذلية ويتتلمذ للصوفية؟]: لا شك الآن، أن التصوف الذي يتكلم عنه الأستاذ، هو تصوف مرتبة الإسلام، تصوف المتصوفة... ليس غير!... [تمر بين عيني القارئ السالي الفارغ الفؤاد راحة من طلب المعالي أمثولات الرجال فلا يتحرك فيه حس المنافسة ولا خشية أن يفوته الأمر الجلل الذي تزاحمت عليه الفحول، وتخاصمت، وتناظرت، وتسابقت.]: كلام مضخم أجوف، لا حقيقة له ولا معنى!... كنا نرجو أن يكون الكاتب عونا لأهل الحق في الدلالة على أول الطريق أو وسطه، إن لم يكن من أهل الدلالة العليا؛ فإذا به يخيّب ظننا، وينزل بالخطاب إلى ما لا أسفل منه في الدين. وينسب كل ذلك إلى الرجال!... ولا رجال في الحقيقة. مصيبة تنضاف إلى المصائب المتتالية التي تهتز على وقعها الأمة مرة بعد أخرى؛ وكأننا في ترف من أمرنا، ونحن من صارت رقابنا بأيدي أعدائنا عسكريا واقتصاديا وثقافيا... فإلى الله وحده المشتكى!... [فهل من همم عالية تسمع، وتهب، وتلتاع؟]: لم يعد لدينا ما نقوله، أمام هذا الإسفاف؛ مع استعمال كلمات كان ينبغي أن يكون لها وقعها في الأسماع... "همم"، "تهب"، "تلتاع"... تكاد اللغة تفقد قيمتها!... في نهاية فصل "الرجال"، نقرر جازمين أن الأستاذ عبد السلام ياسين ما عرف للرجولة معنى بمدلولها الشرعي، الذي يصير عليه من سلك الطريق إلى الله، وتحقق له بعد السير الوصول؛ وإن كان الناس يشهدون له بالرجولة العامة، التي تكون للسياسيين وغيرهم. كنا نود أن نخلص إلى غير هذه النتيجة، ولكننا لم نجد للأستاذ من شاهد يشهد له. ولا ينفع خلطه في أثناء الكلام بذكر بعض الرجال كالغزالي والشاذلي وابن عطاء الله، فهو لم يكن ليميّز بينهم وبين من ذكر من عوام الفقهاء؛ بل لعله يجعل الفقهاء لمكانتهم "العلمية" لديه، ولما خلّفوا من تصانيف، أعلى ممن هم عند الله رجال لا يحتاجون شهادة بذلك من أحد إلا منه سبحانه، وهو القائل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 23، 24]. ولنختم هذا الفصل ببعض ما يعود بنا إلى المعالي، انطلاقا من معاني هاتين الآيتين، واللتين كان حريا بالكاتب الانطلاق منهما في تعريفه للرجال؛ تعويضا منا، عن الجفاف الذي وسم جل الكلام، فكاد يذهب بمتعة الخوض في الدين؛ فنقول: . {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ}: من، للتبعيض. ومعنى الكلام أن الرجال بالاصطلاح القرآني، هم خواص المؤمنين وحدهم. . {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}: من إفراده بالعبودية، وحده؛ ومن عدم مزاحمته في شيء مما هو له سبحانه. . {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ}: بالوصول؛ لأن الواصل لا يصل إلا بعد فناء نفسه بالموت المعنوي. وهذا الموت يختلف عن الموت الحسي في مسألة البعث؛ لأن بعثه معه، وهو البقاء الملازم للفناء. أما الموت الحسي فالبعث يكون معه على التراخي، والحياة فيه لا تتجاوز الجانب الحيواني منه. . {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}: ومنهم من لا يزال سائرا على الطريق، ينتظر الوصول (يرجوه). . {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}: الواصل محال عليه التبديل، لأن الله قد تولى عنه جميع شأنه، وهو سبحانه لا يضيع لديه شيء؛ وأما السائر فهو قد انخرط في طلب الحق، فإما أن يصل إليه أو يهلك دونه. وإن كان هذا شأن أتباع الرجال من المريدين، فمن لنا بمن يعلم حقيقة المتبوعين من أئمة الطريق؟!... . {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ}: إن الله أكرم من أن يرد من طلبه بصدق؛ وهذه بشارة لكل من سلك الطريق بصدق بالوصول ولو بعد حين، في الدنيا أو في البرزخ أو في الآخرة. والصدق هنا هو العملة المتداولة، بين العبد وربه، فليُعلم له قدره!... . {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}: المنافقون هنا، هم من يتظاهرون بالسلوك وليسوا من أهله. فهؤلاء إما أن يعذبهم الله بنفاقهم، فيكون عذابهم جزاء على نفاقهم ذاته؛ وإما أن يتوب عليهم، كما يتوب سبحانه على سائر العوام من المؤمنين، فيلحقوا بمرتبتهم الأصلية من دون مؤاخذة. . {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}: وهذه التوبة على هذا الصنف، تكون من الغفور الذي يغفر نفاقهم، والرحيم الذي يراعي إيمانهم. هذا مما يليق بفهم الآيتين المذكورتين، في هذا السياق... [1] . أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. [2] .أخرجه أبو داود عن السيدة فاطمة عليها وعلى ذريتها السلام. [3] .الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد للشوكاني: 59-60. |