انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2019/02/23
إحسان الإحسان - 13 -
الآل والصحابة رضي الله عنهم يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: [بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾. أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما أخاف وأحذر.] [عقبات النفس والشيطان والدنيا والعقل، وفطم النفس عن الشهوات، واقتحام العقبات، هل كان للصحابة رضي الله عنهم علم بكل هذا؟ أم هل كانت مهماتهم الجهادية وبساطتهم وقربهم من الفطرة تسمح بالتفريع العلمي والتفصيل؟ أم كل هذا بدعة وحرام وكفر؟]: العقبة واحدة، والتعدد فيها يأتي من وجوهها لا من التكثر؛ وكلام الكاتب العام، لا يُسعف في الخروج من الالتباس. ولقد ذكرنا سابقا أن الصحابة رضي الله عنهم، عاشوا مرحلة إجمال الدين؛ وأن من جاؤوا بعدهم، يعيشون مراحل التفصيل. والإجمال يعطي الوحدة، والوحدة تتجلى في الإجماع وفي الاجتماع؛ بينما التفصيل يعطي الاختلاف والتنوع. غير أن كبار الصحابة كانوا على علم بالتفصيل في إجمالهم، كما هم كبار الورثة من بعدهم على علم بالإجمال في تفصيلهم. فالكبار، لا خلاف بينهم وإنما يختلف الذوق. وأما الصغار من المتأخرين، فإنهم ستتنازعهم الانتماءات، لاقتصار إدراكهم على ما هم عليه من الفرعية. وليس لهم مقابل في الصحابة، كما للأكابر منهم مقابل؛ لأن صغار الصحابة كانوا على إجمال لا على تفصيل. وهذا يعني أننا في هذا التقسيم، لم نعتبر الاجتهادات التفصيلية التي كان الصحابة ينبئون عنها، إذا كانوا بعيدين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لسبب من الأسباب؛ لأن هذا التفصيل منهم كان في حده الأدنى. وهذا بعينه، هو ما سماه الكاتب بساطة وقربا من الفطرة. وبعد التفصيل الذي بدأ جليا في عصر التدوين، والتوسع في تفريعه بعد القرون التي تلت، لا بد من عودة الأمة إلى إجمال يشابه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. وذلك لأن الإجمال شرط في اجتماع الأمة تحت راية الخلافة الخاتمة، من كونه سيلغي الافتراق الناشئ عن التمذهب بنوعيه: الفقهي والعقدي. وكما كان إجمال الصحابة ساترا للتفاصيل ضمنه، فكذلك سيغطي إجمال النهاية تفاصيل ما قبله؛ فتكون غائبة الحكم وإن بقيت ماثلة في نظر بعض أصحابها. [قال أحد أكابر الأمة وفرسانها المبرزين شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن التقليد وفيما يجوز: "لا ريب أن كثيرا من الناس يحتاج إلى تقليد العلماء في الأمور العارضة التي لا يستقل هو بمعرفتها. ومن سالكي طريق الإرادة والعبادة والتصوف من يجعل شيخهُ كذلك. بل قد يجعله كالمعصوم، ولا يتلقى سلوكه إلا عنه. ولا يتلقى عن الرسول سلوكه، مع أن تلقي السلوك عن الرسول أسهل من تلقي الفروع المتنازع عليها. فإن السلوك هو بالطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق. وهذا كله مبين في الكتاب والسنة. فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لابد للمؤمن منه".]: الأصح أن يُقال: قال أحد أكابر جهلاء الأمة وضلالها المبرزين!... وما أدرى ابن تيمية بالسلوك، وهو لا قدم له فيه؛ اللهم إلا إن كان المقصود سلوك القهقرى!... وإن حكم ابن تيمية على السلوك وأهله، من خارج المجال، هو ما يقع فيه الفقهاء باستمرار؛ وهو ما حذر الغزالي منه سابقا، وجعل فيه الفقيه متطفلا. فما بال صاحبنا يأتي بالنقيضين من رجلين على طرفي نقيض، من دون أن يشعر بأنه ملبوس عليه، وأنه فاقد للبوصلة الإيمانية. ولن نقول عنه بفقد النور، لأن ذلك مما لا يُحتاج إلى تقريره!... وقبل أن نتناول تفاصيل ما جاء في هذه الفقرة، لا بد أن نذكر أن الدين في صورته الأصلية، لا مجال فيه لتقليد أحد سوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن لما قصُر الناس عن التلقي عن النبوة، لم يستغنوا عن شيوخ في جميع المراتب الدينية: فالفقهاء لمرتبة الإسلام، وعوام الصوفية للإيمان، وخواص الصوفية للإحسان. وقد يتبع العبد شيخا واحدا في جميع المراتب، إن كان كاملا وجامعا للعلوم. ونعني من هذا، أن المتكلم في الدين عن تقليد واتباع، لا بد من أن يستحضر الصورة الأصلية، ليعلم حكم الصور الفرعية ويجعلها في موضعها، من دون أن يتجاوز بها حدها، كما نرى ذلك لجماعات ومذاهب وفرق مختلفة. والصورة الإجمالية التي تجمع الأصل والفرع، تعين الناظر في تبيّن الأمور ومعرفة مرتبتها، من دون إمكان ضلال بإذن الله. وأما تفريق ابن تيمية بين تلقي السلوك عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتلقيه عن الشيوخ (الربانيين لا غيرهم)، فهو من أثر شركه الذي يصدر عنه. وذلك لأن التلقي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هو عينه التلقي عن الشيوخ الورثة لدى المتأخرين؛ وإلا فإن التلقي المباشر الذي كان عليه الصحابة، ليس له نظير لدى المتأخرين كما هو جلي؛ وسيكون للدين عندئذ صورتان بالتبع لذلك، تجعل تدين المتأخرين مخالفا لتديّن الأولين. وهذا لا يصح، إلا ممن انقطع عن نور النبوة لدى الورثة، من أمثال ابن تيمية. نعني أن ابن تيمية وأمثاله، يقولون بصورتين للدين، من دون أن يشعروا؛ ومن دون أن يكون لذلك أثر في أحكامهم، ما داموا يُحاكمون المتأخرين إلى ما يحاكمون إليه الصحابة ذاته، ومن دون تمييز في التفاصيل. وهذا كله من القصور في العلم!... وابن تيمية من جهله بالسلوك، لا يفرق بينه وبين العمل العام بمقتضى الأمر والنهي في العبادات والمعاملات. وعلى هذا، فإن معنى السلوك لديه يكاد يكون موافقا لما هو عند العوام اليوم، ومما يوافق كلمة "behavior" لدى الأعاجم. وأما السلوك لدى الصوفية، فهو السير إلى الله بالقلب عند عمل الجوارح بالشريعة. وهذا السلوك ليس متاحا لكل أحد؛ وإنما هو مختص باستعدادات بعينها، خُلقت لله لا لغيره. يقول سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه: [لما خلق الله عز وجل الخلق، تسارعوا للوقوف في حضرته الخاصة؛ فقال لهم الله تعالى: من أنتم؟ وهو يعلم بهم؛ فقالوا: عبيدك يا رب ومحبوك!... فقال الله تعالى: انظروا ما تقولون، فإن العبد لا يصرفه عن سيده صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ قالوا: يا ربنا امتحنا بما شئت!... فخلق لهم الدنيا، ففر إليها تسعة أعشارهم، وبقي العشر؛ فقال تعالى للعشر: من أنتم؟ قالوا: عبيدك ومحبوك!... فقال: انظروا ما تقولون، فإن العبد لا يصرفه عن سيده صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ فقالوا: يا ربنا امتحنا بما شئت!... فخلق لهم الجنة، وزينها في أعينهم، فذهب إليها تسعة أعشارهم. ثم نظر الله إلى عشر العشر، فقال: من أنتم؟ قالوا: أحبابك!... فقال: انظروا ما تقولون، فإن المحب لا يصرفه صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ فقالوا: امتحنا بما شئت!... فضربهم بأنواع البلايا، فقطع أطرافهم، فثبتوا لذلك، وهو الذي ثبتهم. فقال تعالى: أنتم عبيدي حقا، لا إلى الدنيا ملتم، ولا إلى الجنة ذهبتم، ولا من البلايا فررتم. أنتم أهل حضرتي، رضيتم عني ورضيت عنكم.][1]. ولا ينحجب امرؤ عن هذا الكلام لأنه ليس حديثا نبويا، فالمعنى صحيح من غير شك. ونحن قد وجدنا الطريق هكذا، وهكذا ذقناه؛ ولولا مخافة الإطالة لذكرنا نبذا مما عشنا من ذلك يأنس بها المبتدئون... ولو حققنا النظر في أحوال الفقهاء مع ربهم، لوجدنا تسعة أعشارهم ذهبت إلى الدنيا بالدين، وبقي العشر؛ فذهب إلى الجنة، ولم يبق أحد. ولهذا السبب، نحن لا نقبل منهم كلاما فيما يجهلون من أحوال أهل الطريق. وأما إن قال قائل: فإن ابن تيمية قد أوذي وسجن حتى مات في السجن؛ فلعله يستحق أن يكون من الخواص الذين تحملوا بالله البلايا!... فإننا نقول: إن سجن ابن تيمية هو من قبيل سجن المجرمين المستحقين للعقوبة، لا من قبيل البلاء الذي ينزل على الأطهار من غير أن يقترفوا ذنبا!... والتفريق بين الأمرين ضروري، لمن أراد أن يسير على هدى!... ولقد غلط في هذا الإسلاميون من المتأخرين أيضا، عندما رأيناهم يحسبون ما يتعرضون له من السجن والتنكيل من جنس بلاء المقربين؛ وهم مستحقون له لمخالفتهم الأوامر الإلهية في معاملة الحكام والعامة من المسلمين. وهذا التحريف منهم للمعاني الدينية، وتنزيلها على غير وجهها من أحوالهم وشؤونهم، هو الأيديولوجيا التي ما فتئنا ننسبهم إليها. ووالله لو علموا حقيقة ما هم عليه من سوء، لتمنوا أن يُصرفوا عنه بالقوة من قِبل محبيهم وأوليائهم، قبل الحكام وأعوانهم. ولكن أين من يرى في دنياه، أفعاله بعين أخراه!... وأما الأخذ من الكتاب والسنة الذي يعيده ابن تيمية على أسماعنا مرارا، فهو من أدنى مرتبة وأدنى حظ. ولو علم ما يأخذ غيره منهما، لاستحيى أن يعُدّ نفسه من أهل العلم بهما، فضلا عن المجاهرة بذلك. وكل من يتوهم أن الأخذ من الوحي يكون فهما في اللغة والألفاظ على معتاد الناس في كل كلام، فما عرف الوحي بعد. ومتى كان كلام الله مساويا لكلام البشر، حتى يكون له وجه واحد في الدلالة؟!... أين التنزيه، يا من يزعمون أنهم منزهة!... وحتى نقرّب المعنى إلى القارئ نقول: لقد سبق أن ضرب الغزالي لتكليم الله لعباده مثلا (ولله المثل الأعلى)، بتكليم الناس لدوابهم بأصوات وحروف تُدرك معانيها على قدرها، من دون أن يكون لها إدراك لكلام البشر من الوجه الذي يُدركه البشر. ففي المغرب -مثلا- تعرف الدابة معنى "الرَّا"، فتفهم منه الأمر بالسير، وتسمع "الشَّا" فتفهم منه الأمر بالتوقف. كل هذا الخطاب، هو من مخلوق لمخلوق، مع اختلاف المرتبة (الجنس)؛ ويبقى كلام الله المخالف لكلام عباده من جل الوجوه، أبعد مما ذُكر هنا، بما لا يقارن. لكن هذا يصدق، ما دام العبد على حجابه وظلمته؛ وأما إذا صار ربانيا، فإنه سيعلم كلام الله بالله وقتئذ، لا بنفسه؛ وسيعلم بعض أسرار كلام الله، التي لا تخطر لأحد على بال. ونعني من بنائنا على مثال الغزالي، أن ابن تيمية وكل العلماء من أهل الحجاب، هم أبعد عن فهم الوحي من فهم الدابة لأصوات البشر!... نقول هذا، حتى يريح المنصف نفسه، من منافسة من لن يقوى على منافستهم ولو عاش أضعاف أضعاف أعمارهم، وتعلم من علوم الكسب كل ما يعلمه الثقلان!... [قال: "ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول.]: هذا القول ملتبس!... لأن الصحابة لم يكونوا يعلمون من القرآن إلا ما نزل؛ فهم كانوا مواكبين للنزول من جهة، ومن جهة أخرى لم يُكملوا القرآن جميعهم حتى بعد اكتمال النزول. وعلى هذا، فإن العلم بالكتاب لديهم رضي الله عنهم، ليس كما هو عند من جاءوا بعدهم!... ولم يكن علمهم بالسنة أيضا ليختلف عن علمهم بالكتاب، والسنة لم تُجمع إلا بعد قرون من زمانهم. والأصح أن يُقال: إن الصحابة سلكوا على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أول يوم لهم معه؛ فهو ممدهم وهو معلمهم ومزكيهم. ألم يُنزل الله فيهم (وهم أحق به): {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. نعني من هذا، أن الله لم يخبر عن الصحابة أنهم تزكوا بالكتاب والسنة كما يفهم من ذلك المتأخرون، وإنما بتزكية النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لكن ابن تيمية، وهو عدو الدلالة على مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعُدّ هذا من الشرك؛ لا لشيء، إلا لأنه مخالف لطريقته هو في التلقي. فإن قال قائل: فإن العمل بالكتاب والسنة، هو اتباع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وبهذا يرتفع الخلاف!... فنجيب فورا: كلا!... وإنما النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من يُعلمنا الكتاب والحكمة، ولسنا نحن من نتعلمهما من أنفسنا بالنظر في النصوص وحده!... وإلا، فلمَ ضل ابن تيمية وهو من أعلم الناس بنصوص الكتاب والسنة؟!... وهذه المسألة، هي لب الخلاف بين المهتدين من علماء الأمة، ومن هم على شاكلة ابن تيمية!... ومن لم يميّزها، فالأفضل له أن يبقى بعيدا عن مواطن الخلاف، وأن يتحرى المشترك ويعمل به؛ فإنه أسلم لأهل مرتبة الإسلام!... ولقد أساء الكاتب كثيرا، بإيراد قول ابن تيمية هذا، وهو يزعم أنه سيدل الناس على الإحسان؛ لأن طريق الإحسان بخلاف هذا على التمام!... [لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة.]: ما زال الكلام لابن تيمية؛ وأي عمى هو!... ومتى كان مع وجود الشمس للنجوم ظهور!... ونعني بالشمس النبوة، وبالنجوم الفقهاء. إن الناس لم يحتاجوا إلى الشيوخ، إلا بعد زمن التابعين كما سبق أن بيّنّا، عند انقطاع عموم الأمة عن نور النبوة. فما بال ابن تيمية، وهو من جاء في عصر الغفلة المطبقة، يقيس حال الصحابة على حال أهل زمانه. ولكن هذا الانتكاس لا يكون إلا من شأنه وشأن أمثاله!... فهي نيابة إبليسية لا بد لها من رجال، كما لا بد للخلافة الإلهية من رجال!... [ولم يحصل بين الصحابة نزاع في ذلك كما تنازعوا في بعض مسائل الفقه.]: الصحابة لم يتنازعوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم كانوا يعودون عن قريب بالتوجيه النبوي المباشر، ولأنهم كانوا على إجمال في جل شؤونهم، كما سبق أن ذكرنا. والتفريق من ابن تيمية بين علم الفقه وعلم السلوك هو من الجهل، لأن علم السلوك من أعلى مرتبة في الفقه؛ ونعني أن فقه السلوك في الحقيقة فقه عام جامع، لا يكون الفقه المعلوم إلا مرتبته الأولى فحسب. فإن قيل: فإن كان الأمر هكذا، فلم نجد شيوخا للصوفية ليسوا بفقهاء كما هو شأن الأميين منهم؟ فنقول: ليس الفقه هو كل معلومات الفقيه بالمعنى الاصطلاحي، وإنما هو القدر الضروري من العلم لإقامة العبادات الواجبة فحسب، بحسب الوقت والحال. وهذا لم يكن يفقده الأميون من السالكين، وإلا ما صح منهم الترقي إلى المراتب العليا من الدين من الأصل. فليُعتبر هذا، وليُعلم حتى تتضح الرؤية للدين ويتسق نسقه؛ فإن كثيرا من الدارسين يخرجون من العلم إلى الجهل، بفقدهم لهذه الحلقات الواصلة للأنساق فحسب. ونحن نعمل على الدوام -بحسب مستطاعنا- على تمكين الناس من الحلقات المفقودة، لعلمنا بأنهم سيتمكنون من مواصلة السير (العلمي) وحدهم بإذن الله. وسنُسرّ إذا ازداد الناس علما، ولو كان ذلك بعيدا عنا ومن غير انتساب إلينا؛ لأن مرادنا -بحمد الله- فوز الناس لا تكثير أعداد تلاميذنا. [(...) كثير من أهل العبادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يعرف به طريق الله ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ.]: ما زال الكلام لابن تيمية، وهو جهل محض؛ لأن العُبّاد ليسوا من أهل السلوك، ولا هم ممن يقلد الشيوخ؛ بل هم من العامة الذين يعملون بما علموا من العبادات المشروعة. فهم يكثرون من الصلاة ومن الصيام، ويقللون من الحركة والكلام؛ هذا حظهم من الدين. وهذا كله لا يُحتاج فيه إلى شيخ، إلا إن كان الشيخ فقيها من الفقهاء، وكانت الحاجة مما يتعلق بالعبادات المذكورة. وجعلُ العلم النبوي من ابن تيمية في مقابلة عبادة العباد، هو من الجهل أيضا؛ لأن العلم النبوي يغطي جميع مناطات التشريع، بدءا من مرتبة الإسلام التي يكون العبّاد منها إلى جانب الفقهاء، وانتهاء بما هو فوق الإحسان من العلم اللدني المجهول للخاص والعام. وما وقع ابن تيمية في هذا التسطيح المخل، إلا لجهله بمرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فهو لا يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا كحال نفسه مع العامة من الناس. وهذا حرمه الاهتداء بنور النبوة، وإن كان من جهة الظاهر حاملا لنصوص الوحي. وابن تيمية على هذا، من أظهر نماذج الحاملين لا العالمين. وقد نبه الله في قرآنه كثيرا إلى مسألة التفريق بين الصنفين، لئلا يغتر أهل الظاهر بالصورة الظاهرة وحدها... [وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، كلها منصوصة في الكتاب والسنة.]: مثل ابن تيمية هنا، كمثل رجل جيء له بسيارة وطُلب منه أن يسوقها، فقال: الأمر سهل، فإن كل ما يتعلق بالسواقة موجود في كتاب تعليم السواقة!... وجلس؛ وكأن السواقة ستخرج من كتابها وتأتيه من دون أن يتعلمها على أيدي خبراء بها، يعلمون منها ما لا يعلمه سواهم!... فهل نحن بصدد بحث مسألة وجود مسائل السلوك في الوحي، أم بصدد التمكن من السلوك ذاته؟!... وأما جعله مسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، فهو يدل على جهله بالاثنين؛ وإن كنا نعده نحن في بعض مقولاته من المتكلمين، بسبب إعماله لعقله في غير مجاله. نقول هذا، لأن مسائل السلوك ومسائل العقائد جميعا، يتضمنها الوحي من غير شك؛ لكنها لا تُعلم بمجرد النظر فيه بالعقل (التصور). هذا هو الفرق بيننا وبين غيرنا فيما ذُكر. ولو ذكرنا في علمي السلوك والعقائد بعض ما يدل عليه الوحي، لكفّرَنا الخواص قبل العوام، لبُعد ذلك عن تصوراتهم المختلقة. فلا يزايد أحد بالكتاب والسنة، على أهل علمهما وأئمته؛ فهم -بحمد الله- أولى الناس بهما، وإن كان شأنهم الخمول!... ولعل بعض الناس يظنون أن العالم بالله إذا هو أظهر بعض علومه، كما فعل الشيخ الأكبر رضي الله عنه -مثلا- يكون قد خرج عن صفة الخمول إلى الظهور؛ بحيث لا يصح هذا الخمول إلا ممن كان مجهولا على التمام؛ وهذا غير صحيح، لأن العالم بالله ما أظهر إلا بعض ما يُمكن إظهاره، ويبقى ما سكت عنه من العلم أكثر بكثير مما أظهر. وبهذا، فإنه سيبقى خاملا وإن تكلم وظهر بالعلم بين الناس؛ وهذا من أعجب أحوال كبار الأولياء. ولا ندري هل سبقنا أحد بإظهار حالهم هذا، أم لا... [وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة. فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف.]: كلا!... وإنما اختلف أهل الكلام عندما نظروا في الوحي بعقولهم، ولم يعودوا فيه إلى ربهم. والبدعة التي وقع فيها المتكلمون، هي عينها التي دخل فيها ابن تيمية، وإن كان لا يشعر. وإن ما يراه هو كتابا وسنة، ويقبله العامة منه بالتسليم، إنما هو في كثير من الأحيان فهمه فيهما لا عينهما. وما مثل ابن تيمية مع المتكلمين في النهاية، إلا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ!»[2]. [وهكذا طريق العبادة، عامة ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع.]: لا اختلاف في طريق العبادة، إلا ما يكون من اختلاف أقوال الفقهاء؛ وهي لا تُعتبر اختلافا بالمعنى المذموم، وإنما هي تفصيل في الشريعة فحسب. ولا يَعُد اختلافَ المذاهب الفقهية اختلافا بالمعنى التام، إلا الجهلاءُ الذين تركبهم العصبية من دون أن يكون لهم نور في عبادتهم. والطريق المشروع، يسع المسلمين كلهم، من أدناهم إلى أعلاهم، بشرط عدم إدخال شيء على المرتبة، وهو ليس منها. هذا فحسب!... وهذا الغلط في التوصيف، هو ما أوقع ابن تيمية في إخراج كثير من المسلمين عن الإسلام. نعني أنه -لجهله- لا يرى الإسلام (الدين) إلا ما هو عليه هو وحده. وكفى بهذا سوءا لو كان يعلم!... [(...) والصحابة (...) لم يتنازعوا في العقائد ولا في الطريق إلى الله التي يعبر بها الرجل من أولياء الله الأبرار المقربين".]: لعل العبارة كانت: "يصير بها الرجل من أولياء الله"، ووقع فيها تصحيف... لم يتنازع الصحابة رضي الله عنهم في العقائد، لأنهم كانوا يعلمون أنها ليست موضوعا للكلام؛ وإنما هي مما يُكشف للعبد من جهة باطنه عند ارتحاله بالسلوك إلى ربه. ومرة أخرى نقول: لا ينبغي قياس الصحابة على المتأخرين، وإنما قياس المتأخرين على الصحابة. ولكنه الانتكاس، يحكم ويُنتج!... ثم من أين لابن تيمية بمعرفة طريق الولاية، وهو ليس وليا؟!... العمي من أتباعه (والكاتب معهم) يرونه وليا؛ لأنهم انتكسوا كما انتكس، وأصبحوا يصلون إلى المعكوس من النتائج كما أسّس. وصدق الله إذ يقول في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.»[3]. نعني أن من عمل وفق الأمر، جاءت وارداته مستقيمة؛ وهؤلاء هم أهل الخير. ومن عمل على الانتكاس، جاءت وارداته معكوسة؛ وهؤلاء هم أهل الغير الذين لا يلومون إلا أنفسهم. وابن تيمية منهم، وعبد السلام ياسين منهم وإن لم يبلغ الأول في السوء. [حصل من كلام شيخ الإسلام أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعرفون السلوك إلى الله في الطريق التي يصير بها الرجل وليا من أولياء الله الأبرار المقربين، وأنهم ما تنازعوا في ذلك، وأنهم تلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاغا قرآنيا وبيانا سنيا. ولم يتعرض شيخ الإسلام رحمه الله إلى عقدة الأمر كله في السلوك، ألا وهو الرابطة القلبية، رابطة المحبة والتفاني في الولاء لشخص الرسول الكريم على الله.]: ما يسميه الكاتب هنا الرابطة القلبية، هو ما سميناه نحن من حيث أساسها "المدد"؛ فالصحابة كانت قلوبهم متوجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا التوجه كان يحصل لهم الاستمداد الذي هو سبب ترقيهم وسبب وُجودهم للقوة اللازمة لقطع مراحل الطريق. ذلك لأن العبد لا يقوى على السير إلا بقوة من عند الله، تأتيه بواسطة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. غير هذا لا يكون!... وابن تيمية يجهل وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رغم نصّ القرآن عليها، لأنه لم يسلك الطريق ولم يتقرب؛ بل اكتفى بالنظر؛ وما هو عليه يسمى أيديولوجيا لا إيمانا. وهذا الفُصام الديني، قد أصاب بعضا ممن قبله لم يبلغوه في الانسلاخ عن جوهر الدين، وأصاب كثيرين بعده ظنوا أنه أعلم الناس بالدين؛ وما زال التيار التيمي المقطوع عن المدد النبوي يتسع في الأمة، لا يشعر بعظم ضرره إلا من كان من أهل النور. ونحن لا نرى موجة الإلحاد التي تصيب أجيالا من الشباب بكاملها، إلا نتيجة لهذا التيار الهدام؛ لأن التنكّر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يلبث أن يتولد عنه كفر بالله ذاته سبحانه، ولو بعد حين. وبما أن ابن تيمية، قد علم له الكاتب قصوره عن إدراك معاني الدين كما هي في حقيقتها، وانتهى إلى الإقرار بذلك أخيرا، فإننا نتساءل: لمَ يبقى مصرا على تلقيبه بـ"شيخ الإسلام"؟!... وعن أي إسلام هو الكلام إذاً!... ولمَ يرى نفسه مضطرا للإتيان بكلامه، وإهمال كلام الكُمّل الذين لا يُعوزنا وجودهم؛ لو لم يكن الباعث إرضاء لأتباعه من أجل استجلابهم إلى العمل الحركي السياسي بما يُناسبهم من وسائل. [لنا إن شاء الله رجوع لموضوع المحبة، وما سموا صحابة إلا لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فضلوا الأمة إلا بها، ولا نالوا الدرجات العلى. وليست الصحبة تطبيقا مجردا للنصوص وامتثالا جافا عسكريا للأوامر، إنما هي محبة تثبت وترسخ وتنمو وتتجذر في القلوب بالملازمة والمخالطة والمعايشة والتلمذة حتى يملك حب المصحوب على الصاحب كيانه كله.]: أما محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبة المؤمنين، فهي واجبة بالأمر الشرعي. يقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. وقد يقول قائل من التيميين: إن محبة الله هي عينها محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ بمعنى أن الأولى متضمنة للثانية، فلا داعي إلى التركيز على الثانية، لأنها قد تعود شركا، إن لم تُضبط!... فنقول: إن معرفة الله ومحبته، خارج المظهر النبوي ليست إلا من التجريد العقلي، الذي هو من التفلسف لا من الدين. ذلك لأن الله مطلق، والمطلق لا تتعلق به المحبة من كونها إدراكا، إلا إن كان الانطلاق فيها من مظهر مقيّد، وليس إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكل من يتوهم التعلق بالله، خارج المظهر النبوي، فإنه يروم أمرا لا يتم له أبدا. وهذا كله، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة حقيقته (العقل الأول) هو الواسطة الوجودية بين الله وجميع خلقه. وطريق الصدور، هو طريق الورود عينه، لمن كان ذا لب. وهذا من مدلولات التوحيد الشرعي، الذي هو مخالف للتوحيد العقلي الوضعي الذي يكون عليه التيميون!... وعلى هذا، فإن محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا تأتي إلا بكل خير؛ وهي الوسيلة المذكورة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]. والوسيلة هي الموصلة إلى القرب المشار إليه في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186]؛ يعني من كونه سبحانه معامِلهم من وراء المظهر النبوي عينه؛ {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]. وهذه المعاني التي نذكرها هنا، هي ما يُعوز إدراكه ابن تيمية ومن تابعه، من أهل الشرك المسمى توحيدا. وأما محبة الشيخ، فلا تثمر ما تثمره محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا إن كان فانيا (لا وجود له حكما)؛ وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مواجه المريدين من وراء مظهره. وهذا الصنف من الشيوخ، هم الربانيون من دون كل الشيوخ. والشيخ غير الرباني، محبته قد تضر ولا تنفع؛ لأنها ستجلب للمحِب مددا مما في قلبه هو؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح كما يُقال. فإن كان الشيخ على شرك استمد تلاميذه الشرك؛ وإن كان على هوى استمدوا الهوى؛ وإن كان على فسق أو غفلة استمدوا ذلك منه. لهذا السبب، كانت مسألة التشيّخ على الناس من أخطر ما يعرض لهم؛ فإما إلى قرب بها، وإما إلى بعد وهلاك. ولقد حصل لبعض تلاميذنا -بحمد الله- أن شاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول له: "أنا شيخكم!". فلما أُخبرت بذلك فرحت كثيرا بنفي مظهري، وبمجاوزته حكما؛ وعلمت أنه لا مرتبة في التشيّخ فوق هذه. فالحمد لله حمدا كثيرا على ما وهب، والشكر له على ما به امتن!... [وحصل من كلام شيخ الإسلام أن تقليد المشايخ في الإرادة والسلوك ذلك التقليدَ الغاليَ يحجب عن السالك بيان الكتاب والسنة، ويحول بينه وبين النبوة. هنا تكمن قوة ابن تيمية رحمه الله. تكمن في دفاعه عن النبوة وإبراز خصائص عصره المتأخر الذي ساد فيه التقليد كل فروع العلم، حيث تجمد الفقهاء، وتخبط المتكلمون، وابتدع المتصوفة.]: هذا عمى وأي عمى!... ابن تيمية، وإن كان أهل عصره قد ابتعدوا كثيرا عن الإمامة الدينية الحق بالنظر إلى العموم، فإنه لم يكن يعدم شيخا ربانيا يهتدي به، لو كان على السنة يعمل. وأما ما توهمه الكاتب (وغيره) من دفاع ابن تيمية عن النبوة، فهو بالعكس من ذلك قطع للناس عنها، باعتبار ما ذكرنا آنفا من المعاني القرآنية الدالة على المظهر الرباني. وإكساء الضلال بما ظاهره هدى، هو ما أسميناه تدليسا في السابق؛ لكنه لا ينطلي إلا على من فقد الإبصار من المؤمنين؛ وأما من كان من أهل النور -وإن كان أميا- فإنه سيكشف ابن تيمية من أول حركة!... ونحن لا نقول كما قال الكاتب: "هنا تكمن قوة ابن تيمية"، وإنما نقول: "بهذا ظهر ضلال ابن تيمية!"؛ حتى لا نقول أكثر من ذلك!... وبهذا ظهر أن الأستاذ عبد السلام ليس مؤهلا لهداية الناس، وهو يرى الضلال هداية؛ ولقد كان الأولى به الاشتغال بنفسه وتخليصها من هذه الظلمة التي تجعله يقع فريسة للتلبيس. ولسنا هنا ندعو في المقابل، إلى قبول كل كلام المتصوفة؛ لأننا لا نبغي استبدال ضلال بضلال. ولقد سمعنا من كلام المتصوفة ما هو حقا من الحمق ومن الجهالة المنكرة؛ خصوصا عندما يجترئون على التوحيد الخاص، ويتكلمون فيه بما لا يقبله عقل ولا شرع. بل ندعو إلى الصدق في سلوك الطريق من غير تنطع، وإلى عدم الكلام فيما لا يُعلم، وإلى العمل بما هو متيقَّن من السنة؛ وإلى صحبة الربانيين إن وُجدوا... فإن لم يُعرف لهم طريق، فليُعمل بأعمال الإسلام المعلومة من دون دخول في مجال العقائد بغير عُدّة. والله يهدي إليه من صدق في طلب الهداية من عباده!... وأما ما ذكره الكاتب عن جمود الفقهاء وتخبط المتكلمين وابتداع المتصوفة، فهو صحيح لا مجال لإنكاره؛ وقد صار أمره يشتد ويتفاقم مع مرور السنين كما هو مشاهد. لكن المخرج ليس هذا الخلط من الكاتب، ومن ابن تيمية قبله؛ فليس كل من ذم شيئا يكون قد خرج عنه. الأمر يحتاج إلى تثبت وتحقق، وإلى براهين بها يُشهد للمرء أنه ليس من الجامدين ولا من المتخبطين ولا من المبتدعة. ومن أجل الخروج من هذه الوهدة التاريخية المستمرة فينا منذ القرون الأولى، نحن ندعو لعودة الفقهاء والمتكلمين والمتصوفة جميعا إلى نور النبوة، عبر المدد المأخوذ عن الربانيين الورثة، ليتمكن الفقهاء من فحص مقولاتهم على نور، وليتمكن المتكلمون من تنقية كلامهم مما لا يليق بالله ورسوله، وليتمكن المتصوفة من الاهتداء إلى الماء وترك السراب. [فكر ابن تيمية في عصره لم يلق ولا معشارَ ما يلقاه في عصرنا من إقبَال. في عصره الغارق في التقليد كان صوتاً غريبا، أما في عصرنا، ومنذ قرنين وَنيف، فمذهبه في التعلق المباشر بالنصوص، لا يقبل أن يحجب الناس عنها حاجب، يجد صدًى متزايدا.]: هذه شهادة من الكاتب، بعمى نفسه!... ذلك لأن أهل زمن ابن تيمية، ورغم ما ينسبهم إليه الكاتب من تقليد، كانوا ما زالوا على نور. ويكفي هنا، إيراد قول تقي الدين السبكي (وهو من المعاصرين) في ابن تيمية: [أما بعد، فإنه لمـّا أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستترا بتبعية الكتاب و السُّنة، مظهرا أنه داع ٍ إلى الحقّ هاد ٍ إلى الجنة، فخرج عن الاتّباع إلى الابتداع، وشذَّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسميّة والتركيب في الذات المقدّس، وأن الافتقار إلى الجزء (أي افتقار الله إلى الجزء) ليس بمحال، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وأن القرآن مُحدَث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قِدَم العالم، والتزامه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقال بحوادثٍ لا أول لها ، فأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديما، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نِحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين التي افترقت عليها الأمة، ولا وقفت به مع أمة من الأمم هِمّة، وكل ذلك وإن كان كفرا شنيعا مما تَقِلَّ جملته بالنسبة لما أحدث في الفروع.][4]. ونعود ونقول: إن انتشار مذهب ابن تيمية عند المتأخرين، لا يدل إلا على ازدياد منسوب الظلمة في قلوب المسلمين، بعد أن خالطها كفر الكافرين من المستعمرين الذي روج له المستشرقون والمنصّرون. ومما لا يختلف عليه اثنان، أن الأمة كلما ازدادت بعدا (زمنيا) عن نور النبوة، كانت أشد انحرافا عن الصراط المستقيم في عمومها؛ باستثناء من يتصلون بنور النبوة كما ذكرنا، بواسطة الورثة من أهل زمانهم، والذين جعلهم الله لها منارات يعتصم بها الموفقون من الضلالات المحدثة والشبهات الدخيلة. لكن الكاتب، بكلامه المعكوس عن ابن تيمية، يوهمنا بأن زمان ابن عبد الوهاب ومتأخرة التيميين، أشد نورا وهداية من زمان ابن تيمية ذاته؛ من دون أن يعلل هذا التنور المبهم، الذي لا حقيقة له إلا في وهمه. ثم، ألم يكن الكاتب إلى عهد قريب، يكلمنا عن رابطة المحبة، وعن وجوب اتخاذ الشيخ من أجل تحصيل بركة العلم، كما نبه الشاطبي من خارج المجال التربوي!... فأين سيذهب القارئ بكل هذا، وهو الآن يُدعى إلى الأخذ المباشر عن الكتاب والسنة، كما يدعو إلى ذلك ابن تيمية!... ألا تكون دلالة ابن تيمية وتزكية عبد السلام ياسين، ناشئتين عن إساءة الظن بأئمة المسلمين من كل زمن فحسب، زيادة على الخلط وعدم الضبط اللذين يدل عليهما اضطراب الأقوال!... وكيف يتجاسران، وقد دل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإمامة في الدين التي لا يخلو منها زمان، في كثير من الأحاديث!... ويكفي أن نذكر هنا منها، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرسل الذي مر بنا: «يَرِثُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ؛ يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ.»[5]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.»[6]. فهل بقي مع شمول الهداية المحمدية لكل الأزمنة، عبر المظاهر العدول والمجددين، حاجة إلى "فكر" ابن تيمية وغيره؟!... ولقد أحسن الكاتب من حيث لا يدري، عند ذكره لعبارة "فكر ابن تيمية"؛ حتى يدل على ما هو منه، لا من الله ورسوله!... [شهد معاصرو ابن تيمية أنه لم يكن له شيخ في السلوك، ونسبوا صلابته وخشونته في الخصام إلى أنه لم يتأدب بشيخ عارف. وفي النص الذي أمامنا ما يؤيد هذه الشهادة، فالسلوك عنده تلق للبلاغ والبيان، ولا شيء غير هذا.]: إن كان هذا الذي شهد به معاصرو ابن تيمية، مما يقدح فيه، ومما يقعد به عن الإمامة في الدين؛ فلمَ قال عنه الكاتب سابقا: "أحد أكابر الأمة وفرسانها المبرزين شيخ الإسلام..."؟!... أليس هذا منه اضطرابا جليا وترددا منبئا عن عدم وضوح في الرؤية!... ثم لا بد هنا أن نعود إلى التذكير بأن الناس فسطاطان: أهل الإيمان وأهل الكفران. وقد يختلط بهذا الفسطاط من هم من ذاك؛ والعكس. ونعني من هذا، أن أهل الدين قد يكون منهم أئمة هدى يعودون بالناس إلى الجادة، وقد يكون منهم من يذهب بهم بعيدا عنها. والأمر في هذا ليس منوطا بالاشتراك في الزمان أو في المكان أو القومية أو غير ذلك؛ وإنما هو منوط بصنف المدد وبمحل أخذه. ولقد مررنا في الفصل السابق بقول الله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]؛ ولنذكر هنا ما يقع به التمايز بين الفريقين: فأما فريق الهداية، فيقع له المدد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وأما فريق الضلال، فيقع له من الشيطان لعنه الله. وقد يكون بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المستمد واسطة من أئمة الهدى، كما قد يكون بين الشيطان والمستمد واسطة من أئمة الضلال. وبما أن التمايز التام بين الفريقين لن يقع إلا في الآخرة، عند دخول أحدهما الجنة ودخول الآخر النار؛ فإن أهل الدين لن يعدموا من بينهم أئمة للضلال، كما لن يعدم أهل الكفر من بينهم دعاة إلى الخير. وفي مثل هؤلاء المخالفين لمن حولهم يقول الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60]؛ ويقول سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ . يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113، 114]. والمعنى أن هؤلاء من أهل الكتاب بحسب الموطن والثقافة والانتماء؛ ولكنهم على الإسلام من غير أن يعلم بهم أهلهم ولا أن يعلم بهم المسلمون. وهذا الذي نقوله، من الأسرار التي لا يعلمها إلا الأولياء. وابن تيمية وإن كان من فريق أهل الهداية، إلا أن استمداده ليس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل من الشيطان. لذلك فإن من اتبعه يوشك أن يخرج عن الصراط المستقيم اليوم أو غدا... ولا يغتر أحد بما يبقى على ظاهر التيميين من عبادة الجوارح، فإنها لا تغني عند فساد القلب بوقوعه تحت حكم الظلمة. ألم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.»[7]. ومعنى فساد الجسد هنا، هو عدم اعتبار الطاعات وإن وُجدت، عند فساد القلب بسيئ الإمدادات. ومما يزكي هذا الفهم، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر رضي الله عنه، عن عبد الله بن ذي الخويصرة: «دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ؛ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.»[8]. فالأمر ليس ظاهرا من غير باطن، كما يزعم التيميون، وكما سمعناهم يقولون!... وعلى هذا، فإن المسألة أكبر من كونها عدم تأدب بشيخ... هي استمداد من شيخ مقابل، شيخ شيطاني ينفث سمه بين المؤمنين. ولقد أهلك ابن تيمية من الناس، ما لا تبلغه الجيوش ذات العدد والعدة؛ وما يزال يُهلك، إلى أن يفضحه الله لعموم المسلمين، وينصرفوا عنه انصرافهم عن الشر المتيقَّن. [ومن صحبوا المشايخ العارفين بالله أئمة التربية يعلمون بالممارسة أن الشيخ المربي حقا هو قبل كل شيء "من ينهض بك حاله"، أي الذي ترفعك محبته وصحبته رفعا قلبيا، تَسْتَفُّ روحانيته روحانيتك ولو لم يتكلم، وتحتضنها، وترقيها، وتهذبها، وتبث فيها حب الله وحب رسوله، ذلك الحب الذي يسود القلوب المنورة، قلوب العلماء بالله الغارقين في حضرة الله.]: هذا الكلام عام، يخصصه ما ذكرنا نحن آنفا من شروط الشيخ الرباني. وكم أضل شيوخ المتصوفة من خلق بهذا التعميم، الذي لا سند له من الله ورسوله. ولنُذكّر هنا في عجالة، بأساس الأمر وما يكون العمل عليه: 1. لا بد للسالك من شيخ يسترشد به، يكون قد فرغ من نفسه، وسبق له أن قطع الطريق كله وتحقق له الوصول؛ لأن غير الواصل لا أهلية له، حتى يدل غيره على ما ينفعهم وهو على مثل ما هم عليه من النقصان. 2. لا بد للسالك أن يعلم أن شيخه الرباني وجه من وجوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لينتفي عنه أصل الشرك، وليصح منه التوجه؛ لأن التوجه في الحقيقة لا يكون إلا إلى وجه الله، الذي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. 3. لا بد من أجل تحصيل المدد النوراني، من قطع للمدد الظلماني؛ ولا يكون هذا إلا بقدر من العزلة، يعمد فيها المريد إلى الإكثار من الذكر الذي يأخذه عن شيخه. ومما يُقطع به المدد الظلماني، اجتناب أمثال ابن تيمية، وأمثال الأستاذ عبد السلام، من الذين يخلطون. والخالط لا يأمن معه المرء على نفسه، كما لا يأمن المريض مع الطبيب غير الحاذق، إن هو لم يُحسن تركيب الدواء وسعى في إهلاكه، ولو من غير قصد. لهذا كنا نقول دائما: لا تكفي نية الإصلاح هنا، بل لا بد من علم صحيح يقيني عبّر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند وصفه للطريق بقوله: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ.»[9]. وهذا بخلاف قوم يظنون أن الدين مبني على ما هو غامض، أو ما لا يستطيع أحد تبيُّنه!... [صحبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفعتهم، حاله استَفَّهُم ونوَّرهم قبل مقاله.]: طريقة تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وطريقة تزكيته للصحابة، هي الأصل الذي لا كلام فيه؛ لكن إلحاق الشيوخ الذين هم فروع الدلالة النبوية، لا يكون إلا بشروط نذكّر بها دائما، حتى لا يتلاعب بالناس المتلاعبون. ولقد دل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفرقة الناجية من أمته، وأوضح صفتها في قوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي.»[10]. والمقصود من هذه العبارة، هو كون إمام الجماعة مظهرا نبويا دالا على الله، وكون المأمومين من الجماعة على صفة الصحابة في التوجه والتصديق والتسليم. وبغير هذه المعاني، تنتفي صفة الجماعة (بالمعنى الشرعي)، عن كل جماعة وإن كانت جماعة المسلمين اليوم. وهذا من جهة الظاهر وحده، لأن صفة الجماعة ثابتة من جهة الغيب دائما، والحمد لله. وهذا من أخطر ما يُستفاد من السنة، والناس عنه غافلون، أو يفهمونه على غير وجهه. [فإذا نزلت القضية إلى رُسوم وطقوس وتَعاليم قولية أصبح التصوف تَقليدا باردا، والتقليد حاجزا سميكا، والحجز بدعة وضلالة. وكل ذلك انتقده ابن تيمية انتقادا شديدا.]: هذا تناقض شديد من الكاتب: فكيف يكون ابن تيمية على فكر في الكتاب والسنة، ويكون غير سالك بالمعنى الشرعي، ومع ذلك يكون منتقدا لما هم عليه المتصوفة من قصور!... وكأن الكاتب يريد إثبات إمامة ابن تيمية على الجميع، من غير إلزامه بسلوك الطريق كغيره. وهذا لعمري من الهذيان الذي لا يمكن أن يُنسب صاحبه إلى العلم بحال!... ولو عملنا بهذا الأصل الفاسد، لجعلنا بعض الكافرين من أهدى الناس، لمجرد انتقادهم لما هم عليه المسلمون من فساد في بعض نواحي عيشهم!... فهل يقول بهذا عاقل!... [امتاز الصحابة رضي الله عنهم بتعلقهم الشديد بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم. لم يكن عندهم ولا عند كل تقي أوّاهٍ من هذه الأمة مجرد مبلغ أدى رسالته ومضى، بل كان رسول الله. كان الشخص الذي اصطفاه الله. القرآن رسالته والبيان بيانه. تسمو بهم المحبة العميقة للشخص المكرم عند الله، ويسمو بهم القرآن، ويرفعهم البيان إلى ذُرى الإحسان. السلوك القلبي منجذب بمغناطيسية الروح الشريفة، والعقل يتغذى بالآيات البينات، والجوارح تنضبط بأوامر الشارع الحاضر بين ظهراني البشر. عزفوا عن الدنيا ومغرياتها الدنيئة لما اتصلت هممهم الطالبة الراغبة بتلك الهمة السماوية، وأحبوا ذلك الجناب العالي فارتقوا عن السفساف، وحنّوا إلى الله، واشتاقوا للقاه، واتّقدت في قلوبهم محبة الله. حرصهم على مرضاة من أرسل الرسول هو الذي حل عَقد نفوسهم حتى ترَوضوا علـى الطاعة، وزكت منهم الأخلاق، واسترخصوا نفوسهم وأموالهم في جنب الله. حبهم للرسول الكريم الذي أسمع فطرتهم وأيقظ إرادتهم هو المحرك لا مجرد الاتباع لزعيم آمِرٍ ناه. في أحضان النبوة تربوا، ومنها رشفوا واسْتَقَوا حتى تفجرت في قلوبهم ينابيع الإيمان وكانوا أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما. بالحب تربى الصحابة لا بالخضوع لسلطة حاكمة.]: كما هي العادة: كلام يحوم حول المعنى، من دون أن يصيب كبده!... وهذا، لأن الكاتب لا علم له بما يخوض فيه؛ وإنما هو ممن تشابه الأمر عليهم، وسارعوا إلى الوصف قبل تحقق التملي. كان عليه أن يعلم أن المظهر النبوي هو وجه الله المذكور في قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، وقوله سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]. فهو صلى الله عليه وآله وسلم الوجه، وهم المتوجهون إليه. ونعني من هذا، أن لا وجه من غير مواجهة وتوجه، كما لا توجه إلى غير الوجه. هذا هو المعنى الذي تقوم عليه الجماعة بالمعنى الشرعي، لا غيره؛ وهو مما يليق بأهل مرتبة الإحسان حقيقة. ولقد كان الصحابة (خواصهم)، يُدركون هذا المعنى، من إدراكهم للخطاب العربي وحده؛ لكن من مرتبة الإحسان، لا من غيرها. فلما جاء أناس ينظرون بعقولهم في الوحي، أنكروا هذا المعنى من باب تنزيه الحق التنزيه البدعي الوضعي. ولمثل هؤلاء المنزهين يقول الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]؛ لأن التسبيح (التنزيه) ينبغي أن يكون موافقا لتنزيه الله لنفسه وحده. وأما ابن تيمية، فإنه يعد معاني الوحي التي كان عليها خواص الصحابة وخواص الأمة ممن أتى بعدهم، شركا وكفرا، يُستتاب صاحبهما وإلا قُتل. أين أنت يا أستاذ عبد السلام من زلال السنة، وقد وردتَ كل آجن آسن عطن!... إن من لا يعلم أن دين ابن تيمية مختلف عن دين الصحابة -وإن زعم أكثر من غيره اتباع السلف- لم يعلم شيئا؛ ومن لم يميّز الدينين من مسألة التوجه وحدها (القبلة القلبية)، فما ميّز شيئا. وأما من جهة الإثمار، فإن الدين الذي كان عليه الصحابة موصل إلى الغاية من دون إعسار؛ ودين التيميين يتوغّل أصحابه في الظلمة إلى أن لا يعودوا يدركون من التجليات "الآفاقية" بله النفسية إلا صورها العدمية، كما يُدرك الكافرون. لا يختلفون عنهم إلا بمصطلحات هي لا شك من توابع الإسلام، وبعبادات هي من حيث صورتها عبادات الإسلام. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104]. ولقد كانوا أخسرين، لأنهم عملوا ولم تثمر لهم أعمالهم، كما أثمرت لمن سلك على النهج القويم. وأما ضلال السعي في الحياة الدنيا، فهو البقاء على الخواء مع اعتقاد الفلاح؛ وهذا لا يكون إلا باعتماد الأيديولوجيا. ألا نجد التيميين من أكبر المنظرين للتوحيد، مع كونهم أبعد الناس عنه!... ومتى خرج من بينهم موحد واحد من أهل المعرفة بالله، رغم ما يتصنعون من كلام!... ربما قد ينطلي أمرهم على العوام الذين هم أقل منهم حذلقة وتحاذقا؛ لكنه لا ينطلي علينا نحن -بحمد الله- ونحن من نعلم موطن كل متكلم من كلامه، ومبلغ علمه، ومدى موافقته للشريعة أو مخالفته!... ولولا أن معنى التوجه أصيل في الدين، ما كانت النصارى ضلت فيه، عند اعتقادهم ربوبية عيسى من دون الله. نعني من هذا، أن الإسلام الحق يصحح المعنى الذي ضلت فيه النصارى ولا يلغيه، كما يتوهم ذلك العامة من الفقهاء الذين لم يتحقق لهم الترقي. ولولا أننا لا نسير في إثباتنا للعقائد على منهاج المتكلمين، لبرهنّا على مسألة التوجه برهنة عقلية تجعل السامع يتوقف؛ ولكننا نريد للمؤمن أن يسير على طريق الإيمان المفضي إلى العيان، لا على طريق البرهان. [رَفَعوا خُبَيْباً رضي الله عنه على الخَشبة في مكة ليقتلوه، فسألوه: أتحب أن محمدا مكانك؟ قال: "لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه".]: وهل يبلغ أهل العقائد، مهما زعموا لها من صواب وحق، أن يكون تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، على ما ذُكر هنا؟!... وهل يبلغ الكاتب هذا التعظيم!... فلمَ لم يبلغ هؤلاء هذا القدر من التعظيم وبلغه الصحابة؟... أيكون الأمر كلاما يُلاك في المنتديات، وتُرتشف على ذكره أكواب الشاي والقهوة، ثم تُزعم به المشابهة للصحابة؟!... كلا! والله! لا يكون السالك كالمارق، ولا المتوجه كالعالق، ولا المتخلِّف كالسابق!... ثم ألا يكون ما يدل عليه ابن تيمية من ارتكاس، أسوأ من تمنّي شوكة تصيب القدم الشريفة؟... وعجبا للكاتب، عندما يجمع بين تعظيم الصحابي المهتدي، وتعظيم ابن تيمية المزعوم!... ثم: أكان الصحابي على ذلك التعظيم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لو لم يكن يشهد الحق فيه (هذا هو معنى الوجه في الشرع)!... غير أننا ننبه، أن هذه المعاني، لا ينبغي أن يتوقف الناس عندها بعقولهم وهي لم تتخلّص من ظلمتها بعدُ؛ لأنها ستعود عليهم عمى، كما أخبر الله عن قرآنه أنه يعود على فاقد الاستعداد. يقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]. الهداية القرآنية، يُشترط لها القابلية، والقرآن لا يهدي وإنما يهدي ويُضل. يقول الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]: أي ومن يُضلل الله به؛ لأن الضلال ضلالان: ضلال عن القرآن، وضلال بالقرآن؛ والمهتدي من هداه الله، لا غير!... ويقول الله أيضا: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]. وحتى يُدرك القارئ ما نرمي إليه، فإننا نشبه الاستعدادات بالصور التي تكون على الشريط (الفيلم)، والقرآن بالنور الذي يُسلّط على الشريط، والنتيجة التي هي إما هدى وإما ضلال، بالصورة المنعكسة على شاشة العقل. نعني أنه ما ظهر على الشاشة بالنور، إلا ما كان كامنا في الاستعدادات، لا غير. وهذا هو المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما علّمنا: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.»[11]. فليعلم العبد صنف ضلال ابن تيمية، وليحذر أن يكون على دربه، وليسأل الله الهداية منه سبحانه، لا من فهمه في الوحي!... وكثيرا ما يخلط الناس بين العصمة التي للوحي، وبين عصمة العقل الناظر فيه؛ لأنهم لا يتمكنون من التمييز بين الوحي في صرافته، وصورته المدركة لهم في عقولهم. وهذا يُشبه ما يقع للناظر في أحيان كثيرة، عندما ينصرف إدراكه عن النور، بما يشهده به من صور. [وتَرَّس عليه صلى الله عليه وسلم أبو طلحة يوم أحد بظهره، يعرض ظهره للنبال كي لا تنال الشخص الكريم. وامتص مالك الخدري رضي الله عنه جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لينقيه. ورفض أن يَمُجَّهُ، بل ابتلعه محبة وتفَانيا. كانوا يتقاتلون على بصاقه من منهم يتبرك به. كانت مهابته في قلوبهم قاضية، مهابة الحب والإجلال لا مهابة الخوف، يجلسون إليه كأنما على رؤوسهم الطير.]: هذا وصف جيد لما كان عليه الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم يسأل الكاتب نفسه معه: لمَ كل ذلك؟... ولمَ لم يكن المتأخرون على مثله، لو كان الطريقُ الطريقَ، لم يُختلَف عنه ولم يُتنكّب؟... ونجيب نحن: لولا أن الصحابة كانوا مجالسين للحق في حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لما كانوا على ما ذُكر؛ لأن كل تلك الآداب، لا تليق إلا بالحق عز وجل!... وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي»[12]، وفي رواية أخرى: «أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ!»[13]. والآن: أيكون الله جليس الذاكر، ولا يكون جليس من يواجه بوجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نعلم أن الرؤية تفضل على الذكر، فضل المعاينة على الخبر؟!... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَة»[14]؛ وإن لم تحصل المعاينة بالنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فليت شعري بأي شيء تحصل؟!... وإن حققنا النظر، فالصحابة عموما أهل معاينة، والمتأخرون من بعدهم عموما أهل خبر. نقول عموما، للتغليب؛ وإلا فإن من الصحابة من لم يكن على معاينة، كما من المتأخرين من هو على معاينة. إن هذا مما ينبغي أن يُصحح في أفهام المسلمين، ليعودوا إلى حال الاستمداد، بدل هذا الانقطاع الذي أوشك أن يكون تاما... تشهد على الانقطاع، غلبة الكافرين للمسلمين في جميع المجالات؛ ويشهد لغياب المدد، عدم تغير الحال مع إتيان الأعمال؛ فأين من يربط الأسباب بالمسببات، ويخرج من هذا الخلط الذي لا أساس له ولا سند!... وليبدأ المسلمون في عملية التصحيح، بتحريم الكلام عن الصحابة على أنفسهم ما داموا مخالفين لهم بالحال!... إن ذلك مما يُنيمهم ويعطيهم انطباعا وهميا بأنهم تابعون لهم وهم غير تابعين!... مِن هنا تبدأ النصيحة للنفس!... [قال عروة بن مسعود لقومه ثقيف لما رجع من الحديبية ورأى الصحابة حول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك، على كسرى وقيصر والنجاشي. والله ما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا. والله إنْ تنخم نُخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فَدلك بها وجهه وجلده. وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدّون إليه النظر تعظيما له".]: ليس الشأن في تكرار الكلام، وإنما الشأن في الكون على مثل ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم!... وأما مقارنة تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعظيم الناس لملوكهم فلا تصح؛ لأن الصحابة ما عظّموا في النبي إلا الحق، بخلاف معظمي الملوك الذين يكون تعظيمهم في الغالب، عن شرك أكبر أو أصغر من جهة الظاهر. وإنّ سوْق مثل هذا الكلام من غير إبراز لمحل التعظيم ومناطه، لن ينفع السامع وإن جهد في استكناه معناه؛ بل إنه قد يزيد ضعيف الإيمان بعدا، عند قياسه تعظيم الصحابة على معظمي الملوك والمتجبرين؛ إذا هو توهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان معظَّما لنفسه لا لله!... إن هذه التفاصيل التي لم يُعتنَ بإظهارها، هي ما جعل المتأخرين يضلون بما كان ينبغي أن تقع به الهداية!... وصاحبنا يأتي بها ضمن وعظه، وكأن الناس لم يكن يُعوزهم إلا السمع ذاته!... هيهات، هيهات، وقد أصبح الناس ممن تغذوا على الفلسفات ورضعوا لبان الأيديولوجيات!... [جاء الأمر القرآني بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وتعزيره، والأدب البالغ في حضرته. وأُمر الصحابة أن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي، وأن لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وأن لا ينادوه نداء بعضهم لبعض. وأعلمهم القرآن أن الذين يبايعون رسول الله إنما يبايعون الله، وأن يد الله فوق أيدي المبايعين. فاجتمعت للصحابة عوامل التبجيل والإجلال والمحبة أمراً مُوحى به من السماء، وانبعاثا متوثبا من القلوب. لولا هذا الانبعاث لما تُلُقّيَ الأمر السماوي ولا البيان النبوي بالتقديس.]: ما ينبغي هنا، هو معرفة الحكمة من دعوة القرآن إلى تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ذلك التعظيم. ورغم أنه لا أحد يجرؤ على إنكار ما ورد به القرآن (ولا ابن تيمية عينه)، إلا أن النفوس بجهلها تتجنب تحديد النظر إلى هذه المعاني، خصوصا بعد طرق كلام ابن تيمية ونظرائه للأسماع، وحدوث التشويش على الفطرة. ما كان ينبغي على الكاتب، وهو من يريد الكلام عن الإحسان، هو الدلالة على التجلي الإلهي في الصورة النبوية، الذي لولاه ما كان القرآن ينزل بوجوب التعظيم على الوجوه المذكورة. ولولا هذا الذي نذكره، لكان القرآن دالا على الشرك لا على التوحيد!... وقول الله الذي جاء به الكاتب عن غير علم، والذي هو: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، دليل على ما نذكر. فأسلوب الحصر الذي وردت به الآية، يقتضي أن يكون النبي هو تجلي "الله" عينه. ونحن عندما نقول "تجلي الله"، فإننا نقصد تجلي الاسم الله؛ لأن العامة يخلطون دائما بين معنى الذات ومعنى الاسم؛ مع أن الله سبحانه ما دل في كتابه إلا على الاسم وعلى الأسماء. فهذا هو ما يليق بالإحسان حقا، لا ما يقوله الكاتب، أو يأتي به من المتناقضات!... وكل عبد لا يجد المعاني التي نخوض فيها منسلكة في قلبه، فليعلم أنه على بُعد وعلى حجاب. وعليه بدل المسارعة إلى الإنكار ليهدئ من ثورة نفسه، وبدل العودة إلى أمثال ابن تيمية يستجير بهم من تأذي عين بصيرته بالنور الساطع، أن يتوقف؛ وأن يعود إلى العمل على اكتساب النور من أهل النور، نواب النبوة والهادين بهديها. [التقليد البارد للمشايخ أصحاب المقال قد يكون له مبرر إن كان المقلد جاهلا عاجزا عن فهم النصوص، وكان الشيخ عالما قادرا على الاجتهاد في مرتبة ما من مراتب الاجتهاد، وكان موضوع التقليد فروع الشريعة. أما تقليد القوالين في السلوك، أولئك الذين تنحصر بضاعتهم في عبارات محفوظة وتقاليد ورسوم فمَتْلَفَة ومَهْلَكة.]: ينسى الكاتب أنه هو نفسه من المقلدين، وأن كلامه كله ما خرج عن التقليد. ورغم ما يزعمه لنفسه من ذوق في السلوك، إلا أننا لم نجد له ما يشهد له به من كلامه إلى الآن. وأما نصيحته بعدم الاكتفاء بترداد كلام أهل السلوك من غير انخراط فيه، فهي مما نؤكده ونقويه؛ لأن الكلام في السلوك من غير سلوك يكون من أقوى الحجب عن الحق، بعكس ما يظن الجاهلون. وكل من يأخذ التشبه بكلام الخواص من التشبه النافع، فإنه يكون واهما مخادعا لنفسه؛ لأن التشبه النافع يكون في الأعمال والأحوال، دون الكلام. ومن علم قليلا عن النفس، فإنه سيعلم حتما أن الكلام من أكبر مشتهياتها، بخلاف العمل؛ والسبب هو أنها تريد أخذ الأمور العظيمة ونيل المكانات المنيفة بالدعوى لا بالتحقق والذوق. وهي بهذا التصرف منها، تكون من أكبر أهل الزور في الوجود. ومن عرف هذا منها، لم يصدقها في شيء من مزاعمها إلا ببرهان يكون معتبرا من الوحي وحده. وقليل من يعمل على هذا المبدأ ممن ينسبون أنفسهم إلى الخصوصية، وأما العامة فلا كلام عنهم!... [وهنالك الاقتداء بالأكابر، والسماع من الأكابر، والأخذ عن الأكابر. الأكابر قنوات موصلة يجذبك مغناطيسهم إلى حب الله ورسوله ولا يحجبك. وإن كنا نلح كثيرا في هذا الكتاب وغيره على الجلوس في تربيتنا وسلوكنا وجهادنا وفقهنا إزاء القرآن، عند أقدام المنبر النبوي، فإننا نقصد تربية واجتهادا وجهادا مقدمته اللازمة أن نَخرِق كل سقف يحول بيننا وبين النبوة. ويكون الخرق للسقوف تطفلا وافتياتا وبهتانا إن لم نستمد من القنوات القلبية والعلمية الموصلة، ونَنفُذْ منها، ونصعَد على طريقها إلى ذلك الجوار القدسي. وليس إلى ذلك سبيل إلا بالاقتداء السليم.]: هذا كلام عام، لا ينفع في شيء؛ وإن كان الكاتب يبغي جعله طريقا إلى الأيديولوجيا الإسلامية السياسية بطريق العسف اللفظي، الذي تمجّه الأسماع النيرة. وما زلنا لا نُدرك معنى الجهاد لدى الكاتب، لأننا نجده غير الجهاد الشرعي. وأما الجمع بين السلوك والجهاد بهذا المعنى المبهم، فقد سبق أن قررنا أنه لا يصح؛ لأن السلوك له شروطه في كل مرحلة، إن انتفت فإنه لن يعود له معنى. هذا إن كنا نريد أن نُبقي على المعاني كما هي وعلى المصطلحات بحمولتها الشرعية؛ أما إن كنا نريد اعتماد الديماغوجيا، فذاك أمر آخر!.... [وبالاقتداء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأجيال من أمته. روى الترمذي وابن عدي عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر. واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد". وابن أم عبد هو ابن مسعود الذي قرأنا نصيحته في فقرة سابقة يوصينا بالأخذ عن الأكابر لا عن الأصاغر. وكل قوّال لا ينهض بك حاله ولا يدلك على الله مقاله صغير.]: لو علم الكاتب أن كلامه ضده، ما جاء به. وهل دل الكاتب في كل كتابه على الله، حتى يقول مطمئنا ما قال؟ لا والله!... وإنما يدل على طريق معوج منحرف، زاد فيه على خلط ابن تيمية العقدي خلطا سياسيا، سيُعمي بصيرة كل من يأخذ عنه، ويُصمّ عن دعوة الحق النبوية كل أذن سبق إليها... وهذا يعني أنه هو نفسه لن يكون من الأكابر!... وليته سكت ولم يخرق ستر الله عليه!... [قال أحد أكابر الأمة الشيخ الجليل أحمد الرفاعي في تفسير حديث الاقتداء: "أمر عليه الصلاة والسلام بتصحيح القدوة بالشيخين العظيمين، سيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا عمر الفاروق رضي الله عنهما، وبالتحقق بالاهتداء بهدي عمار رضي الله عنه، فإنه مات على حب الصهر العظيم، الصنو الكريم، سيدنا على رضي الله عنه. وأكد لزوم التمسك بالعهد، كما كان محافظا عليه ابن أم عبد رضي الله عنه. وفي هذه حكمة الجمع بَيْن حب الصحب والآل، سر يدركه العارفون الموفقون. وقد جعل صحة المتابعة له باتباع الشيخين رضي الله عنهما. وجمع بين النكتتين بلزوم التمسك بالعهد. ومتى اقتدى العبد اهتدى، ومتى اهتدى تمسك بعهد الله، وهناك وقد عرف. وهل المعرفة بالله إلا هذا؟ فإن من اهتدى بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، واقتدى به، وتمسك بعهده، أقبل على الله، وأعرض عن غيره".]: الإمام الرفاعي إمام حق، ودلالته على عمومها يروم بها جمع المستمع إليه للخير، في زمن كثر الكلام المظلم من الجهتين: ممن يزعم تعظيم الصحابة، وممن يزعم تعظيم أهل البيت. يريد رضي الله عنه أن يقول: من كان من أهل الخير المحمدي، فإن الخير لا ينقسم؛ ومن دعا إلى انقسام، فذاك منه دليل على مجانبته للخير. فالحال يشهد على العباد، ويُصدّقهم أو يكذّبهم. ومع ذلك، -وكما قلنا- هذا كلام عام، ينفع مع العوام؛ ولا يضيف شيئا مما يصب في الإحسان بالمعنى الحق. ونزيد نحن على هذا الكلام، بأن الصحابة لا يخلون من معنى كونهم من أهل البيت من وجه ما، كما لا يخلو أهل البيت من معنى للصحبة من وجه ما. ولسنا نعني إلا أن معنى البيت النبوي يسع كل تقي من هذه الأمة من وجه ما، ومعنى الصحبة أيضا يسع كل متمسك بالسنة بوجه ما؛ فلا يقع التفريق إلا بالتغليب. وهذا أدعى إلى أن تجتمع الأمة كلها على نور النبوة، وأن لا يُحجب بعضها بانعكاس ذلك النور على الأتباع. ومن جعل نظره إلى الأصل، سهل عليه تقبّل الفرع؛ بعكس من كان نظره إلى الفرع، فإنه قلما يصل إلى الأصل وهو محجوب به عنه. [وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الرؤوف الرحيم بنا الأمين على رسالة الله أن يدلنا على الاقتداء والاهتداء والعهد لو كان في التمسك بذلك ما يحجبنا عن الله ورسوله. ونرى إن شاء الله في الفصل المقبل كيف تسلسل الاقتداء والاهتداء والعهد من الصحابة جيلا بعد جيل.]: هذا الكلام وإن كان ظاهره صحيحا، إلا أنه تنظير عامي، بحسب ما يكون عليه العوام من علم ومن إدراك!... وأما التسلسل الذي يكون من تعاقب الأزمان، فلا ينبغي أن يحجب عن الأصل الذي يكون عليه الناس في العلم الإلهي، قبل خروجهم إلى الوجود. ونعني من هذا أن الرجل منهم يكون -مثلا- عالما بالله، من غير أن يكون ذلك مشروطا بصحبته لشيخه العالم الذي من الجيل السابق؛ لأن هذا من أثر الحكمة لا من مقتضى العلم. ولو علم الناس ما نذكره هنا، لما حُجبوا بالتسلسل الذي يذكره الكاتب هنا، عن إدراك مرتبة الرجل في نفسه مجردة. [نقرأ في كلمة الشيخ الرفاعي رحمه الله نكتة بالغة الأهمية، وهي اقتران الوصية بالصحابة مع الوصية بالآل. وهي نكتة ينتبه إليها الموفقون كما قال. إن الصدام التاريخيّ فرّق بين شقي الأمة: سنة وجماعة في جهة، وهم جسم الأمة وكلها، وشيعة وهم عضو منها، يحاول بعض أهل الغِرّة تكفيرهم ونبذهم وكأنهم دخيل على الأمة.]: ونحن إلى الآن لم نر للكاتب كلاما معتبرا، للتقريب بين أهل السنة والشيعة؛ وإنما هو تلفيق لا ينتج عنه شيء. والخوض في هذه المسألة لا يكون من جهة الوعظ، لأن الوعظ سيُبقي كل واحد من الفريقين على حاله. الأمة بحاجة إلى خطاب علمي، يتناول مواضع الخلاف على نور من النبوة؛ لأن النبوة وحدها ما يجمع الأمة، إن هي لاح نورها... [عند الشيعة ميراث بخسٌ لئيم من الاستهانة بالصحابة رضي الله عنهم. وهذا بؤس وحرمان والعياذ بالله. والقائل بذلك يكذب الله الذي شهد للصحابة في قرآنه الكريم بالأفضلية والسابقية، ويكذب رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بلغ وربى وأوصى بالاقتداء والاهتداء والعهد.]: كلام حق، لكنه عام؛ والعام لا ينفع فيما الكاتب بصدده من دلالة على وحدة الأمة. والصحابة ليسوا طبقة واحدة؛ فهل يجرؤ الكاتب على تمييز الأكابر فيهم من الأصاغر؟!... ألا يرى إلى بناء الوهابية لعقيدتهم على حديث الجارية، وانصرافهم عن حال أكابر الصحابة!... أفي وُسعه مناقشة المسألة من هذا الوجه، وتوسيع النقاش بعد ذلك إلى أن يبلغ رد الفروع من المتأخرين إلى الأصول من أهل الزمن الأول؟!... نعم إن التعميم يليق بالعامة لكونهم لا يحسُن بهم الدخول في مواطن الخلاف، وهم من غير زاد علمي معتبر؛ لكن "الأكابر" لا بد أن يكونوا على غير ذلك التعميم. ولو أن المسائل نُظرت بوصفها علوما، من غير نسبتها إلى هذا أو إلى ذاك من الصحابة أو من أهل البيت، لكان الأمر أكثر نفعا؛ بسبب التحسس الذي يصيب الفرقتيْن عند سماع الألقاب والأسماء، فتعمى بها عن العلم. نعم، نحن نعي أنه لا يمكن تجريد الأقوال على التمام، لدخول مكانة القائل وظروفه في اعتبار القول نفسه؛ لكن إدراك بعض الأمر أفضل من تفويته كله!... [غالى الشيعة، بعضهم وفيهم العقلاء، في حب آل البيت وتعظيمهم حتى تجاوزوا القدر الذي يكون به الاهتداء. ويسكت طوائف من أهل السنة سكوتا مريبا عن مكانة آل البيت وعن الوصية النبوية بهم. وبذلك تعظم الفجوة بين شقي الأمة، وتبتعد الشقة، وتنشأ القطيعة. وإلى هذه النكتة نبه الشيخ الجليل رفع الله مقامه.]: على عادة الكاتب، هو لا يتجاوز مرحلة تشخيص الداء؛ ويسكت عن توصيف الدواء!... ومن الدواء -إن كان بالقوم تطلع إليه- أن تقوّم كل طائفة ما لديها من نقص: فعلى الشيعة أن يتعلموا النظر إلى كبار الصحابة بعين التعظيم، وبعيدا عن أقوال المغرضين؛ وعلى أهل السنة أن يتعلموا إبداء الاحتفاء بأهل البيت عليهم السلام وبمكانتهم العلمية؛ وعلى الجميع أن يعلموا أن الغاية الله، لا فلان أو فلان من الناس. ولو اجتمع المتأخرون على الله، وعلى النبوة، لكفاهم؛ لولا أنهم يجعلون الفروع حاكمة على الأصول، ويجعلون إسلام العبد مشروطا بعقيدة تفصيلية من هنا أو من هناك. إن إعادة ترتيب المسائل على نور وبيّنة، هو ما نحتاج إليه اليوم. وإن الظروف مواتية، لبلوغ ما نذكر، لو أن المسلمين يتنبهون!... [روى الإمامان أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أما بعد ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب. وأنا تارك فيكم ثَقَلين. أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضل. فخذوا بكتاب الله تعالى، واستمسكوا به. وأهل بيتِي! أذكركم الله في أهل بيتي! أذكركم الله في أهل بيتي."]: هذا الحديث عند جل أهل السنة، كأنه لم يرد؛ إلا عند أهل شمال إفريقيا في أزمنة ماضية، من كونهم شيعة معتدلين، أو من كونهم أهل سنة حقيقة. وأما غيرهم، وعلى رأسهم الفقهاء (كأبي بكر ابن العربي) فإنهم ما عرفوا لأهل البيت مقاما، خصوصا عندما رأوا قيام الحسين عليه السلام ليزيد مخالفة شرعية، وكأنهم أعلم بالشرع من الحسين عليه السلام!... ولا شك أن للفقه السلطاني الذي أسس له الأمويون والملوك من بعدهم، أثرا لا يخفى؛ قد قلب الدين رأسا على عقب، عندما جعله خادما للسلاطين بدل أن يكون دالا على الله وآخذا للناس على صراط مستقيم. وهذا الخلط بين الهوى والشرع من أهل السنة، لم يكن لينقص من الفجوة التي بينهم وبين الشيعة؛ بل على العكس من ذلك -وهذا متفهَّم- سيزيد النقمة عليهم ويزيد من النفور عن دين ينتصر ليزيد على سبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم!... كانت مسألة استشهاد الحسين عليه السلام محورية، وستبقى كذلك أبد الدهر؛ وما لم تعد الأمة إلى هناك تُصحح فهمها للدين، وتعتذر للحسين عما بدر من تقصير للمسلمين المعاصرين في حقه وفي حق الدين، فإن التلاقي لن يتم ولن يكون. ونحن نعجب لأهل السنة أكثر مما نعجب للشيعة، لأننا نرى المغالاة في حب النبي وآله مقبولة ما لم تخرج عن الحد المشروع؛ لكننا لا نتمكن مِن فهم مَن لا يتحرك لهول المصيبة، ولا لدلالتها المؤذنة بانقلاب الدين وانعكاس وجهته. وإن التاريخ بعد تلك المصيبة العظمى، يشهد على ما نقول، بوقوع الانقسامات المتعددة في الأمة الواحدة، وباجتراء الأمم المختلفة على انتهاك حرمات المسلمين، منذئذ وإلى الآن. وإن كل حكيم من الناس، يعلم من غير عناء، أن استشهاد الحسين (ومن قبله الحسن عليهما السلام) ستبقى الأمة تؤدي ثمنه إلى قيام الساعة؛ وسيبقى ما يلاحق الناس منه في آخرتهم من غير شك... [إذا كانت نِسْبة أحد من هذه الأمة إلى أحد تشرف، فهي نسبة المسلمين جميعا إلى الله ورسوله. زاد أهل البيت بالنسب الطيني لنزولهم من سلالته الطاهرة صلى الله عليه وسلم التي تأذن الله عز وجل في كتابه العزيز أنه يريد أن يذهب عنهم الرجسَ ويطهرهم تطهيرا. وأمرُ الله لا يرد، وإرادته المعلنة لا تتعطل. وأهل البيت أمان للأمة، تشرف الأمة إن عظمتهم وذكرت الله فيهم كما ذُكِّرَتْ.]: هذا كلام جيد، لكنه وعظي غير علمي. والأمة محتاجة الآن إلى تناول هذه المسائل من جهة العلم، لأنه وحده ما له القوة على هدم الموروث الباطل لدى كل الأفرقاء. وكما قلنا في الفقرة السابقة، ما لم نعد إلى مسألة استشهاد الحسين عليه السلام نُدرك أبعادها، فلا كلام عن الوحدة ولا عن مصير الأمة. كيف يريد الناس أن ينالوا من الله رغائبهم، وهم يعاكسون أمره سرا وعلانية فيمن أوصى بهم في قوله سبحانه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. كيف بأمة استبدلت العداوة والقتل بالمودة، وتطمع بعد ذلك في إقبال ربها عليها ورحمته إياها. كاذب من يدعي محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الواجبة، وهو يقتل ذريته الطاهرة أو يرضى بقتلها. ولا ينفعه بعد ذلك أن يكون صواما قواما، إلا أن يشاء الله!... [اِدّعاءُ العصمة لأحد دون النبوة تجاوز لكل الحدود، وفتح لترعة لا تسد، يدخل منها على الدين كل باطل.]: الكلام في العصمة بدعة، والقول بها بدعة؛ ولقد كان حريا بالأستاذ أن يُكلمنا عما دعا إلى ذلك القول لدى الشيعة. وهل المعنى الذي تدل عليه العصمة مما هو جائز في الدين؟ وما وجه القول به لدى القائلين؟... وأما إبقاء "النقاش" في مستوى العوام، فلن ينفع كما ذكرنا. [وما دون العصمة مكانة يحتلها رجال جامعون بين النسب الطيني إلى ذلك الجناب المطهر وبين النسب الديني. أولئك هم كمل العارفين، غالبا ما تجد أئمة التربية من آل البيت.]: لا ينبغي النظر إلى الأمر وكأنه قاعدة، لأن المعرفة هي الدالة على العارف لا العكس. والأئمة من أهل البيت عليهم السلام، مرتبتهم أعلى من العارفين (نعني عوام العارفين). ولقد كان جديرا بالكاتب أن يعلم لهم هذا، أو فليسكت؛ فإن السكوت يكون أفضل وأسلم. [مجموع الآل والصحب هم أولياء الله حقا. قال واحد من أكابر الأمة، من أفذاذ علمائها في هذه القرون المتأخرة، الإمام الشوكاني: "اعلم أن الصحابة، لاسيما أكابرهم الجامعين بين الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعلم بما جاء به، وأسعدهم الله سبحانه من مشاهدة النبوة وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد في سبيل الله سبحانه، حتى صاروا خير القرون بالأحاديث الصحيحة. فهم خيرة الخيرة (...) فتقَرّر من هذا أن الصحابة رضي الله عنهم خير العالم بأسره، من أوله إلى آخره، لا يفضلهم أحد إلا الأنبياء والملائكة (...). فإذا لم يكونوا رَأْسَ الأولياء، وصفوة الأتقياء، فليس لله أولياء، ولا أتقياء، ولا بررة، ولا أصفياء".]: فضل الصحابة لا يُنكر!... لكن ما قول الشوكاني والكاتب من بعده، فيمن جمع بين الصحبة والنسب الشريف؟... إن التخفي خلف العبارات المنمقة، لا يستر الإغراض والانتصار للعقائد المـَـرَضية التي ما زالت عاملة في الأمة تضعفها من الداخل وتوهن بنيانها. ونبرة العصبية الأيديولوجية واضحة في كلام الشوكاني، وإن رام إخفاءها. فكيف يأتي به الكاتب، وهو الذي كان قبل قليل يدعو إلى ما يجمع زعما!... إن النزول إلى هذا الخطاب لا يليق بمن يريد التأسيس لأمر عام يتعلق بالأمة كلها أبدا. [وذهب الشوكاني رضي الله عنه يقمع الروافض المستخفين بالصحابة الهدامين للدين، يصف حماقتهم، وطعنهم القميء الخبيث لمقام القدوة والاهتداء والعهد والأسوة، ويصف شيطنتهم. لكنه لا يكفر. منعه من تكفير هؤلاء المرتكبين لأشنع الجرائم في حق صفوة الله من خلقِه بعد الأنبياء، الوالغين في أعراض خير البرايا بعد الأنبياء، ما قرأناه من تَصونه وحذره في الفصل الأول من هذا الكتاب. وهو غفر الله له كان في صباه وشبابه من "المكفراتية" كما شهد على نفسه وتاب.]: وما فائدة تكرار كلام الشوكاني، وهو من لا يبلغ أن يُستمع إليه؛ إلا أن يكون بينه وبين الكاتب وشيجة شبه، يظهر حكمها رغما عنه. ومن الإنصاف إن وقع ذكر ما يُكره لطائفة، أن يُذكر ما يُقابله لدى الأخرى؛ فالروافض لهم في المقابل نواصب!... ولكن أين الإنصاف!... ثم لِمَ لمْ يأت الكاتب بكلام الشوكاني المتعلق بالنواصب، حتى يكون أمينا في النقل وغير غاش للقارئ؛ وكأن في ذلك عونا له على ما يريد!... وأما مَن يظن مِن الفرقتين، أنه يتصدق في النهاية على الفرقة الأخرى بعدم تكفيرها، فهو واهم!... وكأن الواجب في الأصل التكفير؛ أو كأن التكفير سيقع بمجرد قول القائل منهم!... ما هذا إلا من جنون الفقهاء، المعتقدين أنهم قد صاروا أربابا يحكمون على العباد فلا يُرد حكمهم؛ وهم من لا يضمنون أن يكونوا مِن أول من تُسعَّر بهم النار، إن هم أرادوا بالدين غير ما جُعل له!... [نضع أصبعنا في نص الشوكاني على ميزة الصحابة عن سائر الأجيال، ميزة الجهاد بالمال والنفس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام في بدايته، والإسلام يواجه الجاهلية. أما من جاء بعد الصحابة ووجد الأمر ممهدا، والإسلام ضاربا أطنابه في الأرض، فقد فاتته فرصة الجهاد، كما فاتته صحبة الرسول، إلا أن يُجدد في غربة الدين الثانية جهادا واجتهادا.]: تنظير متسرع من الكاتب للعمل السياسي الحركي، لا يبلغ أن يكون أساسا معتبرا إلا عند من لا يُحسن النظر في العلم، ومن لا يحوز ميزان الاعتدال في ذلك النظر. وعليه أن يعلم وهو يُنظّر لجهاده، أن الناس في زمانه لم يَكفروا، وإن كان الحال من السوء لا يبعد كثيرا عن ذلك في كثير من الأحيان؛ لكنه هو ذاته (الكاتب) ليس استثناء، وهو يبغي الدخول في جهاد ليس له من الجهاد إلا الاسم؛ يزيد به الفتن تسعيرا، ويزيد الجهل انتشارا وتكبيرا. ولو علم وخامة ما يدعو إليه، وعاقبته يوم لقاء ربه، لفضّل أن تشل يده وأن يُقطع لسانه قبل أن يصدر عنه ما صدر. إن الأمة اليوم، في حاجة إلى من يداوي، لا إلى من يعاقب؛ في حاجة إلى من يرد الشارد، لا إلى من يطرده ويُقصيه!... ولسنا نفرق هنا بين حاكم ومحكوم، ولا عالم وجاهل، ولا عام وخاص؛ لأن التقصير عام، والمخالفة مشتركة. وكل حصر للسوء في الحكام وحدهم، فإنه من اتباع الهوى، ومن المنافسة لهم على الدنيا؛ أو هو من التأثّر بالمذاهب الدخيلة، من اشتراكية أو ديمقراطية أو ليبرالية؛ لا من الدين أو من الفقه فيه، ولا من التقوى أو من الدلالة على الخير. يكفي من هذا التدليس، ومن أخذ الأجيال إلى ما يضرهم في دنياهم وفي آخرتهم!... [أما في زماننا هذا وما بعده فالاقتداء بالمشايخ العارفين بالله ينبغي أن يتجاوز بنا همومنا الفردية لنحمل هموم الأمة، وهموم الإنسانية، حاملين الرسالة، مجاهدين في وجه الفتنة الداخلية والجاهلية المحيطة، كما جاهد الأولون. هم الأصحاب ونحن الإخوان. جسومنا هنا الآن، وقلوبنا وعقولنا يجب أن ترتفع إلى هناك، بإزاء القرآن، وعند قدم المنبر الشريف، وتأسياً مباشرا بأهل الاقتداء والاهتداء والعهد.]: هذا نزول من الخطاب الديني -على ما كان به من قصور- إلى الخطاب الديماغوجي الذي هو مصادرة على المطلوب. وبالتالي فإن الاستنتاج الذي يبغي الكاتب أن يقودنا إليه بالمراوغة، لا يكون استنتاجا مقبولا من جهة العلم. كل هذا، وهو يمهد لنظرية مستحدثة أيديولوجية، لا صلة لها بالدين. يأتيها مرة عن اليمين، ومرة عن الشمال، ومع ذلك ستبقى غريبة عن أصل الدين دائما؛ وهذا الواقع يشهد بعد رحيل الكاتب، بصدق ما نقول؛ وإن أصر أصحاب له على اتخاذ كلامه "سلطة" عليا معصومة، يمتطونها إلى حيث تهوي بهم أهواؤهم، من غير اعتبار لحق لله أو حق للأمة. فأين الإحسان، والأمر يكاد يذهب بالإيمان نفسه!... [قال الصحابي الجليل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: أتـانـا رسول الله يتلــو كتــابـه *** كما لاح مشهودٌ من الفجر طالـع أتى بالهدى بعد العمى فقـلوبنا *** به موقنـات أن ما قـال واقـع يبيت يجافي جنبه عـن فـراشـه *** إذا استثقلت بالمشركين المضاجـع] [وقلت رحمني الله كما رحمهم: سمعنـا نـداء الحـق والحـق ذائع *** فأيقظنا قول: استقــيمـوا وسـارعوا أتانا رســول الله بالأمـــر صــادعاً *** أن اقتحموا حِصن العدو وصارعـوا فمـا بلـغ الغـــايـاتِ إلا مـجـاهد *** إلى قمة الإحسـان بالعـزم طـالـعُ]: إن جعل الكاتب الإحسان منوطا بجهاد بدعي، لا يعتمده إلا الغافلون مطموسو البصائر، هو من التحريف البيّن لمعاني الدين. وأما الدلالة على مكانة الصحابة وأهل البيت على الجميع السلام، فإنها تستلزم معرفة مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولا؛ لأنه أصل الجميع وسند الجميع!... فمن عرف هذه المكانة، فإنه لا يمكنه أن يقلل من قيمة الصحابة ولا من قيمة أهل البيت، لعلمه بانعكاس ذلك على الأصل صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومن لم يعرفها، فلن ينفع معه شيء، كما لن ينفعه شيء من التشبه في الكلام وحده. ونحن ما رأينا الكاتب يدل على شيء من الخصوصية في هذه المسألة، كما كنا نرجو؛ وما رأيناه إلا كآحاد المسلمين، ينتصر لعقيدة قومه ويحتال لترسيخها، من دون أن يُحصّل من الجرأة ومن الإنصاف ما يُمكّنه من تناول مثل هذه العويصات، التي أعيت قبله من القرون السابقة، من كانوا -من غير شك- أعلم منه وأحكم!... [1] . البحر المورود في المواثيق والعهود، للشعراني رضي الله عنه. [2] . أخرجه ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه. [3] . أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه. [4] . مقدمة الدرة المضيئة، لتقي الدين السبكي. [5] . أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري (تابعي). [6] . أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه. [7] . متفق عليه، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما. [8] . متفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [9] . أخرجه ابن ماجة عن العرباض بن سارية رضي الله عنه. [10] . أخرجه الحاكم في المستدرك، عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [11] . أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه. [12] . ذكره الدَّيْلَمِيُّ بِلا سَنَدٍ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وذكره البيهقي في الذكر من شعب الإيمان عن أبي بن كعب. [13] . أخرجه البخاري وابن ماجة وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه. [14] . أخرجه أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما. |