انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2019/03/08
إحسان الإحسان - 15 -
التوبة واليقظة يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: [بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾. اللهم اجعلني أُعظم شكرك.] [نعيش في خضم الحضارة الاستهلاكية تابعين مجرورين، تَسْحبنا من البطن لأنها تنتج الغذاء ولا ننتج، وتسحبنا من الرأس، ومن الأسفل، بأسبابها القوية. نلبس ما يلبسون، ونفكر كما يفكرون، ونريد ما يُريدون، طوعا وكرها. والأبوان اللذان أنيط بهما حفظ الفطرة غثاء مع الغثاء، يجري السيل بالجميع جريا إلى الهاوية،]: يصف الكاتب في هذه السطور ما تعيشه الأمة من انهزام حضاري، في مقابل الحضارة الغربية المتغلبة بطريقة عيشها التي تخاطب في الإنسان حيوانيته في المرتبة الأولى، ولا تتعدى به ميدان الدنيا حيث -بحسب الوهم- لا حساب ولا عقاب؛ وإنما هي منافسة تُستخدم فيها كل الوسائل المستطاعة، من أجل بلوغ جنة معجلة تكون غاية محسوسة لكل واحد من أفراد هذا المجتمع العنيف. ويشير الكاتب إلى غياب وظيفة الوالدِين في تربية أبنائهم، بسبب وقوعهم تحت تأثير هيمنة الحضارة الغربية الاستهلاكية. وهو أمر منطقي، تكفي الإشارة فيه إلى قاعدة "فاقد الشيء لا يعطيه". وخلف الوالدين والمربين تثوي المنظومة التربوية للدولة، التي يُمسك بقيادها النظام الحاكم ذو التوجه السياسي المخصوص. فهؤلاء جميعا، لا يعتنون بإنسانية الإنسان، ولا يعودون إلى مرجعية ربانية في نظرتهم إلى الأمور، ولا يهمهم في النهاية إلا أن يكون المرء قابلا للاستعباد بمعنى ما. نعم إن استعباد العصور الحديثة ليس كسابقه؛ فهو يتخفى خلف حرية اختيار منعدمة الحقيقة، وخلف حقوق تخدم مصالح الخصم، وخلف شعارات أخرى تتنوع بحسب الحاجة إليها وبحسب المخاطِبين والمخاطَبين. وعلينا أن نعلم، أن الشعوب الإسلامية لا تعيش وفق دينها الآن، وإنما هي تعيش وفق نظام عالمي يصبو إلى تغييب الدين الحق تغييبا شبه كلي، إن لم يتمكن من جعل الناس يكفرون كفرا تاما. وهذا الفُصام الوجداني والعملي، هو ما يُدخل المشقة على الشعوب عند إرادتها -بوعي أو بغيره- التوفيق بين الأمرين: ما هو من الدين، وما هو طريقة عيش. ولا زالت هذه الازدواجية مستمرة في الأمة، ومانعة لها عن القيام بوظائفها على الوجه الصحيح، إلى أن يأذن الله بعودتها إلى الحق في جميع أمورها. ورغم أن الجماعات الإسلامية قد قامت من أجل تحقيق تلك العودة المنشودة، بحسب التنظيرات على الأقل، إلا أننا نلاحظ أن الحال معها قد ازدادت سوءا، بسبب عدم خروجها هي نفسها عن التأثير الغربي، الذي تنصبغ به من جراء التربية التي تلقّتها، ولم تتمكن من التخلص من شوائبها رغم المزاعم. فالعقول الإسلامية لا تختلف في نظرتها للأمور كثيرا عن غيرها من العقول، وهذا كله بسبب غياب التزكية بالمدد النبوي، التي هي وحدها الشافية للأمة من جميع أمراضها الظاهرة والباطنة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. [ومنادي الإيمان هناك، امتزج عنده الوعي السياسي واليقظة السِّياسيّة بداعي الإيمان، فدعوته لاقتحام عقبة المواجهة، وللجهاد مباشرة.]: كأن الأستاذ يشير بصفة "منادي الإيمان" إلى نفسه وأمثاله؛ لأنه هو من يزعم الجمع بين التربية الإيمانية والحركية السياسية في المغرب، في زمنه خصوصا؛ وهو من يدعو إلى اقتحام عقبة محرف المعنى، وإلى جهاد مبهم يبغي احتكار مكانته وقيمته الدينيتين من أجل غاية غير دينية. وهذا من أكبر ما وقع للأمة في آخر أزمنتها، بحيث يكاد يفوق -أو يفوق حقيقة- ما ينتج عن هيمنة الحضارة الغربية وغلبة منطقها. وهذا، لأن العدوان الخارجي يبقى ضعيفا في جميع الأحوال، ما دام يُنظر إليه على أنه خارجي؛ وأما تحريف الوجهة داخليا وبادعاء التديّن، فهو الطامة التي يصعب القيام لها أو مواجهتها؛ إلا بعد أن تكون قد خربت كثيرا من بنيان الأمة، كما هو واقع ومشاهد. ومما لا ينبغي أن يفوتنا هنا، هو أن العمل السياسي الإسلامي نفسه، يقوم على تنظير لا يخلو من أثر لتصوّر الغرب للدولة اليوم؛ كما لا يخلو في المقابل من معالم يسارية اشتراكية، وجد المنظرون أنها أقرب إلى أصول الإسلام أحيانا، من الرأسمالية أو الليبرالية الغربيتين. وقد ظن المنظرون من الإسلاميين -عن علم أو عن غيره- أن الانطلاق من القرآن والسنة وحده سيجعل المعاني شرعية، تدخل ضمن التكاليف الشرعية العامة التي على الفرد وعلى الأمة القيام بها، ليكتمل التصور الإسلامي في بُعديْه الدنيوي والأخروي بحسبهم. والحقيقة هي أن هذا التنظير، وهذا التصور، لن يعود بالأمة إلى أصالتها في هذا الزمان؛ وإنما سيلج بها حقبة من الانقسام الوجداني، تتوزع فيها بين ما هو من الإسلام حقيقة وما هو من الفكر السياسي العالمي الملصق بالإسلام. والأستاذ عبد السلام، رغم زعمه أنه النموذج الإسلامي الذي ينبغي الاقتداء به، لم يسلم من وقوعٍ تحت أثر الفكر العالمي السائد؛ إلى الحد الذي جعله مصدرا للتشريع من دون أن يدري. وما دعوته إلى الجهاد (بالكلمة والموقف أولا) ضد الحكام، إلا استعارة لمعنى الثورة كما عرفته أمم ليست على الإسلام، من مثل ما عرفت فرنسا وعرفت روسيا. وهذا الخلط في المفاهيم والمدلولات، هو ما سيجعل جل الإسلاميين من اليساريين السابقين، أو من ذوي النزعة اليسارية التي ينسبونها زورا إلى السلف، في شخص أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. وإن الكلام في هذه المسألة أطول من أن نتناوله كله هنا، وسنكتفي بهذه الإشارات التي يستطيع القارئ أن يتخذها منطلقات إلى ما يريد استكناهه منها، إن كان من أهل ذلك. ونذكر هنا لقاءنا بالأستاذ عبد السلام الشخصي (لعله كان في سنة 1981م وأنا في بداية العشرينيات من عمري)، عند دخولنا عليه في بيته بحي السلام من مدينة سلا، بعد عصر يوم من الأيام. وبعد ساعة من الزمان، أمر -رحمه الله- الحاضرين بتشكيل حلقة جلس هو في أحد أطرافها، وتعمدت أنا الجلوس خلف الصف لأسباب لن أذكرها الآن. فأشار إلي بالدخول في الصف ففعلت، وإن لم أكن منتسبا إلى الجماعة بالمعنى التنظيمي. ولعلنا نعود إلى هذه القصة مرة أخرى لنتكلم في تفاصيلها إن شاء الله. وما كان حاسما في قطع صلتي به منذئذ، هو قوله لنا يومها، ضمن موعظة ألقاها فينا: "نحن نهتم بالسياسة، ومن كان لا يريد السياسة فلا حاجة لنا به". فقد كنت أتمنى أن يكون كلامه: "نحن ندل على الله، ومن كان ليس طالبا لله فلا حاجة له بنا". هذه الجملة كانت كافية -وأنا من كان يطلب الله- أن ترُدّني عن دعوته، وأن تزيدني من تعلقي بشيخي فيما بعد، عندما وجدت لديه الدلالة على الله وحده. ولعلنا سنعود إلى تفاصيل أخرى في المقارنة بين الرجلين، لأجل تبيّن شروط التربية الشرعية، فيما بعد إن شاء الله؛ فإننا لا نريد أن يكون هذا الكتاب قصصيا أكثر من اللازم. [ويسأل الشباب ولا من مجيب عن أسباب الخواء الروحي وضعف الإيمان لأن الذين ينتظر منهم أن يجيبوا عن الأسئلة الحائرة منهمكون في مطاردة البدع وتكفير المسلمين. يختلقون البدع جَهلا أو ضِيقَ عَطَنٍ، فيُنازلون خيالات صنعوها ليوهموا أنفسهم والناس أنهم حماة الدين.]: يشير الكاتب بهذا الكلام، إلى حال بلده عند الجهر بدعوته. ولقد سبقه إلى العمل داخل المجتمع من جهة الدين متسلفة، لا يعلمون شيئا مما يتعلق بالمنازلات الحضارية، إلا ما كان على المنوال المباشر القديم، والذي يُلجأ فيه من البداية إلى المواجهة العنفية. وبما أن الأمر سطحي جدا لدى المتسلفة، ولا يحتاج إلى إعمال عقل أو إلى ترق في الدين بحسبهم، فإنه سيُعمل على التفريق بين المؤمن والكافر بسرعة، ولقرائن معتبرة لدى هؤلاء، لبلوغ النهايات من الناحية النظرية أولا، في انتظار المرور إلى العمل الذي سيخلّص المجتمع من الكافرين، الذين لن يكونوا إلا المسلمين الذين عناهم الكاتب بالخضوع لمنطق الحضارة المتغلبة أنفسهم. ولا شك أن الكاتب يريد التعريض بالمتسلفة، ويبغي الدلالة على قصورهم في تشخيص الداء وفي الدلالة على الدواء؛ وهو ما لا بد أن يفصّل فيه القول فيما بعد، إن كان يريد أن يكون هؤلاء من مجيبي دعوته، كما يبدو من السياق. ولا بد له في ذلك، من إيجاد منطلقات مشتركة يُمكن أن يلاقي مخاطَبيه عليها؛ ومن هناك يأخذهم -إن استطاع- إلى حيث يريد. وهو هنا ينبئ عن إلمامه بأساليب الخطاب وطرق الإقناع، من خلفيته البيداغوجية كما لا يخفى. غير أن ما سيعتمده في ذلك، لن ينطلي إلا على من لا علم له بالأمر من الجهة الشرعية، كما قد بدأ يتأكد بكلامنا، كلما تقدمنا في الكتاب... وإن التسلف في المغرب، وفي كثير من بلاد المسلمين، لم يعد منوطا بفئة محدودة من الناس، كما كان عبر تاريخه كله في الأمة؛ وإنما سيدخل إلى المجتمعات السنية من بابها الأوسع، باب الفقهاء الذين حين نزلوا عن درجة علم أسلافهم من الأشاعرة والماتريدية، سقطوا في براثن التسلف الضحل. وعلى هذا، فإن الكاتب قد يكون مخاطِبا هنا أيضا، لعلماء المغرب المنقلبين عن مذهبهم إلى المذهب التيمي -وهم كثر- قبل غيرهم من العوام الذين لا يعقلون. ولكن دعوة المتسلفة إلى غير ما هم عليه، لا تكون بتثبيت ابن تيمية ومَن تابعه في انحرافاته؛ بل بإزاحتهم من طريقهم، لو كان يستطيع؛ والظاهر أنه لا يستطيع. [وصية الله تعالى للإنسان إن لم يجد الأب الحكيم، ولم ينشأ في المحضن الفطري السليم، أن يتبع سبيل من أناب إلى الله. والإنابة درجة من درجات التوبة. قال تعالى عن عبده لُقمان الذي آتاه الحكمة: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾. ثم جاء القرآن بالوصية الإلهية جملة اعتراضية بين وصايا لقمان لابنه، قال الله تعالى: ﴿َوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾.]: الوالدان لا يعتبران في سياق التربية، إلا فيما هو دون سن البلوغ؛ وأما بعده، فيفترض أن يبحث الرجل أو المرأة عمن يدلهما على الله، إن لم يكونا على طريق ذلك من قبل. ولا يغني الوالدان في طريق الدلالة على الله، إلا إن كانا من الدالين الربانيين؛ وهو أمر نادر. وهذا الخلط في الكلام من غير تمييز لحدود تربية كل صنف، لن يعمل على إزالة الأذى من طريق التربية، بل سيزيده رسوخا وكثرة، كما هو جلي. وأما إن علمنا أن أغلب تربية الوالدين في مجتمعاتنا -رغم المظاهر- ليست تربية دينية بالمعنى الصحيح، بسبب الانحرافات المتراكمة عبر القرون، والتي انضاف إليها الغزو الثقافي الغربي؛ فإننا سنعلم أنه كان أولى بالكاتب التحذير من هذه التربية المبعدة عن الفطرة، بدل القفز عليها، وكأننا في عصر التابعين. وذلك لأن طاعة الوالدين في كل شيء، والتي يعمل على ترسيخها الفقهاء من دون تمحيص، قد أدت إلى عكس ما أوصى الله به، من طاعة للمخلوق في معصية الخالق. وقد أصاب الأمة من أضرار الوالدِين، ما يفوق ما أصابها من ضرر الحكام، وإن كان الكاتب لا يرى إلا هذا الأخير، بسبب المسحة اليسارية التي لديه. وأما وصية الله الأصلية بالوالدين، ودعوته عباده إلى شكرهما فورا بعد شكره سبحانه؛ فلأنهما سبب الوجود الذي هو من الله. فكأن الله يأمر عباده بشكره على إيجادهم وإيجاد ما هو ضروري لوجودهم (الرزق)؛ ويأمرهم بشكر والديهم لأنهم سبب ذلك الوجود، لاقتضاء حكمته سبحانه أن لا يأتي أحد إلى الدنيا إلا من والدين. وأما قول الله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، فإنه الدليل الشرعي على اتخاذ الشيخ المسلك، في قطع الطريق إلى الله تعالى. وقد جمع الله في هذه العبارة بين ذكر الطريق (السبيل) والدال عليه (من أناب إليه)، ليُفهم من هذا الاقتران أن الطريق بلا دال مخالفة للقاعدة، وأن الدال من غير التزام بشروط السلوك أو من غير علم به، لا يُجزئ؛ لأنه إعدام لمعنى الطريق وحقيقته بالفعل. والإنابة هي كثرة الرجوع إلى الله، ولا يكون هذا إلا ممن كان في طور بناء إيمانه التفصيلي من مرتبة الإيمان؛ أو من كان من أهل المراقبة الذين يرجعون من الغفلات؛ أو من كان من أهل المشاهدة الذين يرجعون من صورة إلى صورة بحسب التجلي؛ أو كانوا يرجعون من صورة التجلي إلى المتجلي؛ وهذه كلها تناسب أحوال أهل الإحسان، من بدايته إلى نهايته. وأما الأوبة، فهي الرجوع من الله إلى الله؛ وهي لا تكون إلا للأنبياء وللورثة وحدهم. وأما التوبة التي أخرنا الكلام عنها مراعاة لترتيب كلام الكاتب، فهي لأهل مرتبة الإسلام، لأنها تكون من الذنوب إلى الطاعات. وبهذا تكون التوبة والإنابة والأوبة كلها بمعنى الرجوع، لكن بحسب مرتبة الراجع والمرجوع عنه. وأما نسبة هذه الألفاظ كلها إلى الأنبياء عليهم السلام في القرآن، فللدلالة على مرتبة الرجوع لا على مرتبة الراجع: فإن كان من مرتبة الأفعال، فإنه يكون توبة؛ وإن كان في مرتبة الصفات، فإنه يكون إنابة؛ وإن كان في مرتبة الذات، فإنه يكون أوبة. وذلك كقول الله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، والذي هو من مرتبة الإسلام؛ وكقوله سبحانه في حق داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]؛ والركوع من مقام الصفات، فهو مناسب للإنابة؛ كما أن مسألة المائة نعجة، هي مسألة تتعلق بالأسماء الإلهية (من جهة الباطن) التي هي من مرتبة الصفات والأفعال أيضا. وأما الأوبة فقد ذكرها الله في مثل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17]؛ والإشارة هنا إلى التصرف بالأسماء عن تحقق؛ والأوبة بصيغة المبالغة في الصفة هي للرسوخ في التحقق؛ وهو أعلى ما يكون لأهل الله، بحيث لا مكانة وراء هذه تُطلب. وأما الأوبة في قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ . وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 18، 19]، فهو يدل على مقام داود لا على مقام المخلوقات المسخرة، لأن أوبتها إليه منه لا منها. وهذا كله من تحققه عليه السلام. وعلى كل حال، فإن هذا العلم غريب، وقد جرنا إليه الاستطراد في الكلام؛ فلنعد... [إن غابت السلسلة الفطرية، سلسلة الأبوين، فاتبع خُطى "من" أناب. ابحث عن هذا "المن" لعل أنامِلَ روحانيته تمتد إلى قلبك بلمسات المحبة ونسمات الشوق إلى ربك والحنين إليه. ولعل التوبة واليقظة الروحية، وهي أعمال قلبية، تُؤصِّلُ لكَ دينا أوسع أفقا وأعلى مرتقى من مجرد "الالتزام" الذي لا يبدأ بك سلوك الطريق إلى الله، لأن سُلَّم الإسلام فالإيمان فالإحسان مفهوم غريب عن الوقت.]: يقصد الكاتب من هذا الكلام، أن الناس وفي مقدمتهم علماء الدين، لم يعودوا يعلمون الدين كما شرعه الله: طريقا إليه سبحانه، يقطعه العبد بالترقي في المراتب الثلاث المعلومة من حديث جبريل عليه السلام الشهير. وهذا صحيح!... فإن الناس صار إسلامهم في زماننا مشابها لدين الكتابيين؛ ونعني أنهم يحافظون على بعض الشعائر، ويحرصون منه على بعض التقاليد، ويقنعون بالنسبة العامة، ويرجون أن يكون هذا كله كافيا لأن يدخلوا به الجنة. والملاحظ هنا، هو غياب الصلة بالله، التي كان ينبغي أن تكون محور تديّنهم، والذي سببته الانحرافات المتراكمة عبر القرون. وهذا الصنف من التدين، يكون فيه العبد على خطر؛ لأنه مبني على غير أساس. والدين -حتى يكون أصليا- ينبغي أن يكون كدين الصحابة، الذين فروا إلى الله من الكفر بأنواعه، فآواهم سبحانه في رحمته التي ما الجنة إلا مظهر من مظاهرها. والخروج من تدين التقليد إلى التدين الحي، يكون بصحبة من حَيُوا بحياة الله. وحياة الله هي ما كان موسى يتقصاه في طريقه مع فتاه، بارتفاق السمك المشوي؛ لأنها وحدها ما يعيد الميت حيا حقيقة لا مجازا. نعني من هذا أن العبد الرباني المسمى خضرا، كان من هؤلاء الذين تحيا بصحبتهم القلوب التي أماتتها الغفلة... وأما "الالتزام" الذي يعرفه الإسلاميون، فهو شبيه بالالتزام الذي هم عليه أصحاب التنظيمات الأيديولوجية. ولقد عرفنا منهم ذلك عن قرب، عندما عاشرناهم بضعة شهور في بدايتنا؛ فكنا نراهم يأخذون الصلاة في المسجد، وكأنها واجب شبه عسكري؛ من شدة غياب الصلة التي تكلمنا عنها. ولقد كدت أنجرف معهم في العمل التنظيمي -مع ظهور مقدرات منّ الله بها علي في التنظيم والإحصاء، جعلتني سريعا محط نظر القيادة- لولا أن الله نبهني إلى البعد الذي صار يزداد عندي في باطني. فأذكر مرة وأنا في صلاة جماعية (لعلها صلاة مغرب)، وأنا أرقب باطني وأقارن في ذلك حالي مع ما كنت عليه عندما كنت كسائر الناس من أهل الغفلة، فوجدت قلبي قد صار أبعد عن الحق؛ وشعرت بالحياء من ربي وأنا أنظر إلى سواه وأشتغل بما لم يأذن لي فيه. فكان هذا بداية استيحاشي من طريق الإخوان... ["أصل الدين في الحقيقة هو الأمور الباطِنَة من العلوم والأعمال، وإن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده: "الإسلام علانية والإيمان في القلب"]: يريد الكاتب أن يقول: حقيقة الدين هي الأمور الباطنة؛ وإلا فإن أعمال الظاهر هي الأصل الذي يبدأ به العبد طريقه؛ وهي (أي الأعمال) تستمر معه إلى أن يأتيه الموت، من كونها منوطة بالبدن نفسه ما دام حيا. وهذا المعنى، هو ظاهر قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. وهذا الترابط بين ظاهر الأعمال وباطنها، الذي أحسن الكاتب بالإشارة إليه، يأتي من الحقائق التي هي أساس بناء الأعمال. فالحقائق التي هي المفردات البانية للأعمال في جميع مراتبها، إذا ظهرت في عالم الأجسام كانت صورا فعلية وقولية؛ وإذا ظهرت في عالم الأرواح، كانت معاني قلبية تكون روحا لكل تلك الأعمال. وتبقى الحقائق بسيطة في عالم الحق، لا يعلمها إلا أهل التحقق. [إفراط في الحديث عن "ثقافة الإسلام" و"حضارة الإسلام" و"البديل الإسلامي". وتفريط مخل في التربية. يا إنسان!]: يريد الكاتب أن يشير إلى التناول الجديد للدين من قِبل المتأخرين، والذين أدخلوا عليه مصطلحات غريبة عنه، من مثل الحضارة والثقافة. والمقصود، ليس هو رد هذه المصطلحات -لأن الرد سيكون سهلا، من دون أن يفلح الراد معه في وقف الاستعمال الذي قد ينحرف أو قد يسيء إلى الأصل- وإنما هو تبييئها؛ بحيث تنصهر في الإسلام وتعمل داخل دائرته. ورأي الكاتب أن الإفراط في الدعوة إلى ثقافة إسلامية وإلى استعادة أمجاد حضارة إسلامية، مع إهمال التربية التي هي بمعنى التزكية المشروعة، لن يكون دليلا على الاهتمام بالدين أو على إرادة خدمته حقيقة، بقدر ما يدل على فُصام في شخصية المسلم، ينبغي العمل على التعافي منه، قبل الكلام عما هو فوق طور الإنسان من علوم. ونحن -لا شك- نوافقه على ما يقول؛ لكن بشرط توافر التربية كما هي في أصلها، لا بإبدال الأيديولوجيا بالتزكية الشرعية، وإحلالها محلها. ذلك لأن التحريف ليس منوطا بشيء دون آخر في مجال الدين، وإنما هو عام يشمل التربية عينها، كما يشمل كل شيء غيرها. ونعني من كلامنا، أن العودة إلى الإسلام، ينبغي أن تكون حقيقية، وفي جميع الجزئيات؛ خصوصا فيما هو من الأصول الأولى كالتزكية. والتزكية إن لم تكن خالصة من الشوائب، فإنها لن تُفلح في العودة بالمصطلحات إلى أصلها، وفي تجريدها من الحمولة المستصحبة من الحضارات الأخرى؛ وبالتالي فلن تجعل العبد المسلم يعيش إسلامه كما هو. [أول خطى التربية التوبة ثم اليقظة. كانت التوبة في عصور الفتنة بعد الخلافة الراشدة الأولى عبارة عن التوبة من الذنب والمعصية، والتائب في مأمن وعافية، لا هم له إلا صراعهُ الداخلي ووخز ضميره ومعاملته مع الله، يُؤَرِّقُه هم الآخرة.]: نعم، أول خطوة في الطريق تكون التوبة: من الذنب، إن كان العبد مسلما عاصيا؛ ومن الكفر، إن كان العبد كافرا مقبلا على الدخول في الإسلام. ومن هذا الصنف الثاني، كانت توبة الصحابة رضي الله عنهم، عندما كانوا يجيبون الداعي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الصنف الأول، فيجعله الكاتب متعلقا بعصر التابعين، عندما بدأ الناس يخرجون إلى المعاصي مع كونهم مسلمين؛ وهذا على عمومه صحيح، مع بقاء الاستصحاب ساريا في كل زمان. لكن الضعف الإيماني الشديد الذي يعرفه زماننا، جعل التوبة من الذنب تكاد تكون غائبة، بسبب قرب الناس من الكفر بالحال. وهذا يجعل جلهم الآن، يحتاجون إلى توبة عامة، تشبه التوبة من الكفر؛ ينطقون فيها بالشهادة من جديد، وبنية جديدة. فإن كان ذلك مع دال على الله رباني، فإنه يكون أفضل، وأسرع في تحقيق الغاية؛ وإلا فإنه يُخاف على التائب -لشدة بعده- أن يعود في كل مرة إلى ما كان عليه. وهذا الذي نذكره هنا، هو السبب في انتقاض التوبة لدى كثيرين بسهولة، إلى الحد الذي يجعلهم يشكون في الدين أحيانا، وفي أهليتهم للتدين أحيانا أخرى. وهذه الحال، مما لا ينفع معه استفتاء الفقهاء ولا استرشادهم، وهم من قد يكونون عليها. نقول هذا، لأن الاشتغال بالعلوم الدينية وحده، لا يفيد في إصلاح الباطن شيئا، بل قد يزيد في فساده وحجابه، كما هو معلوم لدى أهل التربية منا. [في عهد النبوة والخلافة الراشدة كانت التوبة من الشرك والمعاصي هَمّاً مزدوجا، لأن الجهاد وواجبه وضروراته وحضور الموت واحتماله في كل خروج في سبيل الله تُكَوِّن ظروفا يلتحم فيها مصير الفرد بمصير الجماعة، ويتميز فيها المنافقون من الصادقين.]: لا معنى لإقحام احتمال الموت في الجهاد، والموت متربص بالعباد في أيام الحرب وأيام السلم على السواء؛ إلا ما يكون من تذكير بالجهاد المبهم الذي يريد الكاتب أن يجعله استمرارا لجهاد الصحابة، من دون أن تتحقق شروط الربط والمطابقة. أما إن كان يريد أن يبرز إغفال الناس لذكر الموت عند انغماسهم في المعاصي، فيما بعد القرون الخيّرة، بالمقارنة إلى الصحابة الذين كانوا يستعدون له المرة بعد الأخرى، فهو صحيح؛ وبين الفئتين في هذا، ما بين المشرق والمغرب من البعد. لكن حضور الصحابة، لم يكن بسبب الجهاد المقيم بينهم رضي الله عنهم وحده؛ وإنما بسبب النور النبوي الذي استنقذهم من عبادة الأوثان قبل أن يعلموا طريقا إلى توبة ولا إلى غيرها. ونعني أن المدد النبوي، هو ما ينبغي ذكره عندما نعرض لأحوال الصحابة، التي صاروا فيها به أئمة للعالمين من بعدهم. وأما إبقاء الأسباب في نطاق العادة، فإنه يُنقص من قدر الأسس الشرعية التي ينبغي اعتبارها في الدين. وإذا لم يتم للناس هذا التمييز، فكيف سيهتدون إلى ما كان عليه الأولون من الاستمداد، وهم من تحيط بهم الفتن من كل حدب وصوب، بما لم يخطر للسابقين على بال. [في زماننا صحوة إسلامية يغلب فيها الهم الاجتماعي الجماعي السياسي على الهم الفردي الأخروي، ويأتي مصطلح "الالتزام" الغريب عن القرآن ليمحو المعالم. فلا تمييز يرجى.]: نعم صحيح!... لكن التفريق بين الأمرين ليس تفريقا بين ماهيتين فحسب؛ وإنما هو قبل ذلك تمييز بين طريقين: طريق أصلي مشروع، قوامه الوحي والمدد؛ وطريق بدعي، ينبني على فكر الإصلاحيين والسياسيين. وما لم يقع التمايز في هذا المستوى، فلا تمييز يُرجى. وسنرى إن كان الكاتب سيُوفّق في مقاربة ما ذكرنا، أم إنه سيكتفي -على عادته- بالتعميم والإجمال. [الذي يبحث عنه علماء الدعوة أمثال الشيخ سعيد رمضان البوطي والشيخ سعيد حوى هو القنطرة الواصلة بين ذلك العهد الأول المتمايز وهذه النهضة العارمة الشديدة الاضطراب الفكري والغبش التربوي. "الأولياء قناطر الخلق، يعبر الموفقون عليهم إلى الله تعالى. هم العاملون المخلصون الخالصون". "القوم أرشدونا، دلونا على الطريق، كشفوا لنا حجاب الإغلاق عن خزائن الكتاب والسنة، عرفونا حكمة الأدب مع الله ورسوله. هم القوم لا يشقى جليسهم. من آمن بالله وعرف شأن رسوله أحبهم واتبعهم" [1].]: البوطي وسعيد حوى، فَعلا ما في مستطاعهما من دعوة الناس إلى طريق التزكية. ويُعرف لهما -رحمهما الله- أنهما علما أن الطريق ليس ما يسلكه جمهور المتأخرين من الإسلاميين، المغرقين في التنظير الفكري، الذي لا يلبث أن يسقط في الشرَك السياسي الذي تصير معه السياسة لدى العاملين من الفرائض الأولى الدينية؛ وإنما هو المحجة البيضاء، التي لا يختلف فيها حال اللاحقين عن السابقين. كل هذا، وهما -رحمهما الله- لم يخبُرا السلوك بمعناه الصحيح؛ وإنما اكتفيا بالوصف من خارج. وهذا الحد وإن كان دون المطلوب، عز عن جل علماء الدين المعاصرين؛ حتى صار يُنظر إليهما وكأنهما صوفيان، لشدة ندرة البضاعة. وأما كلام الشيخ الرفاعي رضي الله عنه، فهو كلام خبير، يعلم ما يتكلم فيه علم ذوق من جهة السلوك ومن جهة الإسلاك. وقد دل رضي الله عنه في أوجز عبارة على الأصول الحاكمة، والتي هي: 1. وجود الأولياء ضروري لمن كان يريد وجه الله. 2. من هُدي إلى ولي، فهي علامة التوفيق من الله لديه؛ عليه أن يعرف قدرها وأن يشكرها. 3. الأولياء رحمة، يسعد بهم مجالسهم، ما لم يكن منكِرا لما هم عليه. 4. من كان يحب الله ورسوله، فإنه يكون محبا للأولياء بالتبع؛ ومن أبغضهم، فإنه يكون كاذبا في دعواه. [باتباع المنيبين فقط يمكن أن تحمل الهم المزدوج حملا متوازنا. باتباع المنيبين فقط يمكن أن نرجع إلى الله، ونبُلَّ غُلة النّفس، ونكف عن زرع الأماني والتواني، ذلك الزرع الذي لا يُحصد منه إلا التلف واللهف.]: الكلام كالعادة، صحيح على عمومه؛ ويبقى المهم فيه من هو المنيب؟ وما هي علاماته؟... وأما "الهم المزدوج"، فإنه إشعار بالشرك عند الانطلاق، قد يصل بالعبد إلى الشرك في الغاية المرحلية؛ لأن الهم ينبغي أن يكون واحدا لا اثنين!... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، كَفَاهُ اللَّهُ مَا هَمَّهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَمَنْ تَشَاعَبَتْ بِهِ الْهُمُومُ، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا هَلَكَ.»[2]؛ والهم الواحد ليس إلا الله، الذي ينبغي أن يتوجه إليه وجه عبده في كل أوقاته، ومن بداية سن التمييز. ويُخشى أن يكون هم الحركيين هما متشاعبا، يجعل العبد يسقط من عين الله... [في قلب العبد ثلاثة أنماط من المعاطب، يكون مجموعها مرض النفـاق. تكون التوبة ذات الدلالة الأعم أدعى إلى السير الحثيث صعودا في عقبة الإيمان والإحسان إن تطهر العبد بماء التوبة يستفيضه من المنيبين، ورشف من ذلك الماء رشفات تذيقه حلاوة الإيمان، فيستزيد ويستزيد حتى تنفر نفسه من المعصية، وحتى يكون الاستغفار واليقظة التامة في كل صغيرة وكبيرة من أعماله رفيقين دائمين.]: هذا الكلام وعظي وعام، وفيه خلط بين المراتب مرة أخرى، فكأن الإيمان والإحسان في متناول كل مسلم؛ والأمر بخلاف ذلك كما هو معلوم. بل إن ما يقع فيه الإسلاميون من خلط بين العمل السياسي وما يظنونه عملا تزكويا، ينزل بهم عن تمام مرتبة الإسلام ذاتها؛ فكيف يُتكلم بعد ذلك عن إيمان لهم أو عن إحسان؟!... إن هذا لشيء عجاب!... وليست الغاية من الدين النفور من المعصية وحده، وإنما هذه غاية مرتبة الإسلام فحسب؛ ويبقى على العبد أن يرفع نظره إلى ربه بعد ذلك وأن ينسى في الله نفسه، بحسناتها وسيئاتها؛ وإلا فمتى يتوجه العبد إلى ربه إن كان لا يُجاوز بنظره أحوال نفسه!... نعم، إن هذا المستوى من الخطاب، هو معتاد الناس من كلام الفقهاء الذين يتخذون الطريق منزلا للإقامة (!)؛ ولكن الأستاذ عبد السلام، كان ينبغي أن يتجاوزهم، وهو من يزعم الإحسان لنفسه، ويزعم أنه يدل عليه!... [روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث -زاد مسلم: وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، ثم اتفقت رواية الشيخين- إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر". وروى الشيخان وغيرهما عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب عبدا لا يحبه إلا لله، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار". ثلاث بثلاث. أولئك يبدل الله سيآتهم حسنات.]: الأمر ليس بمطابقة العدد!... والثلاث الأولى ليست في مقابل الثلاث الأُخر، حتى يُقال بتبديل السيئات حسنات هنا. ونعني من هذا أن آيات المنافق، من آفات مرتبة الإسلام؛ والنفاق يقابل هنا إيمان الإسلام لا إيمان الإيمان. وأما الثلاث اللاتي من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان، فهي من أحوال مرتبة الإيمان. وهذا الخلط لا ينفع في تبيّن الطريق، كما اشترط الكاتب سابقا ووافقناه. وينبغي التفريق في النفاق هنا أيضا، بين النفاق التام والنفاق الجزئي؛ فمن كانت فيه آيات النفاق الثلاث، كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه واحدة أو اثنتين، ففيه من النفاق بحسب ذلك. ولا يتم الإسلام (المرتبة) لأحد، حتى يبرأ من آيات النفاق كلها. وأما أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فهو معنى لا يُعلم من العبارة وحدها؛ ولا من دون ابتلاء في ذلك؛ لأن هذه الدعوى لا يخلو منها مسلم. وهل كل مسلم هو على تلك الصفة؟!... وكذلك هو الأمر في محبة العبد لله، وفي كراهية العودة في الكفر. فهذه كلها لا بد فيها من ذوق ينتج عن ابتلاء. ورغم أن هذه الخصال هي مما يُعلم معناه من اللغة بسهولة، إلا أنها خارج إدراك جل المسلمين في الحقيقة. فما الظن بما هو أعلى من هذا وأدق!... [توبة من شرك أو نفاق على خطى حكيم منيب سائر إلى الله محب لله محبوب ليست كتوبة من معصية خوفا من عقوبة الآخرة.]: يخلط الكاتب هنا، ويقع فيما وقع فيه المتسلفة من قبله من دون أن يدري؛ وذلك بجعله التوبة مع المنيب (الشيخ) من الشرك والنفاق، وكأنها أعلى في المرتبة من التوبة من المعصية التي هي من مرتبة الإسلام العام (بدون شيخ). ولقد كان يجب عليه أن يخصص الشرك والنفاق، حتى لا يبقيا على المعنى الأصلي الذي هو مخالف للإسلام وموافق للكفر. وكان ينبغي أن يذكر أن الشرك هنا أصغر، وأن النفاق جزئي؛ حتى يسلم الإسلام أولا، لمن كان مع "المنيب". وبهذا الانعكاس في المعايير، المفضي إلى انعكاس الفهم؛ بحيث يصبح من هو من مرتبة الإيمان عرضة لما هو مناقض للإسلام، الذي يفترض أنه قد صح وتم له، يكون الكاتب مؤكدا لما هو خلط والتباس، بدل أن يكون معينا على الخروج منه. وأما المقابلة بين اتباع المنيب، والتوبة من المعصية خوفا من عقوبة الآخرة، فلا تصح؛ لأن اتباع المنيب ينبغي أن يزيد من حرص التابع على التوبة من المعاصي، ومن خوفه من عقوبة الآخرة في مرتبة الإيمان؛ لأن الخوف من مقامات الإيمان، به يصح ويقوى. وهذا الاضطراب في الكلام من الكاتب، لا ينم إلا عن عدم الضبط، مع إرادة لديه للظهور بمظهر المحيط بكل هذه التفاصيل. وهو أمر إن لم يُتوسل إليه بالعلم، يعود عمى على السامعين، كما هو واقع. [أن تحب عبدا لا تحبه إلا لله، وأن تتبعه وتتخذ قلبه المنور قنطرة لقلبك، حركة لا تقف بك عند الدوران في العقد والنكث، ما عاهدت الله عليه بالأمس تنقضه اليوم.]: المحبة لله، كما ذكرنا سابقا، هي من أحوال الإيمان التفصيلي وتوابعه؛ وهي ليست مقتصرة على الشيخ، كما يريد أن يُفهمنا الكاتب؛ وإن كانت محبة الشيخ منها. بل هي محبة عامة تجعل المؤمن يحب غيره لله، لا لدنيا، ولا لاتفاق أهواء، ولا لخدمة مشاريع وهمية جامعة، كما هو شأن جل الإسلاميين. وهذا الصنف من المحبة (المذكور في الحديث)، من أندر الأشياء في زماننا. وقد ذقنا منه -بحمد الله- منذ دخولنا الطريق، وفي الأيام الأولى منه، ما كنا نشتهي معه تقبيل أرجل كل المسلمين. وأذكر يوما أنه غلبني -وقد كنت حريصا على التكتم- فقبلت يد شخص صلى بجانبي، فرأيته متعجبا من فعلي، مع كوني قد وجدت لذلك ذريعة هي كونه في سن والدي. وأما المحبة التي يدعو الكاتب إليها، والتي يلبسها ثوب محبة الشيخ الدال على الله، فهي محبته هو دون سواه؛ لتصح متابعة محبيه له في مخططه الذي بدل أن ينتهي بهم إلى معرفة الله ومحبته، يسير بهم في طريق مجهول، الغاية منه الوصول إلى الحكم في بلاده؛ وهذا كله زور على زور!... فلا المحبة التي يدعو إليها هي لله، ولا الغاية منها هي الله. ويريد من التابع أن يعاهده عليها عهدا لا نكث بعده، ويُدخل هذا ضمن مقتضيات الإيمان، من دون أن يشعر السامع (القارئ) أن الوجهة قد تغيرت وأن النتيجة قد انقلبت. والشيخ إن لم يكن يدل مريده على الله، فحكم اتباعه الحِرمة؛ لأنه لا أحد من الناس يجوز أن يُتبع لذاته، أو يُتخذ قدوة من غير دليل، إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكون دلالته على الله ذاتية. وقد هلك كثيرون، عند اتباعهم لمن لا أهلية له، وعند معاملتهم له معاملة من هو من أئمة الدين حقيقة. وهذا الصنف من أهل الضلال، لا يوسوس الشيطان لهم في صلتهم بمتبوعهم في الغالب، لعلمه -لعنه الله- بموافقة ذلك لغرضه منهم. والمساكين يظنون أن ذلك من قوة اعتقادهم، أو من صفاء محبتهم؛ وهيهات!... [حركة مع "من أناب" إلى الله تسير بك، تضع قدمك على أول الطريق. قال سلطان العلماء: "التوبة صفة المؤمنين (...) والإنابة صفة الأولياء، قال الله تعالى: "وجاء بقلب منيب"، وأما الأوبة فهي صفة الأنبياء والمرسلين". حتى قال: "فشتان بين التائب من الزلات، وبين التائب من الغفلات، وبين التائب من رؤية الحسنات".]: ليس المطلوب من العبد أن يتحرك "مع" من أناب بحسب الزعم؛ وإنما المطلوب أن يتحرك إلى الله تحت نظره. والحركة "مع"، تعني العمل الحركي وتنطبق عليه، أكثر مما تدل على السير إلى الله؛ إلا إن كنا نحصر معنى "مع" في الصحبة بالمعنى الصوفي وحده وبشروطه. وأما تفسير معنى التوبة والإنابة والأوبة (والذي هو لعز الدين عبد السلام بن أحمد بن غانم المقدسي، من كتابه "حل الرموز ومفاتيح الكنوز"، لا للعز بن عبد السلام السُّلمي)، فإنه قارب المعنى ولم يصبه من جهتين: الأولى عند جمعه بين أهل الإسلام وأهل الإيمان في مرتبة واحدة، هي مرتبة الإيمان من دون تمييز بين إجمال فيه وتفصيل؛ وإن كانت هي المناسبة للتوبة حقيقة. والثانية، عند جعله الأوبة للأنبياء والمرسلين وحدهم، وهي للورثة أيضا بعدهم عليهم السلام. ولقد سبق لنا نحن الكلام في هذه المعاني في فقرة سابقة، فلا داعي إلى التكرار. وأما قول القائل "فشتان بين التائب... من رؤية الحسنات"، فهو يدل على عدم انضباط هذه المعاني للقائل، ويدل على أنه ما زال من العوام باعتبار المراتب؛ لأن نظره لم يجاوز الذنوب والغفلات والحسنات، وهذه كلها من أحوال العامة الناظرين إلى أنفسهم. [القلب المنيب وما فيه من حب لله وإخلاص له هو أصل الدين بشرط أن تُقيم الأعمال الظاهرة على قانون الشرع، "فإن حركات الظاهر توجب بركات الباطن" ومن ملأ قلبه حب الله والإخلاص له، وبرأ من النفاق والشقاق، كان وليا لله، لا يتعامل مع الله عز وجل إلا على أساس أنه مذنب مقصر مهما كان عمله.]: هذا كلام فيه اضطراب كثير!... فالقلب الذي يحب الله ويُخلص له، يُفترض أنه وصل إلى ذلك باتباع الأمر واجتناب النهي اللذين هما أساس العمل بالشريعة؛ فكيف بعد هذا يجعل النتيجة سببا والسبب نتيجة!... وأما حركات الظاهر، فلا تعود بركات على الباطن، إلا إن كانت على السنة. ونعني من هذا، أن العاملين للإسلام بحسب الحركة السياسية داخل التنظيم المتأدلج، لا تعود حركتهم بركة، وإنما تعود ظلمة على قلوبهم؛ وتزيد من ظلمتهم السابقة، بدل أن تمحوها. وأما البرء من النفاق والشقاق، فقد يكون بالمعنى العام، وقد يكون بالمعنى الخاص؛ ونعني من هذا، أن من شهد له الكاتب بالولاية، قد لا يكون وليا بالمعنى الخاص. وهذا الخلط، هو ما سيجعل الحركيين من الإسلاميين يعتقدون الولاية في أنفسهم بسهولة؛ فيخرجون بذلك إلى طريق معاكس لها (طريق الفراعنة) وهم لا يشعرون. وأما عامة الناس، فإنهم بهذا الخلط سيزيد جهلهم بمعاني الدين، بحيث لا يعلمون منه زيادة من نقصان، ولا تقدما من تخلف؛ وقد ينفرون من الدين بالكلية، إن هم كانوا على عقلانية يرون بها التناقضات التي ينطوي عليها الكلام. وأما جعل الكاتب صفة الولي أنه يرى تقصير نفسه ويشهد ذنوبه، فهو لا يصح إلا بالمعنى العام الذي يوافق مرتبة الإيمان؛ وتبقى الولاية وراء هذا كله عزيزة المنال. وهذا الكلام منه، يدل على أنه لا يعلم حقيقة الولاية، وليس له قدم فيها؛ لأن الولي لا بد أن يعلم الولاية حتى يكون وليا، باستثناء أرباب الأحوال المولّهين. وإنّ كلام بعض العوام المتداول على ألسنتهم، بأن مِن الأولياء مَن لا يعلمون أنهم أولياء (يريدون من هذا تسهيل توهم الولاية على أنفسهم وإن كانوا من الفاسقين)، ليس صحيحا؛ لأن للولاية علوما خاصة بها، بها يمتاز الولي عن غيره من الناس. يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]. وأولو الألباب هم الأولياء الذين ينظرون إلى بواطن الأشياء (ألبابها)، عندما لا ينظر الناس إلا إلى ظواهرها. [يتوب إلى الله لما يعرف من أن الله جلت عظمته يحب التوابين ويحب المتطهرين (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توبوا إلى ربكم، فوالله إني لأتوب إلى ربي في كل يوم مائة مرة". رواه مسلم)، ولما يعلم أن الله عزت قدرته ووسعت رحمته يفرح بعبده التائب.]: هذا الكلام وعظي في عمومه، وليس له من العلم الخاص نصيب؛ لأن التوبة التي يعنيها، هي من شأن العوام لا الخواص؛ وقد سبق لنا الكلام في أقسام التوبة ومراتبها. وأما توبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه ذكرها صلى الله عليه وآله وسلم، ليتبعه التابعون؛ ويتوبوا كلٌّ من مرتبته بتوبته، ليضمن لهم القبول بعدها عند الله؛ وتبقى توبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه بعد ذلك مجهولة، لا نعلم منها إلا الاسم. وكل من يقول غير هذا، فهو جاهل جهلا فادحا، تحسن به التوبة منه، إن كان يريد أن يستقيم على الطريق. [تَسبق في حساب العبد المنيب الرابطة الوثقى رابطة حب الله والفرح بالله توقعات الثواب وخوف العقاب. يكون حياؤه من الله وخوفه من الله وولاؤه الخالص لله وذكره الدائم لله الباعث والوازع. وتراه في جزئيات الأمر والنهي ودقيقات الشرع أورع الناس وأحرص الناس على خير.]: كان الأولى به -حتى لا يبقى الكلام خلطا لا معنى له- أن يقول إن توبة أهل الإيمان، مخالفة لتوبة أهل الإسلام، من حيث الملحظ؛ فأهل الإسلام يسوسهم الثواب والعقاب، بينما أهل الإيمان يسوقهم الحياء وخوف المقام (التوقير). يقول الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]. [اقرأ معي هذه الصفحة النيرة كتبها قَلْبٌ نَيِّر: "السر الأعظم الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رؤوس الأشهاد، بل شهدتهُ قلوب خواص العباد، فازدادت به معرفة بربها ومحبة له، وطمأنينة وشوقا إليه، ولَهَجا بذكره، وشهودا لبره ولطفه وكرمه وإحسانه، ومطالعة لسر العبودية، وإشرافا على حقيقة الإلهية. وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَلّه أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلة بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيِس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيِس من راحلته. فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده. فأخذ بِخِطَامِها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح". هذا لفظ مسلم.]: الكلام المنقول لابن القيم، وهو ليس من أصحاب القلوب النيّرة؛ ولو كان كذلك، لخرج عن طريق شيخه ابن تيمية وأعلن ذلك. وكل ما قاله من كلامه هو، لا فحوى له في الحقيقة؛ لأنه عندما يتكلم عن معرفة الله ومحبته، يفهم منهما غير ما يقصده أهلهما؛ وعندما يتكلم عن سر العبودية وعن حقيقة الإلهية، فهو لا يعني غير ما هو عليه وشيخه من اعتقاد فيهما؛ فالكلمات عند ابن القيم وشيخه جوفاء لا معنى لها. وهذا التشبه في الكلام بالخواص، هو من التدليس الذي أخذه عن ابن تيمية المدلس الأكبر. وبما أن الكاتب يورد هنا هذا الكلام، فإنه يشهد بذلك على نفسه أنه لا صلة له بالولاية، ولا بالعلوم الخاصة التي تكون للأولياء؛ لأن الولي يعلم حقيقة ابن تيمية من أول نظرة في كلامه. وأما الحديث النبوي الشريف الذي استشهد به ابن القيم، ففيه أسرار، لا يعلمها لا هو ولا الكاتب ولا غيرهما، ممن يكررون الألفاظ ويظنون أنهم بذلك قد حصلوا المعنى... [وقال كبيرنا المستنير القلب. الجميل العبارة: "اعلم أن العبد، قبل وصول الداعي إليه، في نوم الغفلة. قلبه نائم وطرفه يقظان. فصاح به الناصح، وأسمعه داعي النجاح، وأذن به مؤذن الرحمن: حي على الفلاح. فأول مراتب هذا النائم اليقظة والانتباه من النوم.]: إن كان ابن القيم كبيرا للكاتب، فقد عرفنا مع من نحن!... وأما عبارة ابن القيم نفسها، فهي من سنخ الوهم، الذي يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. فهو يتكلم عن اليقظة القلبية وكأنه يعرفها، ويتكلم عن الانتباه من النوم وكأنه انتبه؛ وما حاله إلا كمن رأى في نومه أنه استيقظ، فظن أنه قد خرج من النوم، وهو بعد فيه. وهذا الحال من أعجب الأحوال، يعيشه أصحاب التلبيس، ويعطون لكل المصطلحات معاني يظنونها أصلية؛ وهم في الحقيقة لم يعلموا من ذلك كله شيئا. وهذا من جزاء الله لمن أساء الأدب من عباده معه. ويصدق عليهم في حالهم هذا، قول الحق تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، وقوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71]، وقوله تعالى أيضا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ . وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 3، 4]. ولما نظر من لا نور له في كلام هذا الصنف، ووجده مبنيا على القرآن والسنة في ظاهره، توهم أنه حق؛ وأخذ عنهم دينا هو غير الدين، وعرّفوه طريقا هو غير الطريق؛ وانتهى إلى غاية ليست هي الغاية. فمن بصّره الله وهو بعد في الدنيا، فإنه يتوب ويرجع عما كان عليه من عماية؛ ومن لم يُفق، بقي على ذلك حتى يلقى الله وهو عليه غضبان. فمن كان ذا يقظة حقيقية، وانتبه انتباهة صحيحة، فإنه سيغادر طريق ابن تيمية سريعا وقبل أن يحل به الموت، ليضمن استقامته على السنة. وبما أن صاحبنا مازال ينظر إلى ابن القيم وابن تيمية على أنهما من الكبراء، فهذا يعني أنه -كما لم ينتبها هما من غفلتهما- باق على غفلته كشأنهما. ولو كان الأمر بالكلام وحده، لَما جاز لكل من شاء من الناس، أن يقول ما شاء؛ من دون أن يغيّر ذلك من الواقع شيئا. وأما شهادة العبد لنفسه فمجروحة، تدخل في التزكية للنفس التي نهى عنها الله في قوله سبحانه: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. وهنا لطيفة، وهي أن بعض الناس قد يرون كلام أهل الله الذي يظهر وكأنه تزكية للنفس، فيظنون أنهم ممن يدخلون في زمرة مَن وصفنا؛ والحقيقة هي أن الأولياء عندما يقولون ذلك عن أنفسهم، فإنهم يكونون ناطقين بالله لا بأنفسهم كحال ابن تيمية ومن تبعه. وأقل أحوالهم في ذلك، أن يكونوا حاكين لتزكية الله لهم. وأما تزكية الله لهم، فيعلمونها منه سبحانه علما يقينيا لا يتطرق إليه الاحتمال؛ وهذا هو ما يشير إليه قول الله عنهم في آية الولاية: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس: 64]. فهم مخالفون لجميع الناس من هذا الوجه!... وهل يكون الولي في أحواله في دنياه وآخرته، كسائر الناس!... [(...) وصاحب "المنازل" (يعني شيخ الإسلام الهِروي) يقول: (اليقظة) هي القومة لله المذكورة في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾.]: أبو إسماعيل الهروي الأنصاري، كان من العارفين بطريق السلوك ومن الدالين على الطريق دلالة عموم؛ وكلامه معتبر لا ينبغي أن يُخلط بكلام المدلسين من أمثال ابن القيم. وأما ابن تيمية فإنه وإن وافق الهروي فيما عقله من كلامه، إلا أنه عارضه في مسائل، رأى أنه سار فيها على نهج الصوفية. والحقيقة هي أن الهروي، رغم ذمه للكلام وللمتكلمين، فإنه انتهج نهجهم من دون أن يدري. فكلامه في الغالب استدلالات عقلية، ينطلق فيها من الوحي. ولقد وقع في هذا الالتباس ابن تيمية ذاته، عند توهمه مخالفته للمتكلمين في طريقهم. ولا ندري، هل سبقنا إلى التنبيه إلى هذا الخلط لدى من ذكرنا أحد أم لا؟... لأننا لم نعتن بتحقيق هذه المسألة. وأما إيراد ابن القيم لكلام الهروي واعتنائه بشرحه، فإنه يقصد منه إيهام السامع أنه موافق لطريقه؛ والأمر على غير ذلك. ولا ينبغي أن ينصرف النظر من الناظر هنا إلى المذهب الفقهي، فيتوهم بذلك أن وحدة المذهب الفقهي تعني حتما وحدة الطريق ووحدة العقيدة. وقد غلط في هذا أقوام كثيرون، كان يجدر بهم التفريق بين الأمرين. ونعني من هذا أن حال متأخري الحنابلة ليس هو كحال متقدميهم، من جهة الباطن دائما؛ ولا هم أتباع للإمام أحمد في العقيدة كما يزعمون دائما؛ لأن الإمام أحمد كان على العقيدة السنيّة من غير تكلف، كما كان الأئمة الآخرون رحمهم الله. وقد غلط في هذه المسألة أقوام، فضلوا وأضلوا. وبعد هذا، ينبغي أن نقرر أن كلام جل السابقين في تفاصيل العقائد، لا يُعتبر لدينا سواء أَاتفقوا أم اختلفوا؛ لأنهم مخالفون لطريق السنة في تحصيل تلك العلوم، وإن كانوا يظنون أنهم منتصرون للسنة بالكلام فيها على ما تعطيه مراتبهم. وهذا الذي نقوله، من القواعد الذهبية التي من علمها سهل عليه تمييز الكلام وتمييز العلماء. وأما قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46]، فالأصل فيه أنه مخاطبة للمشركين الشاكين في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولم يشترط الله عليهم إلا واحدة (أمر واحد)، وهو أن يقوموا للتفكر في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثنى، بإجراء محاورات ومناظرات؛ وفرادى كمن يتفكر في نفسه ويقلب الأمر على وجوهه بصدق. وهذا كله، ليقفوا على أنه لا شيء يدل على ما كان يُرمى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من باطل كالجنون؛ بل كل أمره صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أنه عبد الله الاختصاصي، ورسوله الذي ارتضاه لهداية الناس أجمعين. وعلى هذا، فإن المعنى الذي ذهب إليه الهروي، مِن أن المقصود بقوله "تقوموا" اليقظة القلبية، هو من التأول، ومن توجيه المعنى الذي يُسمى عند القوم إشارة، لا من التفسير. [قال: "القومة لله هي اليقظة من سِنة الغفلة، والنهوض عن ورطة الفترة. وهي أول ما يسْتنير قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه. وهي على ثلاثة أشياء: لَحْظُ القلب إلى النعمة، على اليأس من عدها، والوقوف على حدها، والتفرغ إلى معرفة المِنّة بها، والعلم بالتقصير فيها".]: لقد سبق أن قلنا إن القيام المذكور في الآية هو غير اليقظة؛ ولكن اليقظة لا شك هي قومة من نوم الغفلة، إن نحن اعتبرنا اللغة وحدها. ولكن القيام يصدق على هذا المعنى العام، أكثر من القومة بالإفراد؛ لأن الإفراد يدل على الاختصاص الذي يكون لاسم المرة. وهذا الاختصاص لا بد له من باعث، ينبغي أن يكون هنا شرعيا، لتكون القومة مقبولة المعنى للمؤمنين. واليقظة ليست من هذا القبيل، إلا إن اعتبرنا المعنى الذي يدخل به العبد دين الإسلام في بداية أمره إن كان كافرا. وهذا يتعلق بقوم مخصوصين، ليسوا أولي اليقظة المتكلَّم عنها هنا. وعلى كل حال، فلا نرى نحن داعيا لاستبدال القومة باليقظة، إلا إن كان الكاتب يريد أن يجعل القارئ يأنس بكلمة "قومة"، إلى حين كلامه عن القومة السياسية التي يجعلها على الحكام، والتي هي في مقابل الثورة التي لدى اليساريين. وأما المعاني التي يوردها الهروي لليقظة، والتي يجعلها منوطة بالنعم في كل اعتباراتها، فهي مما لا يجاوز مرتبة الإسلام العامة. واليقظة التي يعنيها أصحاب الطريق في الغالب، هي التي تقع للمسلم وتدفع به إلى مرتبة الإيمان. ونعني من هذا أن اليقظة التي انطلق منها الكاتب، وكان يريد للقارئ أن يتبع بمقتضاها العبد المنيب، ليست إلا هذه الأخيرة التي تكون أول ما يقع للعبد من أحوال مرتبة الإيمان. وهذا الخلط في الأقوال، وفي النقول، لن يُسعف الكاتب فيما هو بصدده؛ وسيزيد القارئ بعدا بها عن إدراك المعنى الدقيق الكامن وراء اللفظ، كما نقول دائما. وأما القومة إذا ذُكرت من دون قرينة، فإنها تعني في عرف أهل الله، القيام إلى الدعوة إلى الله بالله، أو القيام بتدبير شؤون العالم من منطلق الخلافة عن الله بالله؛ وهي أعم القومات من جهة إشرافها على جميع المعاني، وأخصها من جهة ضيق دائرة أهلها في الأمة دائما. [رحم الله شيخ الإسلام الهروّي وغيره من المنيبين مشايخ الصوفية. كانت مسالكهم في الخلوات، وقومتهم القلبية إلى الله، ودعوتهم النفوس النائمة إلى الانتباه واليقظة، انكبابا على النفس وانكفافا عن الدنيا.]: يُعرّض الكاتب بالهروي وأمثاله، الذين يراهم بانشغالهم بأنفسهم وهجرهم للدنيا وأصحابها، أنقص منه؛ مع كونه يقينا أنقص من الهروي. ومتى كان الاشتغال بالدنيا والتخليط في الأقوال والأحوال يدل على الرفعة، حتى نأبه لهذا القول المنكوس!... وكأن الكاتب يعتبر العدد والكمّ، ولا يعتبر النوع والطبقة؛ وهذا لعمري مما لا يقول به العقلاء والمفكرون، فضلا عن حكماء الدين والملة. وكأننا هنا أيضا، قد بدأنا نشتم رائحة معنى القومة التي يؤسس لها الكاتب على غير أساس!... [وابتلينا في هذا العصر، بل شُرِّفْنا ولله المنة والنعمة، بأن نلحظ الشكر الواجب بقومة جهادية لإقامة الخلافة الثانية الموعودة التي تتجلى طلائعها في هذا الشاهد الزكي المسمى "صحوة إسلامية"، وفي النصر المبين للمجاهدين في أفغانستان. لله الفضل والإفضال، وإليه ترجع الأمور.]: ها قد ظهر المخبوء، وبدا ما لم يُوفّق الكاتب في التنظير له؛ وإن كان كلامه قد انطلى على كثير ممن لا خبرة لهم بطريق العقل أو بطريق السلوك (الدين). وما يراه هو جمعا بين اليقظة القلبية و"القومة" الجهادية، نراه نحن خلطا بين ما هو من الدين وما هو من الفكر السياسي العام، الذي لا يختص بالمسلمين وحدهم. وما يراه هو عملا من أجل إقامة خلافة ثانية، نراه نحن خلافة ضرار، يسعى بادعائها قوم إلى نيل غرضهم من الدنيا، وإن ألبسوه لبوس الدين. ولا يقولن أحد أن ذلك من الدين، لأن خطاب إصلاح الأنفس لا يمر عبر الخطاب السياسي أبدا؛ بل يُشترط للمخاطَبين التفرغ منه لتصفو معاملة العبد لربه بعد ذلك. ولا مسوغ هنا للقياس على حال الكمّل، الذين قد يصدر عنهم ما يدل على اشتغالهم بالشأن العام؛ فهم قد فرغوا من أنفسهم، ولا يضرهم ذلك أو ما هو أكبر منه؛ بعكس الطالبين الذين لا تقوى قلوبهم على التوجه إلى الدنيا ولو من باب النصيحة المزعومة، أو العمل لإقامة الخلافة زعما، والتي لم يؤمر العباد بإقامتها. فلقد ذكرنا في غير هذا الكتاب أن الخليفة يبعثه الله، ولا يختاره الناس؛ وإن كانت الصورة الظاهرة صورة اختيار بشري كما حدث يوم السقيفة عند بيعة أبي بكر رضي الله عنه، أو كما حدث في صور أخرى، عند بيعة غيره من الخلفاء. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة في كتاباتنا المتناولة للسياسة الشرعية، فلن نعيده هنا. وأما بناء الكاتب على الصحوة الإسلامية، وعلى الجهاد الأفغاني في إبانه، وهو من كان يوصي بعدم الاكتفاء بأعمال الإسلام الظاهرة قبل فقرات أو قبل صفحات، ويدعو إلى اتباع المنيبين، فهو كمن يأمر بشيء ويأتي ضده؛ لأن البناء على ما ذُكر، مع مخالفته للقاعدة (نقصد الجمع بين العمل الفردي الحر والاتباع)، سيجعل الناظر يشك فيما يُعرض عليه بالكلية. ونحن نؤكد أن هذا البناء التنظيري على ما ذُكر لا يستقيم، للأسباب التي ذكرنا بعضها؛ ونرى أن جهل الكاتب بمسألة الخلافة على الخصوص، سيجعل كل ذلك غير ذي جدوى، وإن بذلت فيه الجهود وصرفت فيه الأوقات، من قِبل المؤسس ومن قِبل الجماعة. ونرى أيضا أن كل الجماعات الشبيهة بجماعته لا مناص لها من حل نفسها، قبل أن تُحلّ راغمة؛ لأن الوقت ما عاد يسمح بكيانات جَزَرِية (نسبة إلى الجزيرة)، تعمل على تقسيم الأمة والشعوب المسلمة، في زمن صارت الوحدة ضرورة ملحة وغير قابلة للتأجيل. [كان للصحبة شروط أيام سلوك المجاهدة في الخلوة، كان المشايخ يصرفون الوارد المريد ليتطهر قبل أن يجلس إليهم. في زماننا، والحمد لله وله المنة، تُباغت الرحمة الإلهية قلوب هذا الشباب فإذا هي تطير محلقة بأجنحة الصدق. إن وجدت صادقين.]: هذا الكلام صحيح، لكن لا يُقبل إلا ببيّنة؛ والبيّنة تُعرض على الخبير ليشهد بصحتها، ولا يُكتفى فيها بكلام أحلام اليقظة. وأين هو الصدق في طلب الله، ووالله لقد رأينا من الإسلاميين من قد تيقن صدق الدعوة إلى الله، وأقام الله عليه الحجة في نفسه (أخبرَنا هو بذلك)، ومع ذلك ينصرف موليا، وكأنه لم يسمع ولم ير. فليتق الله عبد في نفسه، لا يعلم إن جاءه الأمر من ربه بإلقاء نفسه من شاهق، أنه لا يسارع إلى التردي. وليسكت عسى أن يستره الله في الآخرة كما ستر نفسه في الدنيا فيكون من الفائزين. وأما ما نراه من إخواننا الإسلاميين، فوالله إنه مما يُخاف على صاحبه منه الخوف الشديد. ولا نقول ما نقول إلا شفقة -يعلم الله- لا فتّا في عضدهم أو تبخيسا لجهدهم عياذا بالله!... وإن أسوأ ما وقع فيه الإسلاميون، تقمص الكلمات من غير اعتناء بمعانيها؛ فتجدهم يتكلمون عن الصدق وهم أبعد الناس عنه، وعن المحبة وهم أجهل الناس بها؛ حتى صار التديّن لديهم تمثيلية كما هي التمثيليات لدى المشخصين من أهل المسرح. وهذا هو ما جعل النتائج لديهم غائبة، وجعل أعمالهم جلها خائبة، وجعل البلاء الرباني يتسلط عليهم لعل سوطه يعود بهم إلى الصراط!... [جاء رجل إلى عارف بالله في الزمان القديم يطلب الصحبة. فقال له العارف: "إن مثلي معك كرجل وقع في القاذورات، فذهب إلى العطار وقال: أين الطيب؟ فقال العطار: اذهب اشتر الأشنان (صابون ذلك الزمان)، واغسل نفسك ولباسك، ثم تعال فتطيبْ! قال العارف للمريد: "وكذلك أنت، لطخْت نفسك بأنجاس الذنوب، فخذ أشنان الحسرة، وطين الندامة، وماء التوبة والإنابة، وطهر ظواهرك في إجّانة (قصعة يغسلون فيها) الخوف والرجاء، من أنجاس الجرم والجفاء. ثم اذهب إلى حمام الزهد والتقى، واغسل نفسك بماء الصدق والصفاء. ثم ائتني حتى أطيبك بعطر معرفتي!".]: الكلام للشيخ الرفاعي رضي الله عنه، في كتابه "حالة أهل الحقيقة مع الله". وهذا الكلام يصدق على الشيخ العارف الواصل، الذي يربي على الإحسان مباشرة. وهذا الصنف من التربية كان شائعا في زمن التابعين، الذين كانوا يترقون في مقامات الإيمان، من دون حاجة إلى شيخ بالمعنى الاصطلاحي، لغلبة النور على زمانهم. وأما بعد تلك الأزمنة، فإن بلوغ مرتبة الإيمان نفسها، صار يُحتاج فيه إلى شيخ يأخذ المريد من وزر سيئاته، وثقل ضغوط مجتمعه، ومغريات الدنيا التي ما عاد أحد يطيق الصمود لها. ولهذا السبب كانت أغلب دعوات الشيوخ المتأخرين تبدأ من مرتبة الإسلام، وإن كانوا من أكابر الورثة. فلا ينبغي أن يُحجب القارئ بمثل هذا الكلام المنقول عن الشيخ الرفاعي عما نذكره نحن؛ حتى لا يُحجب تبعا لذلك عن المعنى الأصلي المعياري الحاكم... [لست أدري ما أجاب المريد. ويكون جواب مريد عصرنا عن مثل هذه الشروط: "يا سيدي! لو كنت أعلم ما هو صابون الحسرة على ما فات، وما هو طين الندامة، وما هو ماء التوبة، وما معنى الندامة، وما ظواهر الإسلام وبواطن الإيمان، وما محاسن الخوف والرجاء، ومساوئ القطيعة مع الله والجفاء، وأين حمام الزهد والتقى يغتسل فيه مثلي لما جئتك!".]: هذا الكلام صحيح، ولكن في المقابل تجدر الإشارة إلى شدة ضعف إيمان عوام المسلمين، إلى الحد الذي ما عادوا يطلبون معه شيخا من الأساس، وإن كانوا أحوج الناس إليه؛ بل وقد يبدون استغناء مع إنكار، وكأن الأمر بدعة لا أساس لها من الدين!... ونعني من هذا، أن الأمر قد بلغ في زماننا مبلغا لم يكن له في السابق نظير. ولعل الشيخ اليوم ينبغي أن يأخذ التلميذ من الإلحاد والشرك الصراح، ولكن بشرط أن يكون التلميذ راغبا، لا أن يكون زاهدا؛ لأن صفة الغنى الإلهي تمنع أن تنال الرحمة عبدا لا يطلبها طلب افتقار واضطرار. وقد جهل هذا الأصل كثير ممن تكلموا في التربية، وتوهموا أن ذلك من تقصير الشيخ؛ والشيخ ليس صاحب البضاعة الأصلي، وإنما هو قائم عليها فحسب. والله هو المعطي والمانع سبحانه!... [قال التائب الراجي الندمان المناجي: ولما قسَـا قلــبي وضاقت مـذاهـبي *** جعلت رجائي نحو عفوك سلما تعـاظَمـني ذنــبـي فلَـمّا قرنــتـه *** بعفــوك ربي كان عـفـوك أعظـما فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تـزَل *** تجــود وتعـفـو منــة وتـكـرمـا]: معنى التوبة في هذه الأبيات، يصلح لمن كان يريد تصحيح إسلامه؛ فهو دعوة إلى مرتبة أهل الإسلام وحدها. وبما أن الكتاب كتاب "الإحسان"، فلا ندري ما وجه الجمع بين العنوان والمحتوى؟!... [وقلت عفا الله عني وتاب علي ومنّ وأحسن: وَلما قسا قلـبي وضـاقتْ مذاهـبي *** وأظلـــم أفْقـي والصديق تجهَّـما وقـفت إلهـي تـائبــا متـــندمـا *** ببابك أرجو أن أغـاثَ وأرْحَـما وتُفتَحَ في وجهي السدود فأرتقي*** وأصعد في حضن العنـاية سلَّمـا]: وفي ختام هذا الجزء نقول: إن كان الكلام هنا عن التوبة التي هي من مرتبة الإسلام، فلا بأس؛ مع تحفظنا على الكلام المنقول عن التيميين الذين تمتنع التوبة معهم، وهم على الكبائر من جهة الباطن. فإن كان الكاتب سيعرج بنا فيما بعد إلى الإيمان ثم إلى الإحسان، فإن ذلك سيكون جيدا، وسيعود الكتاب إلى مساره، بحيث يسهل علينا نحن التعليق عليه من دون أن نُضطر كل مرة إلى النزول بعد الصعود، وإلى الإجمال بعد التفصيل؛ فإن ذلك يعاكس منطق الأشياء ويقبض عن شهية الاستمرار... [1] . الكلام للشيخ الرفاعي في كتابه "البرهان المؤيد". [2] . أخرجه الحاكم في المستدرك، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. |