انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2019/04/01
إحسان الإحسان - 19 -
عقبة الخلاف والاختلاف يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: [بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء﴾. يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك.] [كان عبد الله بن المبارك محدثا كبيرا، وجمع الله له إلى ذلك خصالا جليلة، فكان شاعرا جوادا مجاهدا، يحج عاما ويغزو عاما. واشتهر فضيل بن عياض بالزهد والصلاح، يعتبره الزهاد والصوفية إماماً.]: عبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض، كانا من أقطاب مرتبة الإيمان. ولقد كان هذا الصنف من التصوف، هو ما جاء بعد عصر التابعين وتابعيهم، عندما نزلت العامة عن مرتبة الإيمان، فصارت الدعوة إليها بدل الدعوة إلى الإحسان التي كانت قبلهم. وستنزل الأمة عن هذه المرتبة في عمومها مع بعدها عن نور النبوة، كلما تقدم الزمان، إلى مرتبة الإسلام. لذلك كنا نقول إن التصوف اليوم يبدأ من مرتبة الإسلام، ليصحح الإسلام لأهله، ويجرده من الشوائب التي دخلت عليه. وإن القرون التي جاءت بعد القرن السابع الهجري، كانت إيذانا باكتفاء الأمة بأدنى مرتبة، وإن تكلم علماء الدين في كل الشؤون والمراتب. لكنهم سيفعلون ذلك من داخل المرتبة الأولى، من دون أن يشعروا. وإن أبرز من وقع في هذا الأمر ابن تيمية، الذي سيصبح لدى كل الغافلين من بعده "شيخ الإسلام". ومعنى شيخ الإسلام عندنا نحن، هو أنهم ما أدركوا الإسلام الدين إلا من كلامه عنه، والذي قلنا عنه إنه كان من مرتبة واحدة فحسب. ومع هذا الانقلاب المؤسَّس ستدخل الأمة في مرحلة الانحطاط الديني حقيقة، وسيعلن الصوفية الذين أبقوا على طريق الترقي سالكا منذ القرون الأولى، أن التربية (بالاصطلاح) قد انسد بابها، ولم تبق إلا التربية بـ "النظرة" (الهمة). وهذا معلوم لأهله. وإن عودة الكاتب إلى تابعي التابعين تدل على أنه لا خبر له عن التطورات الحاصلة في التدين الجماعي، ولا عن الفروق الجوهرية بين المراحل والحقب. ومن لم يكن على علم بما ذكرنا، فلا يمكن أن يكون مربيا بالمعنى الأصلي الشرعي. وهذا هو ما سيجعل صاحبنا مربيا بالمعنى العام الذي لا يخلو من الأيديولوجيا، كما عرفها الإسلاميون الحركيون قبله. وأما قوله إن الصوفية يجعلون الفضيل إماما، فإنه يدل على أنه لا يعلم من الصوفية إلا عوامهم. وقد ذكرنا عنه هذا الأمر فيما قبل عند وقوفنا على ما يدل عليه، ونحن نؤكده هنا مرة أخرى؛ حتى لا ينتظر أحد منه أن يتكلم عن التصوف كلاما معتبرا عند أولي العلم. [عِتَابٌ رقيق بين صديقين متصافيين. وكان الرجلان عَلَمين بارزين من أعلام القرن الثاني.]: سبق أن ذكرنا طعن المحققين في صحة قصة توجيه ابن المبارك لتلك الرسالة الشعرية إلى الفضيل. وسبق أن ذكرنا في الفقرة السابقة أن زمن تابعي التابعين، كان مؤذنا بالنزول العام عن مرتبة الإيمان؛ وهذا هو ما جعل نجم ابن المبارك والفضيل يسطع آنذاك. [في القرون التالية اتخذ الخلاف في المذهب والرأي ووجهة النظر شكل الجدَل العَنيف، واستفحل، وكانت حروب كلامية وغارات.]: إن الاختلاف دخل على الأمة، عند قلة السالكين فيها. وقد ذكرنا سابقا أن السلوك يعني التدين الحقيق الحي، في مقابل التدين الصوري الذي لا ترقي فيه، وبالتالي لا معرفة دينية بمعناها الأصيل ينالها العبد منه. ولما قل السالكون، استعاض الناس (العلماء خصوصا) بالنظر العقلي في الفقه وفي العقائد، عن الذوق والكشف. وفي هذا المعنى قيل: فكم بين حُذّاق الجدال تنازع وما بين عشاق الجمال تنازع والعقل لا بد أن يطبع التديّن في زمانه بطابعه، والذي هو منطقه. فما وافق المنطق العقلي فمقبول، وما خالفه فمردود. وأما في الفقه، فلا ضرر وقد رخص الشرع لأهله النظر في الوحي من أجل استنباط النصوص. فقد قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. والمقصود بأولي الأمر هنا: العلماء المتحرّون للحكم الشرعي. لكن العقل عندما ولج مجال العقائد، فإنه قد جعلها خاضعة لمنطقه أيضا، وهذا لا يصح. فكان هذا التناول للعقائد بالعقول، فاتحة البلاء المستمر في الأمة إلى الآن. والغريب، هو أنه لا يكاد أحد يشعر بما وقع، من شدة وثوق الناس بعقولهم وعقول أئمتهم ومراجعهم. ولم يعلم المساكين أن معرفة الله لا تكون عقلية أبدا، لأن صفة العزة تمنع أن يُعلم الله بهجوم العقول عليه!... ولا نرى نحن أن الكاتب على علم بما ذكرنا، وإنما هو يقرر واقعا تاريخيا من دون أن يعلم خلفيته. [وتَرِثُ هذه الأجيال المتأخرة كتُبَ الخلاف فيما ترث، فتقفُ عند جزئيات الخلاف دون أن تتعلم أن ذلك الخلاف كان ضروريا، وكان رحمة، لأنه تمخض عن زبدة الدين، وتحررتْ من خلاله العقيدة، وصُفي الحديث، وتأصل الفقه، وحوربت البدع.]: يستلهم الكاتب هنا مسوغات الفقهاء للخلاف، من دون أن يبحثها بنفسه؛ وهذا يجعله مقلدا، والمقلِّد لا يُؤتم به في العلم. وكما ذكرنا آنفا، فإن الفقه يحتمل الاختلاف، وقد يكون الاختلاف فيه رحمة؛ ولكن الاختلاف في العقائد كان وبالا من غير شك. ووصف الكاتب الخلاف بالضروري، لا ينطبق من الناحية العلمية إلا على الفقه وحده؛ وأما العقائد فالضروري منها ظهورها في الوجود. وهذا غير كونها صحيحة أو رحمة بالمعنى الشائع؛ مع أنها رحمة بالمقولات وبأهلها من غير شك. وهذا كلام من وراء العلم الظاهر. وتحرير العقيدة، معناه في الحقيقة عودتها أيديولوجيا؛ لكن الكاتب لا يدرك الفرق. وأما تصفية الحديث، فلم تحظ بتلك الأهمية إلا بعد فقد السلوك، وعند فقد الاتصال بنور النبوة. إن صاحبنا ومِن ورائه متأخرو العلماء، يظنون أن العلم بالنصوص ضروري في عملية التدين، ضرورة العلة للمعلول؛ والحقيقة هي أن النور النبوي يعطي السالك أكثر مما تعطيه النصوص من نفسها؛ وما ذلك إلا لأن المشكاة واحدة. نعم، إن العالم بالنصوص عليه أن يعرض مواجيده عليها ليعلم مدى مطابقتها فحسب، لا ليستنبط بعقله منها علما. وهذا إن حققنا النظر، هو الفرق الرئيس بين طريق الكسب وطريق الوهب. ولولا هذا الذي نذكر، ما صح سلوك من أميّ، وقد علمنا من تاريخنا بروز أولياء كبار من بين الأميين، شهد لهم من جمع بين العلمين الظاهر والباطن من العلماء. وإن أجلى نموذج عندنا نحن المغاربة، الشيخ أبو يعزى يلّنّور رضي الله عنه، الذي كان أمازيغيا لا يعرف العربية، وكان لا يحفظ من القرآن إلا الإخلاص والمعوذتين؛ ومع ذلك شهد له الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه -وهو من هو- وكان معاصرا له، بالولاية الكبرى. ومن كان لا يحفظ من القرآن إلا يسيره، فلا شك هو بالحديث ومراتبه من جهة الظاهر أجهل. فكيف وصل هؤلاء إلى العلم الذي لا يعلمه العلماء من أصحاب الدراسة والنقل، لولا أن النور من النبي صلى الله عليه وآله وسلم متضمن لعلم الظاهر وعلوم أخرى!... وأما البدعة، فإن المفهوم منها، لا شك سيتغير من المفهوم الأول الذي كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، وكان عليه أهل المدد النوري من بعدهم، لينحصر فيما يعطيه العقل من إدراكه للسنة بحسبه. وهذه المسألة، لا نظن أن أحدا من المتأخرين بعد الشعراني رضي الله عنه وأضرابه من أمثال النابلسي (عبد الغني) رضي الله عنه، يذكرها ويعيدها إلى أصلها. والكلام يطول فيما أومأنا إليه، ومن أراد التوسع فليتابعه في كل كتاباتنا وتسجيلاتنا. [لا يمكننا أن نضرب بما شجر من خلاف بين علمائنا عُرض الحائط، ويمكننا أن نستفيد من مسيرة هُبوطِهِ إلينَا اكتشاف الطريق الصاعدة إلى النبوة والخلافة الراشدة. تخطي هذا الخلاف مثل اتّخاذه هدفاً أسمى وسقفا موقفان متطرفان، بينهما توجد الحكمة.]: هذا الكلام يدل على أن الكاتب شعر بالمسألة التي أوضحناها نحن فيما سبق، لكنه لم يتبيّنها؛ فأراد الخروج منها بالمنطق العقلي وحده، والذي أعطاه أن الحكمة توجد بين طرفي التفريط في الخلاف والإفراط؛ وهذا لا يصح من جهة العلم الحق. ونعني أن الحق هو في مجاوزة الخلاف، عند مجاوزة العقل بالتلقي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من كل زمن؛ بما أنه هو المعلم الأوحد في جميع الأزمنة حقيقة، صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ذكرنا هذا كثيرا في كلامنا، لعله يستقر عند من ينظر فيه. وذكرنا أن هذا الاستمرار في التعليم النبوي، هو مدلول قول الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3]، بعد قوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]؛ حتى لا يقول قائل بانقطاع التعليم النبوي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإننا نرى أن أولى ما كان ينبغي تناوله من مسائل العقائد هذه، لو كان الناس يعقلون؛ لأن ما سينجر عنها سيتحدد به تدين القائل بأحد القولين: فمن قال إن التعليم النبوي قد انقطع بالوفاة، فإنه يكون مكذبا لله في كلامه، عاملا بما لم يدل عليه الوحي. وعلى هذا فإن تدينه لن يكون تدينا أصليا، وإن كنا لا نكفّره على التمام. وأما الثاني، من قال باستمرار التعليم النبوي في الأزمنة، فعليه الكلام عن كيفية تحصيله حتى يكون العامل به لاحقا بالصحابة، كما ألحقه الله في الآيتين من سورة الجمعة. وإن نحن نظرنا إلى حال جل علماء الدين المتأخرين، ناهيك عن غيرهم من عوام الناس، فإننا سنجدهم من أهل التدين الأول المقطوع. فكيف بعد هذا، يزعمون علما بالدين، وهم من جانبوا طريقه؟ وكيف سيُعلّمون غيرهم، وجهلهم ثابت!... [والحكمة قبول الخلاف ظاهرةً بشرية، وقبول تنوع الاجتهاد، وتنظيم هذا التنوع.]: قلنا إن الحكمة عند الكاتب ليست حكمة حقيقية، وإنما هي إعمال للمنطق العقلي بالبحث عن الوسط الجامع؛ وهذا معروف من العقلاء. وأما الاستشهاد بكون الخلاف ظاهرة بشرية وتنوعا في الاجتهاد، فهو من التدليل العقلي لما اختاره. وهو لم يخرج في ذلك كله عن العقل، وهو من يزعم مرارا أنه منتصر للكتاب والسنة. نعم، إن هذا الانحراف، يخفى عن نظر الكاتب نفسه، فلا يراه إلا من موافقة "العلم"، خصوصا وأن الفقهاء حول ذلك يدندنون؛ ولكن الأمر في العلم الحق لا يكون على هذه الصورة أبدا. وأما نحن فنقول بقبول الاختلاف؛ بل وبقبول الغلط والباطل؛ من جهة الوجود لا من جهة العلم المعياري. وذلك لأن كل موجود كان ينبغي ظهوره، وإن ذمه العلم؛ ليكتمل ظهور التعينات العقلية والعينية، ويكتمل بها التجلي العام؛ هذا وحده ما يجعلنا نقول بقبول ما قبله الكاتب. وأما إن حكّمنا العلم الشرعي في ذلك، فإننا سنرد منه كثيرا، نراه مخالفا للأصول. ومن هذا الباب أيضا ردنا على الكاتب أقواله. فليُعتبر الفرق بين الأمرين، فإنه نافع جدا لطلبة العلم. [وبداية الحكمة أن نضع خلافات علمائنا الأولين مواضعها النسبية، لا نتخذ رأي فلان أو فلان مرجعا نهائيا ومطلقا لا تسمو العقول لمناقشته.]: هذا أيضا كلام عقلي، لا يستند إلى الشرع. والنسبية التي يذكرها الكاتب، هي الوسط الذي يريد الالتقاء عليه مع المخالفين؛ وهو عمل بالدليل العقلي لا الشرعي، كما ذكرنا. ولا يقدح في كلامنا، أن الدليل العقلي معتبر عند الفقهاء في عملية الاستنباط، فذاك مجال مخصوص يقدّر إعمال العقل فيه بقدره. ونفي المرجعية من الكاتب مطلقا عن كل المتقدمين، هو أيضا قياس عقلي؛ ونحن لا نقول به ولا ننفيه؛ بل نجعل الحكم للعلم وحده فيه. فهو يدلنا على صواب الكلام من القائل، أو يدلنا على خطئه في قوله. وهذا الصنف من العلم، نادر جدا، لا يكاد يوجد إلا عند الأفراد من خواص الخواص. وهو علم يعطي لذة بمجرد تحصيله، لا بالنظر إلى معلوماته التي قد تكون مما يؤلم أو يُكره. [حظُّ كل صاحب مذهب ورأي من حفظ النص وتحريره، ومن حِدة العقل وتنظيمه، ومن تَوجُّه الإرادة وسموها ومضائها يحدد إمكانياته ويرسم له حدودا. فينكر في حدوده وظروفه وزمانه ومكانه ما هو عند الآخرين غير منكور. ويَرُدّ ويُردّ عليه. ولكل مجتهد أجر عند الله، ووجه معقول مَقْبول عند العقلاء الموفقين.]: يتكلم الكاتب عن الاجتهاد، من دون أن يميّز بين مجالي الفقه والعقيدة؛ لأنه لا اجتهاد في العقائد، بخلاف ما ظنه المتكلمون. وجيد أنه أرجع الاجتهاد إلى حدة العقل وتنظيمه، وإلى توجه الإرادة من المجتهد، ومضائها وسموها؛ لأن هذا هو مناط الاجتهاد لدى المجتهدين من داخل المذاهب الفقهية. وأما الاجتهاد عند الأئمة، فإنه لا يخلو من نور يؤتيهم الله إياه، به يُدركون وجوه الأدلة التي تغيب عن "المفكرين". ولقد أشار مالك رضي الله عنه إلى هذا المأخذ، في قوله: "لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، إِنَّمَا الْعِلْمُ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُلُوبِ."[1]. والنور لا يكون إلا كاشفا؛ ولهذا قيل: إن لأئمة الفقه كشفا يخصهم، حتى يُفرق بين كشفهم، والكشف الذي تتكلم عنه الصوفية. وأما دلالة الكاتب على أن جميع الاجتهادات تكون مقبولة عند العقلاء، فهي حكم عقلي كعادته؛ وأما الأصل فهو أن يكون الناظر على نور كالمجتهد، فيقبل ويرد بالنور لا بالعقل المجرد. والعقل في النهاية عندما يقبل الأقوال المتقابلة، فإنه لن يبرهن إلا على عدم أهليته، وسيكون طاعنا في صدقيته ما دام منطقه لا يقبل النقيضين في المسألة الواحدة. وأما الحكم بالأجر لكل مجتهد، فذاك حكم الشارع؛ يعتبر فيه الجهد والنية، لا القول المتوصّل إليه، الذي إن كان خطأ، فإنه يكون حتما مخالفا للشرع؛ والمخالف لا يُدعى العباد إلى العمل به أبدا. نعني من هذا، أن كل من "علم" خطأ حكم من الأحكام المنقولة عن أئمة الفقه، فإنه يحرم عليه العمل به، ويجب عليه التبيين في حقه؛ لا أن يُترك الدين ليجمع بين مختلفات الأقوال وكأنه عبث. نعم، إن لم يتمكن الناظر من الترجيح، فعليه نقل الأقوال كما هي، من باب الأمانة العلمية، لا من غيرها. وهذا التفصيل مما يحتاجه كل مشتغل بالعلم، إن كان يريد أن يرتب معلوماته. [عقبة الخِلاف في شأن الصوفية والتصوف ليست أهون العقبات أمام من يريد أن يشرح ما عند القوم من كنز محفوظ لقارئ وقع في يده كتاب من هذه الورقات السطحية التي تتكاثر في السوق، يكتبها من ألهاهم التكاثر عن السؤال المركزي: "وأنا ماذا فعلت، وماذا علمت، وما حظي من ربي؟".]: إتباع الكلام عن اجتهاد الفقهاء العقلي، بالكلام عن الصوفية من الكاتب، يدل على جهله بالفرق بين المجالين، وبين وسائلهما وشروطهما. وأما ما دل عليه من عدم جواز اكتفاء الناس بما يجدونه في الكتب عن التصوف، فهو صحيح؛ لأن التصوف سلوك للطريق، يتعرف به السالك مفردات الدين بنفسه من ربه، بحسب كل مرتبة وكل مقام؛ وليس علما نظريا كسائر العلوم. والسؤال الذي ختم الكاتب به الفقرة، ضروري لكل عبد؛ حتى يخرج من تديّن التقليد إلى التديّن الصحيح. [ينحصر معظم الخلاف على الصوفية في المُحَدّثين الحنابلة. علم أصول الحديث علم تعديل وتجريح، وبنفس المنهاج تناول الحنابلة المحدثون الصوفية فجرحوا أكثر مما عَدَّلوا.]: الحنابلة وقعوا فيما وقع فيه الكاتب نفسه؛ لأنهم لم يفرقوا بين الفقه والعقائد. فظنوا أنهم حنابلة في الفقه والعقيدة، وهم في الحقيقة حنابلة في الفقه وحده، بما أن الإمام أحمد لم يكن يخالف الأئمة الآخرين في العقيدة. ومن سفاهة بعض الحنابلة المتأخرين، اعتقادهم بأن الأئمة الذين سبقوا إمامهم كانوا على عقيدته هو: عقيدة السلف؛ وكأنهم يعكسون خط سير الزمان. نقول هذا، لأنهم لا يطيقون نسبة عقيدة الإمام أحمد إلى مالك -مثلا- مع كونه على العقيدة السنيّة من غير شك. فلو قلنا إن أحمد كان مالكي العقيدة من باب التجوّز، لقام المتسلفة خوفا على عقيدتهم من الاندثار. وما لا يعلمه هؤلاء المساكين، هو أن الأئمة جميعهم، كانوا على العقيدة السنيّة المشتركة العامة، التي يكون عليها أهل مرتبتي الإسلام والإيمان. وأما الصوفية، فقد انفردوا بالكشف في مرتبتي الإيمان ثم ترقوا إلى الإحسان. ولهم الشهود الذي ينفردون به عن غيرهم، خصوصا في أعلى الإحسان فما فوق. ولهذا كانت عقائد الصوفية تساير كشفهم وشهودهم، ولا يكتفون فيها بالإيمان المجمل الذي يكون بمحكم الكتاب، كما لا دخل فيها لعمل العقل على غرار ما فعل المتكلمون. وإن الخائضين في مجال العقائد، عند جهلهم بما ذكرنا، سيدخلون في رد ما هو حق في أقوال الصوفية، لا لشيء إلا لأنهم يجهلون أنه حق. ومن قال إن أهل الدين يعلمون الحق كله، حتى تكون لهم سلطة الرد والقبول، من دون نظر إلى ما يقع به الامتياز؟!... إن هذا المنطق المعوج، قد أدخل على العلم كثيرا من الجهل، وأضر بشطر كبير من العوام الذين أخذوا أقوال المتكلمين بالتسليم. [وكان من أدعياء التصوف وفلاسفة الإشراق طوائف نالوا بجدارة واستحقاق من بعض المحدثين الحنابلة تصويرا سلبيا محضا.]: أدعياء التصوف، كان ينبغي أن يُترك الرد عليهم للصوفية الأحقاء، لا أن يجترئ عليه كل فقيه من مقلدة الصف الأخير. وأما فلاسفة الإشراق، فهم أعلى من الحنابلة من حيث العقل؛ فكان ينبغي أن يُترك تمحيص أقوالهم للفلاسفة أو لأهل التحقق من الصوفية، الذين يعلمون مرتبة كل ناطق من كلامه، ويعلمون محل خطئه إن أخطأ ومحل إصابته إن أصاب. ولكنه الاغترار بالعلم، يوهم أصحابه أنهم أعلم بالدين من غيرهم، وأكثر إحاطة بالوحي من سواهم!... وكأن الله تعالى لم يقل: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]. [فأنت إذا قرأت كتاب "تلبيس إبليس" خيل إليك أن الصوفية في كلمة واحدة هم إخوان الشياطين. ويا حسرة على من قرأ نُقول من نقل عن من نقل عن أمثال ابن الجوزي رحمه الله، ثم اكتفى وطوى الملف! ماذا فاتك يا مسكين!]: يريد الكاتب هنا الإشارة إلى أن متأخري الحنابلة هم أسوأ من متقدميهم في الاجتراء على الناس، وعلى التكفير بأدنى شبهة. ولقد كان يجدر به التصريح، لو كان يريد الخروج من التبعات؛ لأن الكلام على وجه التعميم، لا ينفع المقلدين من المتعصبين. ورغم أن الكاتب يظهر هنا بمظهر المنتصر للتصوف، إلا أنه لن يلبث أن يطعن فيه من وجه قد لا يشعر به الأجلاف وحدهم؛ وأما من له مسكة عقل أو بصيص نور، فإنه سيرى التناقض الصارخ في الأقوال، ويتعجب لما آلت منه إليه الحال!... [لهذه الخلافات أسباب ظاهرة مشروعة، مثل الخلاف في العقيدة،]: الخلافات في العقيدة ليست مشروعة، وإنما هي من البدع التي نشأت عن مخالفة الشرع لدى الفرق المختلفة؛ ذلك لأن الله لم يكلّف العباد الكلام في العقائد، وهي تختلف من شخص إلى شخص، بحسب ما يُدرك كلٌّ من دينه عند سلوكه أو بحسب ما يتجلى لباطنه. ونعني من هذا، أن مجال العقائد هو مما يتعلق بباطن الناس؛ والشرع إنما كلفهم التلاقي على الظاهر، الذي هو منوط بأعمال الإسلام المعروفة. ولقد اختلت أعمال الظاهر من المسلمين، عند اختلافهم على ما لم يُكلَّفوا؛ فبدل مجاهدة الكفار جميعا -مثلا- صاروا يقتتلون فيما بينهم. وما وقعوا في هذه المصيبة إلا من مخالفتهم للوحي. وما خالفوا الوحي، إلا بسبب اتباعهم للجهلة من المنتسبين إلى العلم من أئمتهم. [ولها أسباب دُنيوية تاريخية.]: أما الأسباب الدنيوية، فحاضرة؛ وهي الأخرى نتجت عن عدم التقيّد بالتكاليف الشرعية. وعلى هذا، فإن السبب الرئيس فيما أصاب الأمة من محن، هو مخالفة الشرع كتابا وسنة، ومخالفة من أمر الله بالاستهداء بهم كالعترة النبوية التي جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإزاء القرآن في الثقل، وكورثة النبوة العالمين بالدين كله؛ لا بأحكام الإسلام وحدها، كما هو شائع عند الفقهاء. [والخلاف جزء لا يتجزأ من العناصر الحركية التي عليها صلحت الأرض واستقامت.]: هذه قاعدة تعود إلى الباطن، بخلاف ما يظن الكاتب؛ وهي صحيحة. لكن الاستدلال بها هنا، لا يصح؛ لأننا بصدد الظاهر وما يتعلق به. ونعني من هذا أن كون المخالفات الشرعية لا تخرج عن الحكمة الإلهية، مما يجعلها معتبرة في العلم، لا يعني عدم مؤاخذة أصحابها بلسان الشرع. وقد غلط في مثل هذه المسألة كثيرون فضلوا وأضلوا. [الخلاف مهما كانت أسبابه، شريفة عفيفة أو مغرضة أو جاهلة أو تحاملية، دفاع الله الناس بعضهم ببعض، ﴿َوَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾.]: ما زال الكاتب يريد جعل ما هو معتبر في الباطن معتبرا في الظاهر؛ وهذا جهل، لا يقع فيه العلماء الذين هم علماء عند الله. [قال التاج السبكي يقص قصة خلاف المحدثين والصوفية، وقد كان ووالده التقي السبكي شيخ الإسلام من أكبر المعارضين لابن تيمية. قال: "نبه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد أن الخلاف بين كثير من الصوفية وأصحاب الحديث قد أوجب كلام بعضهم في بعض، كما تكلم بعضهم في الحارث المحاسبي وغيره. وهذا في الحقيقة داخل في قسم مخالفة العقائد، وإن عده ابن دقيق العيد غيرَهُ. والطامة الكبرى إنما هي في العقائد المثيرة للتعصب والهوى. نعم، وفي المنافسات الدنيوية على حطام الدنيا. وهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين".]: إنكار السبكيَّيْن على ابن تيمية كان في محله، ولكونه من رؤوس الضلال البيّن الذين أضروا بالمسلمين ضررا بالغا. وإن تمييزهما لضلال ابن تيمية، يدل على أنهما عالمان من علماء الإسلام المعتبرين في حدود مرتبتهما. وذكرهما -رحمهما الله- أن الخلاف المذكور خلاف عقائد، لا خلاف فقه كما عدّه ابن دقيق، هو من فقههما الذي نسبناهما إليه. وحصرهما لأسباب الاختلاف في التعصب للعقائد مع المنافسة على الدنيا، موفّق صحيح؛ وجعلهما هذه الآفة لدى المتأخرين أكثر مما هي لدى المتقدمين صحيح أيضا، بسبب تنامي الغفلة في الأمة مع مرور الزمان، كما ذكرنا نحن عدة مرات. وهذا أمر، لا ينكره إلا جاحد أو كليل يقتدي بأمثال ابن تيمية وأضرابه. [عندما تختلف الآراء، وتشتبك الألسنة في الجدال، تثور النفوس وتتعمق الهوة بين الخصوم، ويجد الشيطان في هوى الناس مطية لإشعال الفِتْنة. والغِرُّ من يظن أن النزاعات بين العلماء تعكس كلها الصفاء الملائكي والتحري المجرد عن كل شائِبَةٍ. والبشر بشر، والفتنة اللسانية أمضى من فتنة السيف وأسرع ضِراما. روى أصحاب السنن عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تكون الفتنة تَستنطف (أي تأتي على الأخيار) العرب. قتلاها في النار. اللسان فيها أشد من السيف". هذا لفظ الترمذي.]: معنى الحديث الشريف، لا يحتاج إلى بيان. والخصلة التي دل عليها الكاتب في العلماء موجودة؛ لكنها مختصة بالفقهاء دون الصوفية؛ لأن الفقهاء ما زالت نفوسهم أمارة، بينما الصوفية قد عبروا إلى مستوى النفس المطمئنة، حيث لا يخاصمون عن أنفسهم، وإنما عن الحق. ثم إن الفتنة التي يشير إليها الكاتب، لم يشعر أنه قد وقع هو نفسه فيها، عند فوهه بلسانه وخطه بقلمه، ما يود أن لو قُبض قبل الخوض فيه. كيف لا، وهو قد ترك لضعاف العقول والإيمان تنظيرا، يبقي على انقسام صف المسلمين وافتراق كلمتهم، ما داموا متمسكين به. وهذا الضرر، لا يسلم منه بلد المغرب الذي كان إلى عهد قريب أكثر وحدة واجتماعا مما هو عليه اليوم؛ وأما عن الضرر العام في الأمة، فهو أبلغ وأوسع؛ بسبب اتساع البلاد وكثرة المختلفين من الناس. [والغيرة البشرية بين الأقران والمتعاصرين تتدخَّل فتُضخِّم ما يكون ثَمَّ من أصل حقيقي للخلاف. رُوِيَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "لا أدركتُ ولا أدْركتم زمانا يتغاير الناس فيه على العلم كما يتغايرون على الأزواج!".]: الصفة المشار إليها، من صفات الفقهاء وحدهم، للأسباب المذكورة آنفا. وأما من تزكى من الناس، فإنه لا يقع في مثل ذلك أبدا. بل إن المطهَّرين تكون مخالفتهم في الحق أحب إليهم من موافقتهم؛ لكونهم قد خلصوا للحق، وما عاد لنفوسهم حظ فيهم. والفاروق رضي الله عنه، من أعلى هذه الطبقة. وهو قد دعا أن لا يُدرك زمانا فيه أولئك المتعالمون، لتأففه رضي الله عنه من تلك الصفة ونزاهته عنها. ومن يعدْ إلى سيرته العطرة -رضي الله عنه- يجدْ كيف كان يحب أن يظهر الحق على لسان مخالفيه. وكيف لا يكون كذلك، وهو ثالث اثنين، من هذه الأمة الشريفة؛ صلى الله وسلم على من ربى وزكى وعلم، وعلى آله. [ولأبِي عُمر بن عبد البر كلام نفيس في الموضوع أنقله عن التاج السبكي. وابن عبد البر من المحدثين المحققين يحظى بالاعتبار التام عند علماء الأمة. قال السبكي: "عقد الحافظ ابن عبد البر في كتاب العلم بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض بدأ فيه بحديث الزُّبَيْر رضي الله عنه: "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء" الحديث. قلت: وهو حديث صحيح رواه الحاكم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيصيب أمتي داء الأمم فقالوا يا رسول الله! وما داء الأمم؟ قال الأشَرُ والبَطَرُ والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي".]: عندما تكون الآفة في العامة، فإن الأمر هين؛ وأما عندما تصيب العلماء، فإنها الطامة الكبرى. ذلك لأنها ستتعدى منهم إلى غيرهم، وسيزداد الناس إيغالا فيها لظنهم أنها مما يجوز الوقوع فيه، عند نظرهم إلى العلماء واقعين فيها. وهذا من الإضلال بالحال، كما هو معلوم. ولا يقع كل هذا، إلا عند استحكام الغفلة من الناس، بحيث لا يحسبون لربهم حسابا، ويُطلقون لأنفسهم العنان في الخصومات والمجادلات. ونعني من هذا، أن الغاية من الدين لديهم انعكست؛ فبعد أن كانت الله واليوم الآخر، صارت الدنيا وفروعها؛ من إرادة رئاسة على الأقران أو خدمة للحكام أو شهوات الأبدان. [ثم قال السبكي رحمه الله: "وروى (ابن عبد البر) بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض. فوالذي نفسي بيده، لهم أشدُّ تَغايُراً من التُّيوس في زُروبها"]: هذه الصفة، لا تصدق إلا على الفقهاء؛ وعندما نخص الفقهاء، فإننا لا نستثني المتكلمين؛ لأننا نراهم فقهاء خرجوا بعقولهم عن حدودها ومجالاتها. وأما الصوفية فهم برآء مما ذُكر، وإن كان المتصوفة أحيانا أسوأ حالا حتى من الفقهاء. ولقد كان حريا بالكاتب أن يذكر هذا الفرق ليكون أمينا في نقل الأقوال ووصف الأحوال. وسنرى هل يتدارك أمره فيما بعد، أم سيتمادى في هذا الإخلال. [وعن مالك بن دينار: "يوخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض" (...). واختلاف الاجتهاد مما لا يلزم المقول فيه ما قال القائل فيه. وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا.]: كان ينبغي للسبكي أن يقول: وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف مرضَ نفس وفسوقا؛ لأن في العلم ما يردع عن الوقوع في مثل ذلك لو حكّموه في أنفسهم. وأما قوله عنهم: "تأويلا واجتهادا" فهو اعتذار عنهم، حيث لا يسوغ العذر!... لأنه لا تأويل يفضي بالعبد إلى الوقوع في سواه من العبيد. الأمر منوط بما يخالف العلم، ويدخل في أحوال القلوب العليلة. وسكوت العلماء عن حقيقة الأمر، كأنه يدل على خوفهم من الدلالة على طريق التزكية (التصوف) في المقابل، مع أن التزكية واجبة شرعا وجوبا عينيا. أعظم الله أجر الأمة في علم علمائها... [ثم اندفع ابن عبد البر في ذكر كلام جماعة من النظراء بعضهم في بعض وعدم الالتفات إليه، إلى أن انتهى إلى كلام ابن معين (وهو من كبار المحدثين) في الشافعي، وقال: إنه مما نُقِمَ على ابن معين وعِيبَ به. وذكر قول أحمد بن حنبل: "من أين يعرف يحيى بن معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعيّ، ولا يعرف ما يقوله الشافعي، ومن جهل شيئا عاداه".]: ما ذُكر هنا، هو مما تُنتجه النفوس، ورائحة نتنها بادية لكل ذي أنف. وعلى كل حال، فهذا يقدح في مرتبة الفقهاء عموما، ويجعل الموفَّقين يتوجهون نحو أهل التزكية إن كانوا يبغون الترقي عن السفاسف. نقول هذا مع التأكيد على أن أئمة الفقه كانوا منزهين عن هذه الآفات، لأنهم كانوا يعملون بعلمهم. وكل من عمل بعلمه، فإن علمه حافظه بإذن الله!... [أقول وبالله التوفيق: إن خلاف العلماء وشجارهم ووقوع بعضهم في بعض عن حسن نية أو فلتةً بشريّةً ينبغي أن لا يوهمنا أن الحق في هذا الجانب ضربة لازب. فهم خطاؤون ككل ابنٍ لآدم، وهم مخطئون أحيانا. وحلة القدسية التي يضفيها خيال الـمُقلدين على إمام عالم هي من صنع الجهل. وكل واحد يؤخذ من كلامه ويطرح إلا قول المعصوم صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.]: هذا الكلام من الكاتب جيد، لأنه يشير إلى أصل الداء الذي ذكرناه نحن. وإن تعظيم العلماء الذي يجعل العامة يقبلون منهم ما هو من مظاهر أمراضهم القلبية، هو من الأسباب التي عملت على تفشي المرض في عموم جسد الأمة. وإن التحذير من هذه الآفة، لَهو مما يجب التنبيه إليه من قِبل العلماء الناصحين أنفسهم؛ لأن الدين لله في المرتبة الأولى، لا لهم. وأما كلمة ابن عباس رضي الله عنهما، فإنها تُستعمل في اتجاهين متعاكسين: أحدهما نافع، كما هو كلام الكاتب هنا؛ والآخر ضار، وهو أنها تُجعل وسيلة لرد كل كلام مخالف للهوى، زعما بأنه يجوز رده. وهذا من "السفسطة" التي يكون عليها أهل الدين. [وأرجع لابن السبكي وابن عبد البر لأنقل إليك فَصّاً ثمينا من فصوص العلم ونوادر الحكمة. قال: "ثم قال ابن عبد البر: فمن أراد قبول قول العلماء الثقات بعضهم في بعض فليقبل قول الصحابة بعضهم في بعض. قال: فإن فعل ذلك فَقد ضل ضلالا بعيدا، وخسر خُسرانا مبينا. قال: وإن لم يفعل، ولن يفعل إن هداه الله وألهمه، فليقف عند ما شرطناه في أن لا يقبل في صحيح العدالة المعلوم بالعلم قول قائل لا برهان له".]: أولا، إن قياس الفقهاء على الصحابة رضي الله عنهم، قياس خاطئ وفيه من سوء الأدب ما فيه. وقد نبهنا إلى هذه المسألة فيما قبل، حتى لا تختلط الأمور وتتداخل الأحكام. والصحابة في عمومهم عدول، وليسوا أصحاب أهواء؛ حتى يُجعل قول بعضهم في بعض شبيها بقول الفقهاء المرضى. ولقد دخل الوهم على ابن عبد البر ثم على السبكي هنا، بسبب تلقيهما التعظيم للفقهاء بالتسليم كما عُلّماه. ولو أنهما فرقا بين العلم بالله والعلم بالأحكام، لتمكنا من الخروج من هذه المسألة بما ينفعهما وينفع الناس من بعدهما. وأمر التقليد من أشد الأمور تأثيرا في العقول!... لو أن العلماء اعتنوا به ودققوا فيه عند الأقوال المختلفة، لانجلت جوانب كثيرة من العلم ما تزال ملتبسة. [يظلم نَفسَه ويظلم العلماءَ من يجرد الخصومات التي خاضُوها من ملابساتها الظرفية وشوائبها البشرية، وينصب أحدَهم لواءً خفاقا يخوض تحته معاركهُ هو، عن جهل للأصول والفروع، وعن تقليد أعمى لمن لا يحسن حتى فك جملهم وفهم لغتهم، فأحرى أن يفهم مرامي الكلام وظواهره وبواطنه ودوافعه ومقدماته التاريخية.]: هذا الكلام نفيس، لو وقف عنده الناس وعملوا به لكفوا شرا كثيرا. ولكن تبيّنه -فضلا عن العمل به- من أعسر الأشياء على النفوس التي لم تتزكَّ. والكاتب نفسه، لم يسلم مما ذكر. غير أن شيوع اعتقاد جواز الكلام في الدين، خصوصا بعد القرون الثلاثة الأولى، جعل السفهاء ينطقون ويفسرون ويحكمون؛ مع إحجامهم يقينا في مقابل ذلك عما لا يُحسنون من العلوم الكونية والصنائع؛ وهذا لا يدل إلا على سوء حالهم وضعف إيمانهم. [من المظلومين في هذا العصر شيخ الإسلام ابن تيمية.]: يعود الكاتب، ليدل بكلامه هذا، على أنه لا يفقه ما يفوه به؛ لأنه لو عمل بكلامه السابق، لما سقط هذه السقطة: يبرئ ابن تيمية وهو من أسس للضلال المبين، وجعله مذهبا إسلاميا يزعم أنه فيه على نهج السلف، وهم منه براء. [تبحره في العلوم، وتمكنه في الحديث وقد كان حافظا، ثم انتشار كتبه الانتشار الواسع تنفق عليها بسخاء جهات معروفة لأسباب قد لا يعرفها كل الناس، جعل من اسمه سلاحا مرهبا، ومن سرد كلماته حجة قاطعة، ومن فكره مرجعا نهائيا، يحسب المتحنبلون الجدد أن كلمة شيخ الإسلام رحمه الله هي الكلمة الفصل، والكلمة الوحيدة، والكلمة الأخيرة، وكأن الله عز وجل لم يخلق معه ولا بعده عالما يذكر.]: يبغي الكاتب الحد من تنزيه ابن تيمية ومن رفعه فوق مرتبته، وهو أمر جيد لو أنه كان مؤسسا على العلم، لا على الافتراض العقلي. وأما كون ابن تيمية متبحرا في العلوم، فلا يصح؛ وإنما هو حافظ للأقوال، حاد الذكاء، مما يجعله يظهر بصورة العالم وهو غير ذلك. وهذه الآفة هي ما حذر منه ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: "لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرَّوِايَةِ، إِنَّمَا الْعِلْمُ الْخَشْيَةُ!"[2]. وإن جعل كلام ابن تيمية حجة على الناس، لا يكون إلا ممن لا يفقه كلامه ولا يحيط علما بالمسائل التي تناولها. فكأن الحاكم أعمى والمحكوم عليه أشد عمى منه، ولكنه أشد دهاء ومكرا. وهذا يكون بين العميان، حتى ليمكن لأحدهم أن يُقنع سواه بعدم عماه بمجرد إيهامه بذلك عن طريق الإيحاء، بما أنه لا يراه. ونعني من هذا أن "علم" ابن تيمية لا يُعتد به إلا عند ضعاف العقول. وهذا الذي نذكره عنه، هو ما جعل الحافظ العراقي يقول عنه: "علمه أكبر من عقله". والحقيقة هي أن عقله (الآلة) كان أكبر من علمه؛ لأن العلم نور يكشف المعلومات، وهذا هو ما كان ينقصه. ولو حاز ابن تيمية العلم (النور) لكان من كبار العلماء حقا. فهو يشبه عقول الفلاسفة التي حُرمت نعمة الدين والوحي. [تعمدت في هذا الكتاب الاستشهاد بكلام ابن تيمية، وخاصة بكلام تلميذه ومريده هذا النجم الثاقب في سماء البيان ابن القيم، إشفاقا على من ظَلَموا أنفسهم وظلموا أهل العلم، وإشفاقا على من تجرعوا مرارات الخلاف وصمَّتْ آذانَهم طبولُ المقلِّدَةِ.]: ظهر هنا ما ذكرناه نحن منذ الفصل الأول عن الكاتب، عندما قلنا إنه يكثر من ذكر ابن تيمية توددا إلى متسلفة المغرب من أهل زمانه، ليسهل عليهم الانضمام إلى دعوته. ولكنه بهذا الفعل، خسر من كان يستهدفهم، وأساء إلى العلم بإيراد أقوال ابن تيمية الموهمة. وهذه نتيجة كل من جعل لنفسه غاية غير الحق. [كتب الدكتور سعيد رمضان البوطي مقالا مهما بعنوان: "موقف ابن تيمية من ابن عربي"، دافع فيه عن ابن عربي بما هو معروف من أن كتبه دُسَّ فيها الكثير. في كتابي هذا تجنّبت مواطن الخلاف على الأشخاص، إذ الشأنُ بي وبك لا بمن مضوا وانقضوا ولقُوا الله بأعمالهم.]: إن البوطي -وإن أراد الإحسان برده على ابن تيمية- لم يكن على علم بما يخوض فيه، حتى نحسبه له من جميع الوجوه. وإن امتناع الكاتب عن الخوض في "مواطن الخلاف على الأشخاص"، لا يدل إلا على أنه لا يختلف عن البوطي كثيرا في جهله بالشيخ الأكبر. وسكوت الكاتب عن هذا الأمر كان فيه أفضل من البوطي بالنظر إلى المنهجية العلمية، وأقل منه بالنظر إلى المسألة ذاتها، من كونها موقفا علميا يتخذه العالم على قدر ما أوتي من علم. [لكني أنقل إليك تظَلُّم عالمنا الجليل سعيد من المقلدة. قال: "والحقيقة التي لا ريب فيها أن ابن تيمية رحمه الله قد ظُلم من قِبَلِ هؤلاء الناس... لقَدْ ظُلم من قبلهم مرتين: المرةَ الأولى أنّهم نسبوا إليه بسبب جهلهم أو بسبب أغراضهم التي يتأبطونها مالم يقله، وما لم يخطر منه على بال. فقد صوّروا منه عدوا للتصوف، وهو من أبرز المنافحين عنه والداعين إليه، والقائلين بوجوب الانخراط في منهجه التربوي على كل مسلم (...).]: يظهر من كلام البوطي أنه لم يكن يعلم حقيقة ابن تيمية وتدليسه، ولا كان يعلم التصوف بجميع مراتبه. وابن تيمية ما أضل من أضل، إلا بتمكنه من الظهور في كل ثوب، بحسب أهواء الناظرين. ولكن أهل النور لا ينطلي عليهم تقلبه في الأثواب، عندما يريد إيهام الناس أن له قدما في كل علم، ويرونه على حقيقته الإضلالية، التي يستمد فيها من إبليس مادته. وهذا الذي نقوله نحن، لا نشك فيه مثقال ذرة!... [قال: "والمرةَ الثانيَةَ أنهم صَبَغوه بذلك في تصوُّر كثير من الناس، بل حتى العلماءِ والباحثين السطحيين، بصبغة الـمُنكِرِ لهذا الذي ثبت أنه جوهر الإسلام ولُبابه، والمنقِّصِ لكل من سار في هذا الطريق وسلك الناس في طريق تزكية النفس، حتى غدا اسم ابن تيمية عند عامة الناس رمزاً لمحاربة هذا السبيل الإسلامي القويم"]: لا كلام البوطي ولا كلام الكاتب، يمكن أن يغيّر من حقيقة ابن تيمية شيئا!... وأما إظهار ابن تيمية موافقة بعض الصوفية، فلا يعني أنه يقر بالتصوف؛ وإنما يعني أنه لا يريد أن يظهر عند الناس بمظهر منكره مطلقا، لئلا يُنسب إلى الجهل عند ظهور الحق من الصوفية. فنضال ابن تيمية عن نفسه لا عن الحق والعلم. والبوطي من الدارسين لا من الصوفية؛ لهذا انطلى عليه كلام ابن تيمية. [نعم، من العقبات الكبرى والحواجز العائقة عن سماع كلمة الحق في موضوع جوهر الإسلام ولُبابه استعمال المتسطحين الحرفيين لاسم ابن تيمية وترجمتهم لفكره.]: هذا استنتاج غلط؛ لأن ابن تيمية بحربه على التصوف، قد أعلن الحرب على الدين كله. ولكنه على عادة المضلّين، يُظهر ذلك في أعين ضعاف العقول في صورة المصححين الغيورين. وهيهات!... [كان الرجل رحمه الله شعلة من الذكاء والهمة العالية والفروسية العلمية والميدانية. كانت حياته كلها معارك، فاصطبغ فكرُه بلون الأرْجُوان، وعلاه غبار الميدان الحربي. ولولا وضوح فكره وتمكنه ورسوخه في العلوم، ولولا تشبثه المتين بالأصول يدافع عن الحق في زمان استفحلت فيه البدع، وهجمت الباطنية، وطمَّ الغزو التتاري فكان الفارس المُعْلَم في كل تلك الميادين، لكانت خلافياته مما طُوِيَ وبقي في الرفوف. لكن نشر تراثه الممتاز أثار موجة من البلوى عمت وطمت.]: أما كون ابن تيمية ذكيا، فقد أقررنا به سابقا؛ وأما كون همته عالية، فليس بالمعنى المدحي؛ لأن فرعون الذي ادعى الربوبية أيضا كانت همته عالية؛ ولكنها مما لا يجوز التوجه نحوه. وهمة إبليس أيضا عالية -وهو من سأل أن يُسلّط على جل العباد يتصرف في معقولهم ومُتخيَّلهم بالإضلال- ولكنها همة متكبر، لا همة عبد رباني. وأما كون ابن تيمية قد خاض معارك كثيرة، فيُشار إلى أنها كانت داخل الأمة، ومما يفرقها ويشتت صفها؛ ولم تكن مع أعداء الدين وفي سبيل إعلاء كلمة الله دائما. وإن التماس الأعذار لإمام الضلال من قِبل الكاتب، المرة بعد الأخرى، لا يفيد إلا في معرفة حقيقته هو، وأنه من أتباع مذهبه في النظر، وفي طريقة عرضه للمسائل، وفي غرضه الأكبر. هذا فقط!... [الرجل، وإن كان اختلف مع المتأخرين من الصوفية، يعتبر أمثال الجنيد وابن يزيد وسهل أئمة هدى. ويضع الشيخ عبد القادر الجيلاني موضع الاحترام المطلق. يذكر اسمه فيقرنه بالترحم الصوفي على الأكابر: "قدس الله سره".]: لعله يقصد من "ابن يزيد" أبا يزيد البسطامي. ورغم هذا الذي ذُكر، فإن ابن تيمية سيبقى عدو الصوفية الأول: أولا، لأن ثناءه على بعض وتكفيره لبعض، يخدم غرضه في التدليس، ولا يخدم الدين. وثانيا، لأنه لا يتمكن من إنكار مكانة كبار الصوفية في علوم الظاهر، التي يعُد نفسه من أهلها؛ وسيكون عندئذ منكرا على نفسه بإنكاره عليهم. وهو أعلم بهذا التناقض من غيره. وثالثا، لأنه بإنكاره على بعض دون بعض، يظهر في صورة الناقد البصير، ومن له دراية بالمعايير وبالموازين؛ وهو على النقيض من ذلك، محتال خبيث. وإن كان الكاتب ممن يقع تحت تأثير الكلمات، ويغيب عنه المدلول ومقصد المتكلمين، فإن في الأمة بحمد الله من لا ينطلي عليه ذلك، ويعلم صاحب القصد السيء، وإن نطق بما هو في ظاهره محض ذكر لله. [إن كان ابن تيمية كفر هذا وجرح ذاك وشدّد على هؤلاء وسالم أولئك، فتلك معاركُ مضت وانقضت.]: تلك المعارك لم تمض ولم تنقض، وإلا لما اضطر الكاتب إلى تخصيص كل هذا الحيّز لصاحبها. ولكنه بهذا الكلام يريد أن يقنع سامعيه بذلك، لينصرف سمعهم بالكلية إلى ما يلقيه إليهم. يفعل هذا، وكأنه يرى ابن تيمية منافسا له في زمانه، يبغي التخلص منه. كل هذا، والسامعون لا يعون شيئا من حقيقة الأمر، وإنما يظنون أن المسألة علم في علم. وهيهات!... [وتبقى رسالة ابن تيمية وشهادته ناصعة الجبين واضحة المعالم لمن تجاوز مراحل محاربة الأمية أنَّه من أكبر الداعين للتزكي القلبي وصحبة المشايخ وملازمة الأوراد.]: هذا كذب وافتراء، ناجم عن شدة الجهل بحقيقة ابن تيمية. وإن كانت لابن تيمية رسالة، فهي رسالة الإضلال، نيابة عن إبليس لعنه الله. وإن هذه الشهادة من الكاتب، لهي مما ينزل به في الدنيا والآخرة، عن مرتبة العلماء الناصحين، إلى مرتبة المتقولين المضلين. [خاصم الغزاليَّ في أمور نُسبت إليه في كتاب "مشكاة الأنوار" وكتاب "كيمياء السعادة" ثم قال: "وقد أنكر عليه (على الغزالي) طائفة من أهل الكلام والرأي كثيرا مما قاله من الحق. وزعموا أن طريقة الرياضة وتصفية القلب لا تؤثر في حصول العلم. وأخطأوا أيضا في هذا النفي. بل الحق أن التقوى وتصفية القلب من أعظم الأسباب على نيل العلم".]: كلام ابن تيمية هنا من سنخ ما يقال بعده: "صدق وهو كذوب!". وأما إنكاره على الغزالي في المسائل التي تجاوز الكاتب ذكرها، فهو من باب إنكار الصغار على الكبار؛ ليس غير!... ولقد كنا نحب من الكاتب، أن يأتي بالمسائل المـُنكرة على حجة الإسلام، حتى نبيّنها... [المكاشفة والكشف والفتح هي الأسماء التي يطلقها الصوفية على العلوم الوهبية التي يفتحها الله الكريم الوهاب على من يشاء مصداقا لوعده الكريم: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾. ابن تيمية من أهل الذوق، علم يقينا أن الذاكرين السالكين تفتح لهم أبواب من العلم لا يَنالها غيرهم. وهذا لب المسألة كلها.]: هذه شهادة من لا أهلية له، لمن لا يستحق!... وابن تيمية ليس من أهل الذوق بالمعنى الاصطلاحي الذي عليه أهل الطريق؛ وإنما ذوقه هو شيطاني، يتحقق فيه بالمقامات الإبليسية، مقاما بعد آخر. ولإبليس من هذا الصنف في كل زمان أفراد يكونون مظهرا لأحواله. ولولا أننا سنستبق الأمور، لدللنا على نظير ابن تيمية في الذوق الإبليسي من زماننا، ليجتنبه الناس... [ومن العلماء من ينكر هذا العلم الموهوب جملة وتفصيلا ويعتبر المكاشفة "كلاما فارغا". وكلا الرجلين محدث حنبلي، لكن شتان ما بينهما.]: يشير الكاتب بالحنبلي منكر الكشف إلى ابن الجوزي. ونحن نسأل: شيء أثبته الله في كتابه، ودلت عليه سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قولا وعملا، كيف يُلتفت فيه إلى قول الكاتب أو ابن تيمية وغيره؟!... ومن يفعل ذلك، يكن كمن فتح الباب لإبليس يتلاعب بعقله ويملأه من وحيه. وهذا من أكبر أسباب الضلال في جميع الأزمان!... [نقطة أخرى تتطابق فيها معرفة ابن تيمية وتجربته مع معرفة الغزالي وتجربته، هي ضرورة صحبة المشايخ لاكتساب علوم الولاية.]: وكيف يتطابق حال الصادقين مع حال الكذابين؟!... ومن أين لابن تيمية بمعرفة طريق الولاية؟... وما الدليل على سلوكه الطريق؟!... إنما هو رجل متقمص، يتكلم في كل ما بلغه، ليظهر بمظهر العالم المشارك، الذي يعلم كل شيء. والحقيقة هي أنه ما أفلح إلا في استدراج سفهاء الأمة، الذين صاروا يلقبونه بشيخ الإسلام، وهم لا يعلمون ما يقولون. [قال: "أهل التصفية والرياضة والتأله يحصل لهم المعارف والعلوم اليقينية بدون النظر، كما قال الشيخ الملقب بالكبيري للرازي ورفيقه، وقد قالا له: "يا شيخ! بلغنا أنك تعلم علم اليقين". فقال: "نعم!" فقالا: "كيف تَعْلَمُ ونحن نتناظر في زمان طويل، كلما ذكرَ شيئا أفسدتُه، وكلما ذكرتُ شيئا أفسدَه؟ " فقال: "هو واردات ترد على النفوس، تعجز النفوس عن ردها. فجعلا يعجبان من ذلك ويكرران الكلام. وطلب أحدهما أن يحصل له هذه الواردات فعلمه الشيخ وأدبه حتى حصلت له".]: هذا الكلام لابن تيمية، هو من تدليسه؛ لكن لا من باب التقمص وحده؛ وإنما هو من ذوقه للواردات الشيطانية. فهو يقيس واردات أهل الطريق على وارداته، ويعلم ظاهرها من هناك لا حقيقتها؛ لأن حقيقتها محرمة على أمثاله من الضالين. [اعتراف إذا ونصح بمشروعية التشيخ وبنتائجه.]: ليس كلام ابن تيمية اعترافا، وإنما هو تدليس ليُظن به أنه من الشيوخ الربانيين. ولقد كان حريا بالكاتب أن يفرق بين "أولياء الشيطان" و"أولياء الرحمن"؛ لا أن يقع في حبال الضلال، ويصبح عونا للمضل على ما هو فيه، من دون أن يدري (إن كان لا يدري). [في نص آخر يصرح ابن تيمية بحقيقة لا تسعها أدمغة المقلدة، ولعل منهم من يؤولها لنا تأويلا إن استطاع. قال: "إن الأنبياء والأولياء لهم من علم الوحي والإلهام ما هو خارج عن قياسهم (أي الفلاسفة) الذي ذكروه، بله الفراسة أيضا وأمثالها".]: هذا الفرق هنا، هو من أول الفروق التي يُدركها الناظر، بين طريق الدين وطريق التفكر (الفلسفة). ولم يأت ابن تيمية فيه بجديد حتى ينبهر الكاتب كل هذا الانبهار... [قرَنَ إذن الأنبياء والأولياء في تلقي علوم الوحي والإلهام. هل قال الغزالي وأكابر السادة الصوفية غير هذا؟]: هذا الخلط بين ابن تيمية والغزالي وأضرابه، لا يدل إلا على أن الكاتب ليس من أهل النور؛ لأن أهل النور لا يتبعون الألفاظ لتختلط عليهم بسببها المعاني، وإنما يعلمون مقصد كل ناطق فيردون اللفظ إلى ما قُصد منه لا إلى المعنى العام الذي يعطيه. ومن هذا الباب، قد تجد من الأولياء من لا يقبل أن يسمع القرآن من أشخاص بعينهم، فضلا عن غيره من كلام البشر!... [كان ابن تيمية رحمه الله ذا شخصية قوية عزيزة الجانب. قوته وعزة جانبه يرشَحان من مقالاته الجازمة الحاسمة في مؤلفاته. فمن لا يعطي الحقائق مكانتها النسبيّة يظن أن ما كتبه عالِمنا الواسعُ في زمان ما ومكان ما حقٌّ مطلقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وذلك خطل وخبال.]: وضح منذ أمد، أن الكاتب قد أسَرَته عبارة ابن تيمية؛ وهو بهذا الاعتبار غير مخول لأن يبدي رأيا فيه!... وأما تنبيهه في نهاية الفقرة إلى نسبية كلامه وإلى إمكان عروض الخطأ لها، فهو استنتاج عقلي وليس عائدا إلى نور لدى الناظر (الكاتب). [كان خطاءً ككل بني آدم عرضة للخطإ مثلهم. وكان يكتب اليوم ما يجزم به اليوم، فيَفتح الله له غدا بما يناقض اقتناعه بالأمس. نرجع إن شاء الله في الفصل السادس من هذا الكتاب لمسألة نظر الأولياء في اللوح المحفوظ. ابن تيمية الشيخ يكتب في مرحلة ما من مراحل سلوكه أن ذلك ممتنع، ويشهد ابن القيم المريد أن شيخه صرح بأنه ينظر في اللوح المحفوظ. تناقض؟ لا! لكن سَيْر، واطلاع نسبي، وقصور بشري، ومِنن إلهية يختص الله بها من شاء من عباده متى شاء. وقد نعرض لبعض التناقضات الظاهرة في كلام ابن تيمية وتلميذه الوفي، لا لكي نحطم الشخصين العزيزين، لكن لنكسر صورة التشويه التي صنعها المقلدة.]: ما زال الكاتب يغوص في أوحال ابن تيمية، وهو من لا أهلية له في خوضها والخروج منها سالما. وأما اللوح المحفوظ الذي ينظر فيه ابن تيمية، فأمره صحيح؛ لكنه ليس اللوح المحفوظ الذي يطلع عليه الأولياء، وإنما هو اللوح المحفوظ الذي يريه الشيطان لأتباعه. وقد نبه الأولياء إلى أن للشيطانيين من الكرامات كل ما للأولياء، واحدة لواحدة؛ لكن من طريق معاكس. فلهم فتحهم ولهم وارداتهم، ولهم تصرفهم؛ إلى غير ذلك من كل ما للأولياء. والشيء الوحيد الذي هو محرم على حزب الشيطان، ولا يستطيعه مهما فعل، هو معرفة الله. وابن تيمية لا حظ له من أدناها، فكيف يكون من الأولياء!... فليتنبه المسلمون إلى هذه المعايير فإنها نافعة في معرفة كبراء أهل الضلال. [كان خصوم ابن تيْمية يرمونه بتهمة أنه لم يتأدب على يد شيخ يهذب شخصيته. وكيف ينقاد شخص في مثل قوته وكرامته واندفاعه لأحد؟]: هذا الكلام صحيح!... وهو من باب: "وكيف يسجد إبليس لآدم وهو على كبره!". ولكن الكاتب لا يعلم من أين يتلقى ابن تيمية، ولا من هو قدوته... وهو بمنافحته عنه، يفضح نفسه، ويشهد عليها بأن له اشتراكا معه في المأخذ. ونعني أن الكاتب، وإن لم يبلغ مرتبة ابن تيمية في الضلال، إلا أنه على قدمه من جهة كونه قد أضله الشيطان، ومن جهة كونه قد أصبح مُضلا لغيره من الناس. نسأل الله العافية!... [قال التقي السبكي الوالد: "ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له اطلاع، ولم يجد شيخا يهذبه، وهو على مذهبهم (يعني الحنابلة الـمُثْبتة يسميهم الخصوم مجسمة). وهو جَسور مُتجرد لتقرير مذهبه". وقال: "وهو كان مكثرا من الحفظ، ولم يتهذب بشيخ، ولم يرتض في العلوم، بل يأخذها بذهنه، مع جسارة واتساع خيال وشغَب كثير (…). وكان الناس في حياته قد ابتلوا بالكلام معه للرد عليه".]: رغم كل ما قاله السبكي، فإنه لم يتجاوز ظاهر ابن تيمية، ولم يظلمه. وأما نحن فنصف باطنه فنقول: هو إمام ضلال، من نواب الشيطان في هذه الأمة؛ وما يفوقه في صفته ممن بلغنا أمره إلا الدجال الأكبر الذي يقتله عيسى عليه السلام. وكل من انطلى عليه أمر ابن تيمية من الناس، خاصهم وعامهم، فهو من فاقدي النور، وممن هم على ضلال بحسب إقرارهم له وإعجابهم به. وإن في نسبة ابن تيمية إلى الإمام أحمد افتراء وظلما للإمام، لأنه لا يشترك معه في شيء، وإن رام المضل التمسح به من جهة الظاهر. فليتنبه الناس إلى هذا الأمر، فإنه مضر بالدين، مدخل في خصومة ابن حنبل يوم القيامة. [في نظر معاصري ابن تيمية يتقمّص ابن تيمية حجمه الطبيعي النسبي: "جاء في أواخر المائة السابعة رجل"، رجل "له اطلاع ولم يجد شيخا يهذبه". لَمّا ترفعه قداسة القِدَمِ وتقليد القاصرين إلى مراتب العلاء.]: ليس الأمر بين معاصر ومتأخر يتوهم القداسة في شيخ الضلال، وإنما هو الفرق بين أهل السنة حقيقة، من أمثال السبكي، والمدعين الذين لا يعلمون من السنة إلا إطالة اللحية وتقصير الثوب!... [ومن معاصري شيخ الإسلام، من المحدثين الحنابلة الصوفيين، رجل من أكابر العلماء وأئمتهم لا ريب، أخذت منه شخصية الحافظ "الجسور" كل مأخذ، فاتخذه شيخا بكل ما في كلمة "شيخ" من فخامة وضخامة، وأحبه وأخلص له، ووَفّى، وخاض معه معارك، وبث في كتبه النفيسة ما أورثته صحبة شيخ الإسلام الكريم علينا من علوم ظاهرة، وأذواق باطنة لا تكون إلا عند خلّص الصوفية. ها هو يشيد بشيخه إشادة لاَ يتأتى لها النثر. فقال شعرا في نونيته المشهورة التي سجَّلت معركة حَاميةً في تاريخ الخلاف. إنه ابن القيم شيخ الإسلام الجليل.]: ابن القيم لا شك هو أحسن عبارة من شيخه، وأقل غلظة وسماجة؛ لكنه على طريقه، بما أنه لم يفطن إلى ضلاله البيّن. [قال: (...) حتى أتاح لِيَ الإلـه بفضله *** من ليس تجــزيــه يدي ولسـاني فتى أتى من أرض حـران فــيـا *** أهلا بمـن قـد جـاء من حران فالله يـجـزيـه الذي هو أهــلـه *** من جنـة المــأوى مع الرضـوان]: لا تدل هذه الأبيات إلا على وقوع ابن القيم في حبال ابن تيمية، وأنه من سنخه ومعدنه؛ فإن الطيور على أشكالها تقع، كما يُقال. [أخذت يداه يَدي وسار فلم يَرِمْ *** حتى أراني مطـلـع الإيمـان]: وكذلك إبليس على إيمان، ينسى الناس أنه عليه؛ ولكنه يريه الأمور معكوسة، ويظن أنه فيها على صواب. فإبليس عندما أجاب الله تعالى بقوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]، لم يكن يخبر إلا عما يراه حقا وجديرا بالاعتبار. ولولا أنه توهم أن الله سيقره على مذهبه، ما ذكر ذلك له. وهذا من ضلال إبليس في نفسه. وهو ما عليه ابن تيمية وابن القيم نفسهما، ولكن أين من يميّز!... [ورأيت أعـلام المديـنة حولـهـا *** نزل الهدى وعساكـر الـقـرآن]: نعم رأى أعلام مدينة إبليس، حولها نزل الضلال على تلك الأعلام بالتفصيل لتتفرع سبله، ويكون على كل سبيل منها إمام شيطان. وأما عساكر القرآن التي يراها، فهي وحي الشيطان الذي يلقيه على أوليائه ليفهموا آيات القرآن بحسبها. ولهذا يجد المرء لابن تيمية فهوما في القرآن خالف فيها السلف والخلف، وهو يعرضها في نسق منطقي، لتنطلي على أهل الضلال فيرونها من الحق. والتيميون عندما يتعصبون لتلك المعاني، فإنهم لا يخطر ببالهم أنه غير الحق؛ وهذا هو معنى كون المرء على ضلال، لا غيره. ونعني أن من يعلم أن ما يتعصب له باطل، ومع ذلك هو يجادل عنه، ليس من هؤلاء؛ وإنما هو من المضلين المعاندين. وابن تيمية كإبليس، جمع بين ضلال المفعول به وضلال الفاعل. [ورأيت آثارا عظيـما شـأنها *** محجـوبــةً عــن زمـرة الـعميـان]: هذه الآثار، هي ما ذكرنا سابقا أن إبليس يريه أتباعه؛ وهي مما أمد الله به إبليس لتصح منه الغواية ويصح الإضلال. وابن القيم صادق في وصف ما رأى مما قال عنه إنه محجوبة عنه زمرة العميان. والمقصود من زمرة العميان لديه، ليسوا هم أهل الحجاب كما هو الأمر عند الأولياء، وإنما هم عوام المؤمنين، الذين يعبدون الله إيمانا فحسب. ولو علم القائل حقيقة أمر نفسه، لعلم أنه هو من يُعدّ من العميان حقا، الذين يريهم الشيطان آياته من خزانة خيالهم. ولقد التقيت مرة في مدينة وجدة بشخص أخبرني يومها أن له أربعة عشر يوما لم ينم، وأنه يرى أشخاص بعض الأولياء من الماضين ومن المعاصرين، وأنه يكلمهم ويجيبونه؛ فأخبرته أنه ملبوس عليه، وأن من يراهم شياطين. وأخبرته أنه سيكذبني، ويرى أن كلامي كلام جاهل لا يعلم فيم يخوض؛ فصارحني بذلك، وبقي على حاله. وقد كان هذا بمحضر بعض إخواننا ممن صحبت في الماضي. [ووردت كأس الماء أبيض صافيا *** حصـبـاؤه كــلآلـئ الـتــيــجـان]: ليس الشأن في ورود الماء، ولإبليس الأنهار والعيون، وإنما الشأن في معرفة العين؛ فإن من يشرب من عين شيطانية لا عبرة بمائه ولا بصفائه. وأما من كان يظن أن الشيطان لا شيء له من ذلك، فليعلم أنه على أشد الجهل مقيم. [ورأيت أكوابا هـناك كثـيـرة *** مثــل النجــوم لوارد ظمـآن]: الخبر صحيح، ولكنه وصف لأولياء الشيطان الذين يشربون من شرابه، ليتحقق لهم الضلال في أنفسهم، ويتمكنوا من إضلال غيرهم بعد ذلك. [وقلت جعلني الله وإياك من عساكر القرآن المجاهدين تحت أعلام النبوة لإقامة الخلافة الثانية آمين:]: وأما نحن فلا نؤمّن على هذا الدعاء، وقد أوضح الكاتب مأخذه وأبان عن مشربه. فلا القرآن لدى هؤلاء قرآن، ولا الخلافة خلافة. وقد أوضحنا أمر الخلافة الحق في كتبنا، فليُنظر هناك. والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيرا من خلقه. [نَزلَ الـهُــدى ببشـائــر القُـرآن *** للمُستجيب لدعوةِ الإحســانِ]: أما الإحسان، فقد ظهر بالحجة الدامغة أن صاحبنا لا خبر له عنه. فكيف بعدُ يدعو إلى ما يجهل؟!... ومن هنا سنعلم أنه لن يستجيب له من الناس إلا من كان من أهل الضلال في سابق العلم، ليترقى فيه ويستمد من مدده، إلا أن يعفو الله ويتوب. نقول هذا، والحزن يغمرنا على أبناء الأمة، وهم تتوزعهم الشياطين بشتى الوسائل؛ فمنها ما ظاهره ضلال ومعصية، ومنها ما ظاهره طاعة وقربة. ولا منجي من هذه الفتن إلا الله!... [أمِر الوَرى بالعدل في أحكـامهم *** واستُنهِضـوا لِمـآدب الـرحمن]: العدل الذي يدعو إليه الكاتب، هو العدل عينه الذي جعل إبليس يأبى السجود لآدم. ومعلوم أن النار التي خلق منها إبليس أرفع من التراب الذي خلق منه آدم، والعدل يقتضي أن يسجد التراب للنار لا العكس. وهذا العدل، هو ما انتهى باللعين إلى الشقاوة الكبرى. وكل من يتابع الكاتب في مدلول عدله، فإنه يكون على فرع من فروع العدل الإبليسي يسير. وأما مآدب الرحمن، فلم يخطئ الكاتب في نسبتها إلى الرحمن؛ لأن الرحمن مهيمن على المضل. فمآدب الرحمن هنا هي مآدب الشيطان عينها، لا ما يُتوهم من مرادفة دلالة الرحمانية للرحيمية. ومن كان له علم بمعاني الأسماء، فإنه لا شك يُدرك ما نقول. والكاتب قد أبان في الإخبار عن نفسه، من دون أن يدري. وهذا من إنطاق الله للأشياء، كما أخبر سبحانه في قوله: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]. نعني أن هذه الحقيقة لها مجالٍ في الدنيا قبل الآخرة. وهذا الباب من العلم نفيس، من أوتيه، لم يستطع أحد من الخلق أن يكذب عليه. فهو إن أنكر من جهة معلومه، أخبر عن نفسه من جهة مجهوله؛ وكأنه جاسوس على نفسه لمـُخاطَبه. وكل هذا، من آثار العزة التي يكسو الله بها أولياءه!... [والعدْل في الأقسام نُطْعِمُ سَـاغباً *** نُرْوي لُغُـوبَ الـواردِ الظَّـمْـآن]: تقول العامة: "فاقد الشيء لا يعطيه". وكيف يُطعم الكاتب الجوعى وهو أشد منهم جوعا (فقدا للحق)!... أم كيف يروي الظمآى وهو أشد ظمأ!... إلا إن كان يريد أن يظهر بمظهر إبليس، استنانا بسنته واقتداء به. ألم تأت أخبار المحتضرين بأن إبليس يظهر لبعضهم عند اشتداد السكرات عليه، في صور منها صورة أبيه وأمه، ينصحانه بالموت نصرانيا أو يهوديا؛ وصورة ساق يعرض عليه سقياه ويشترط عليه أن يكفر؟!... ولقد سمعت هذا من أحد معارفي، حضر وفاة رجل أعرفه، فأخبرني أنه في إحدى إفاقاته طلب منهم ماء، وقال لهم: "إن اللعين يعمل "قرابا". القراب بالعامية المغربية هو من يبيع الماء في الأسواق، وله هيئة مخصوصة وأكواب رائقة. وعندما نتفحص مقولات الكاتب في الخلاف والاختلاف، فإننا سنجدها تتلخص في قبول انحراف ابن تيمية؛ وكأن اختلافه من ذاك المشروع، الذي كان عليه الصحابة المرضيون، والأئمة المهتدون. وهذا لا يدل إلا على كون الكاتب، لا علم له بالإسلام السليم، بله أن يكون له خبر عن الإحسان!... ونحن -وإن كنا نستثقل الرد عليه في كل ترهاته- لا نجد بدا من متابعة كلامه، حتى ندل على سقطاته؛ لعل الله يهدي قوما ساروا خلف ضلالاته، ويعودوا إلى الإسلام الصافي، الميسّر الخيِّر، فإننا نرى أن هذا الداء قد أصاب كثيرين، ممن نرجو أن يصبحوا يوما من جنود الله حقا، بعد أن غُرِّر بهم. وبعد أن رأينا كل هذا التعصب من الكاتب لشيخ الضلال "ابن تيمية"، فإننا قد أيقنّا أنه لا خبر له عن الإحسان (المرتبة)؛ وأنه لابس ثوب زور، كنا نحسبه منزها عنه. إنا لله وإنا إليه راجعون!... [1] . مسند الموطأ للجوهري. [2] . أخرجه ابن حبان في "روضة العقلاء". |