انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2019/04/09
إحسان الإحسان - 20 -
ابك على نفسك يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: [بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾. اللهم عافني في جسدي، وعافني في بصري، واجعله الوارث مني. لا إله إلا أنت الحليم الكريم. سبحان الله رب العرش العظيم. والحمد لله رب العالمين.] [لم يكن ابن القيم بدْعاً من العلماء في صحبته لشيخ أخذ بيده حتى أراه مطالع الإيمان، وحتى رأى على يده آثاراً عظيمة "محجوبة عن زمرة العميان". وقد رأينا نماذج من سعي العلماء إلى المشايخ الربانيين يجثون أمامهم على الركب.]: ما زال الكاتب منحرفا عن الطريق، يبغي الدلالة على الماء في السراب. ونحن قد سبق أن بيّنّا أن ابن القيم لا يبلغ أن يكون إماما في الدين. ولقد وقع في هذا الخلط كثير من المسلمين قديما وحديثا، فظنوا أن كل فقيه يجوز له الكلام في كل ما هو متعلق بالدين وبالأمة؛ فنشأ عن هذا الخلط إخلال بالمراتب، وعن هذا الإخلال اضطراب في الوظائف، وعن الاضطراب انعكاس في النتائج. وإن المنظرين للأطروحة الإسلامية، لا يخرجون عن هذه القاعدة، عندما تكلموا في الشأن السياسي في ظروف استثنائية، لا يحيطون بجميع جوانبها؛ وفي مناخ عولمي لم يراعوا فيه أنهم أضعف الأطراف فيه وقتيا... والأستاذ عبد السلام ليس بدعا من هؤلاء الإسلاميين المتأخرين، وهو الذي خلخل المشهد السياسي من دون أن يتمكن من إحداث تغيير معتبر، من جهة التصور قبل العمل. ونحن رغم مخالفتنا له في جل ما ذهب إليه، إلا أننا لا ننكر أنه -رغم كل شيء- قد ساهم في تحريك الراكد، وفي الحد من المشبوه الوافد. [وما منهم إلا من أخبر عما آتاه الله من الفضل حين "ورد" الكأس الصافية. وقد تركوا لك شهادات مشفقة على شكل نداء لفطرتك يَسْتَنْهِضُونَكَ لتطلب كما طلبوا وترِد كما وردوا. فاجلس معي لأسمِّعك عسى أن تتيقَّظ همتك، وتَنْبعث، وتسير، وتصحب، وتذكر الله، وتحب الله ورسوله، وتبلغ مبالغ الرجال، فأكونَ السعيد بأن أجدك في صحيفتي ونلتقي هناك في رحمته، بمحض فضله وكرمه، إنه سبحانه الكريم.]: بعد كل ما مر، يتبيّن أن هذا الكلام لا حقيقة له؛ بما أن الكاتب لا يميّز بين أهل الهدى وأهل الضلال ممن ترسموا بالدين. والمصيبة هي أنه بدلالته على الضلال لا يثبت إلا أنه مضل، على غرار من يعظمهم؛ سواء أعلم بذلك أم لم يعلم. ولا شك أن السبب في وقوع الكاتب فيما وقع فيه، هو كونه على الإدراك العام للدين، لا يُجاوزه. فهو لا يختلف كثيرا عن العوام الذين يرون كل مجلبب ملتح ناطق بآيات القرآن وبالأحاديث من العلماء المبجلين. نعم، العامي معذور؛ ومكانته لا تعطيه أن يؤسس تنظيرا على آرائه، وهذا فضل من الله على الناس؛ ولكن الكاتب ملوم على ما يكتب، لأنه يخاطب بكتاباته الأمة جمعاء. والأمة إن لم تبْن تصوراتها على العلم الصحيح، فإنها ستزداد شقوة وفسادا. وهذا لا يجيزه أحد من ذوي الأحلام، ولا يقول بإمكان إخضاع الأمة للتجربة فيه عالم معتبر. وأما سلاح البيان وتنميق العبارات، الذي اعتمده الكاتب في عمله هذا، فلا يُجدي إلا عند الديماغوجيين، الذين لا ينظرون إلا إلى الإنجازات المرحلية، دون المآلات البعيدة. ولقد كنا نرجو أن يكون هو بتجربته وثقافته، أحد الدالين على الحق من دون شائبة تشوب دعوته؛ ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه... وليس لنا -وقد جئنا بعده- إلا أن ندعو الله له أن يفك ارتباطه بكل كلام له خالف فيه الحق كما هو في علم الله، وأن يغفر له بنيته ما لم يبلغه بعمله. [قالَ لَكَ الشيخ الإمام القدوة مولانا عبد القادر الجيلاني قدس الله سره: "يا غلام! (...) دَأبُ الله عز وجل مع عباده المصطَفَيْنَ المـُجْتَبَيْنَ أن يقطعهم عن الكل، ويبْتليهم بأنواع البلايا والآفات والمحن، ويُضيق عليهم الدنيا والآخرة وما تحت العرش إلى الثرى. يُفْني بذلك وجودهم، حتى إذا أفْنى وجودهم أوْجدهم له لا لغيره، أقامهم معه لا مع غيره. يُنشئهم خلقا آخر كما قال عز وجل: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾. الخلق الأول مشترك (مع سائر بني آدم)، وهذا الخلق مفرد. يفرده عن إخوانه وأبناء جنسه من بني آدم. يغير معناه الأول ويُبَدِّله. يُصَيِّرُ عاليَه سافلَه. يَصِيرُ ربانيا روحانيا".]: إن كل كلام الجيلاني -رضي الله عنه- والذي هو حق من حق، يعلمه كل من سلك الطريق ووصل، وتحققت له معرفة الحق؛ أما الكاتب، فلا خبر له عنه؛ لأن الحق لا يجتمع مع ترهات ابن تيمية وتصوره المنكوس. ولعل الكاتب بعد أن أتى من كلام ابن تيمية ونظرائه، ليستميل به متأخري المتسلفة، يريد بإيراد كلام الجيلاني الذي هو الشيخ الرباني المجمع عليه من قِبل الصوفية والمتصوفة، أن يستميل متصوفة زمانه؛ ليكون له من الأتباع من جهة العدد، ما يؤهله -بحسب تمنّيه- لانتزاع الحكم من أهله، عسى أن يظفر من "علو الهمة" بما لم يبلغه ابن تيمية أو أحد من أتباعه. وأما الجيلاني الذي لو عُرض عليه الملك لردّه، فإن صاحبنا لا يعلم شيئا من حاله؛ وإنما هو يبغي استغلال مكانته، وكأن أهل الله (من أهل التصرف) سيقبلون أن يوظّف كلام الواحد منهم -حيا كان أو ميتا- لغير ما يصب في خدمة الدين وخدمة الأمة؛ عبودية منهم لله، يأبى ضعاف النفوس أن يقرّوا لهم بها حقيقة. وكيف يقر أمثال الأستاذ عبد السلام بعبودية يرى أصحابَها دونه في مرتبة جهاده الزور؟!... وأما نحن، فمن فضل الله علينا، أننا منذ بداية التسعينيات، وعند اطلاعنا لأول مرة على كتاب "فتوح الغيب" للإمام الجيلاني رضي الله عنه، وجدنا أننا قد ذقنا كل ما أخبر به الجيلاني عن نفسه، إلا أمرا واحدا لا أذكره الآن. لهذا فإننا عندما نتكلم في كل ما نتكلم فيه، فإننا نخبر عن وجود وعن علم إلهي صحيح. وإن ما يخبره الجيلاني في هذه الفقرة، عن تبدل حقيقة الولي، نعلمه نحن ذوقا لا تصورا. وعندما نؤكد صحة ما ورد، فإننا نتكلم عن مطابقة ذوقنا لذوق الجيلاني فحسب؛ لا عن مقارنة عقلية وفحص منطقي. [وخاف عليك شيخ الإسلام ابن القيم أن لا تصدق التحويل الذي يحول الله أولياءه، فقال لك: "وما أظنك تصدق بهذا! وأنه يصير له وجود آخر. وتقول: خيال ووهم! فلا تعجل بإنكار ما لم تُحط بعلمه، فضلا عن ذوق حاله، وأعط القَوْسَ بارِيَها وخلِّ المطايا وحادِيَها".]: وكما شهدنا للجيلاني بصحة ذوقه، وهو الغني عن شهادتنا، نشهد بكذب ابن القيم وشيخه؛ لأنهما لا مدخل لهما في أذواق الأولياء، بل هما يُشْبِهان في حالهما حال الشياطين الذين أخبر الله عنهم في قوله سبحانه: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8، 9]. فسماء الأرواح التي يسكنها الأولياء، هي محرمة على أمثال ابن تيمية؛ فيقعد مِن ألفاظهم مقعدا للسمع، يظن أنه يحصل منه شيئا مما لهم. فتعطيه الألفاظ معانيها، وتبقى المعاني التي قصدها أهل الله محرمة عليه وعلى أمثاله. فيخرج بما تصوره مردودا بشهب العزة، فيظن أنه بعلمهم يخرج، وهو في الحقيقة ما خرج إلا بخيبته وسوء مُنقلَبه وفضيحته. كل هذا، وهو لا يعلم أنه ممكور به، يمشي بين الناس من دون لباس. وهذا الأمر من أعجب ما يقع من حماية الله لعلوم الربانيين، والناس لا يكادون يشعرون. ومن هذا الباب كان بعض الأولياء (ومنهم الجنيد) يتكلمون في الحقائق على رؤوس الأشهاد، لعلمهم أن غير أهلها لا يظفرون بها لعزتها، وأن أهلها وحدهم هم من تستقر عندهم. ولقد كنا نحن نكلم بعض أصحابنا في أوقات بما لا تبلغه عقولهم، فكنا نخاف عليهم الفتنة فنتفقد ما يذكرونه من ذلك لنصحح منه ما اعوجّ في عقولهم، فنجدهم قد نسوه وكأنهم لم يسمعوه قط... [وقال لك الشيخ عبد القادر قدس الله سره: "ويحك! تدعي أنك منهم! ما علامتهم عندك؟ ما علامة قرب الحق عز وجل ولطفه؟ في أي منزلة أنت عند الحق عز وجل وفي أي مقام؟ ما اسمك وما لقبك في الملكوت الأعلى؟"]: كان حريا بالكاتب أن يوجه كلام الجيلاني رضي الله عنه إلى نفسه هو، ليرتدع عن تقمص ما هو وراء غاية همته. وكان حريا به أيضا أن يسائل ابن تيمية وتلميذه، عن مكانتهما عند الله، وعن لقبهما عند العلماء بالله؛ ما داما ليسا من أهل السماء. لقيت مرة أحد أهل النوبة في مدينة جرادة، وكان رجلا أميا، وكان من أهل الآيات الباهرة المشتهرة، وجرت بيني وبينه محاورة في الحقائق، فوجدته يعبر عنها بعبارة مكثفة لا يحتملها إلا من يعلمها من باطنها؛ وعلمت ممن كان يسمع منه فيما بعد، أنه كان يُخبر عن السماوات وعمن يلقاهم من الناس هناك. رحمه الله ورحم ابنه معه. [وقال: "يا منافق! طهر الله عز وجل الأرض منكَ! ما يكفيك نفاقك حتى تغتاب العلماء والأولياء والصالحين بِأكْل لحومهم! أنت وإخوانك المنافقون مثلُك عن قريب تأكل الديدان ألسنتكم ولحومكم، وتقطعكم وتمزقكم. (…) لا فلاح لمن لا يُحسن الظن بعباد الله عز وجل وبعباده الصالحين ويتواضع لهم. لِمَ لا تتواضع لهم وهم الرؤساء والأمراء؟ من أنت بالإضافة إليهم؟ الحق عز وجل قد سلم الحل والربط إليهم. بهم تمطر السماء وتُنبت الأرض".]: هنا يُبين الكاتب عن اقتفائه لأثر ابن تيمية خطوة خطوة، لأنه يُدلّس؛ ويريد من الناس أن يفهموا أنه أهل لأن يخاطب الناس بكلام الجيلاني، ليعتقدوا فيه الولاية، وقد اعتقدوها. ولكنه الآن وقد انقلب إلى ربه، فإنه لن يجد إلا ما هي عليه حقيقته من غير زيادة ولا نقصان؛ وسيُبعث مع أشباهه في الضلال عندما يلتقون بالحقيقة، بعد أن فرّقهم الزمان؛ إلا أن يغفر الله. وأين هو الكاتب من الأولياء الذين جعل الله شؤون العالم بين أيديهم، فضلا منه ونعمة؛ يرفعون بإذنه تعالى ويخفضون؛ يُحيون ويميتون... أين هو من هذا كله، وهو من استرقّه الشيطان بالنفخ في أمنيته، وقد مات من دون أن يرى لها أثرا!... أين هو منهم، وقد ترك عددا من أتباعه يغوصون في أوحاله بعد أن قيّدهم فيها بتلفيقاته التي ظنوها تنظيرات مؤسسة على شيء!... ومن غريب ما تقرر لدى هؤلاء، أنهم يحملون نهي الجيلاني عن اغتياب العلماء على ابن تيمية وأتباعه؛ ويظنون أنهم بذلك مفلحون. وما علموا أنهم منكوسون، يضعون الحكم في غير موضعه، وينسبون الأمر إلى غير أهله. إن ابن تيمية لا غيبة له، لو كانوا يعلمون، وهو من اجترأ على مرتبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فإن لم يعلم قومنا ما نذكره هنا، فلا أقل من التوقف منهم، إلى أن يأتي الله بعلم منه مبين. وأما المسارعة إلى مخالفتنا، فهي لا تخبر إلا عن خذلان الله لهم، الذي سيرون عاقبته عن قريب. وليعلم العباد أن الأمر هنا ليس بكثرة عدد المناصرين، ولا باتفاق العالَمين؛ وإنما هو الحق وحده المعتبر، وإن نطق به الواحد من الناس في زمانه. والشأن على هذا خطير، لا يلبث أن يندم على الخوض فيه جل المتكلمين. فأين من يحكم بحكم الآخرة في الدنيا، لنبشره بأنه سيجد الأمر على ما يقول!... [وقال: "يا غلام! تفكر في أمرك! (...) ما أنت صادق ولا صِدّيق ولا مُحب ولا موافق ولا راض ولا عارف! قد ادعيت المعرفة بالله عز وجل: قل لي ما علامة معرفته؟ إيشْ ترى في قلبك من الحُكْم والأنوار؟ ما علامة أولياء الله عز وجل وأبدال أنبيائه؟".]: والله إن هذا الكلام كان أحوج الناس إليه عبد السلام ياسين، لو أنه نصح نفسه!... ولكنه عمى البصيرة، عندما يصيب العباد. وقد كنت يوما في رفقة أحد أتباع الكاتب منذ بضعة عقود (أظن ذلك حدث في الثمانينيات) نمشي ونتذاكر شؤون "الدعوة" ولقد كان على غرار "الإخوان" يفعل كل ما بوسعه ليجعلني أنضم إليهم، من غير أن يشعرني بحرصه، فقلت له صادقا: "لقد قرأت جل كتب الأستاذ، فعرفت أن له نصيبا في السلوك؛ لكنني لم أجد له عبارة واحدة تدل على معرفته؛ وإنما ينقل كلام الجيلي والرفاعي فحسب!". فسكت صاحبي ولم يُعقّب. وما زلت اليوم عند رأيي في الأستاذ، لأنه لو كان من العارفين لتكلم بعبارته، ولم يحتج إلى استعارة عبارات غيره؛ خصوصا وهو يفهمها على غير وجهها، ويوظفها في غير موضعها. وعلى هذا، فإنه المعني بقول الجيلاني هنا: "قل لي ما علامة معرفته (الله)؟... ". اللهم إنا نعوذ بك من الخذلان واختلال الميزان!... ويشير الجيلاني رضي الله عنه بـ "أبدال أنبيائه"، إلى أن الأولياء يكونون على قلوب الأنبياء في الوراثة. والعلم بجميعهم، يتطلب العلم بمقامات جميع الأنبياء عليهم السلام، وهو متعذر. وهذا يعني أن من الأولياء من قد لا يعرفه من يعرف صنفا غيره منهم. والتسليم أحوط لمن كان يرجو السلامة ويحذر الآخرة. [وقال: "هذا العبد الذي وصل إليه (…) يصير مِطْرَقاً للخلق جَهْبَذاً (أي خبيرا كاشفا للعيوب المبطنة) سفيراً دالاًّ إلى باب الحق عز وجل. فحينئذ يدعى في الملكوت عظيما (...)]: الكلام المحذوف في بداية الفقرة للجيلاني هنا هو: "والذي رآه وما سواه شغل الخلق"، وحذف الكاتب لعبارة "والذي رآه"، تدل على أنه يستعظم أمر المشاهدة؛ وهذا يدل أيضا على أنه ليس من أهلها؛ لأن الخواص مدار أمرهم عليها لا على العلم المجرد. هذا الكلام للجيلاني، هو ما ذكرناه نحن قبل فقرات، من أن الولي لا يتمكن أحد من استغفاله والكذب عليه. فإنه إن كذب الكاذب بلسانه، نطقت كل أعضائه تكذّبه. فيسمعها الولي أو يراها، وهو لا يعلم. فيظن أن كلامه قد انطلى على الولي، فيؤتى من جهة ظنه جزاء له على سوء أدبه. وأما من عرف حق الأولياء، فإنه لا يسأل عند مجالستهم إلا السلامة، لعلمه بعدم معرفة حقيقة أمرهم. سمعت مرة عن أحد مريدي الحاج العباس رضي الله عنه (من أقران الكاتب أو ممن هم أسنّ قليلا) وهو من مدينة وجدة، أنه دعا الله يوما بحضرة شيخه أن يرزقه الأدب معه، فأجابه الشيخ: "لن تطيقوا؛ وإنما اسأل الله التوفيق للصواب معنا فحسب!". وهذا لعمري صحيح؛ فإن من أوكل إلى علمه في حضرة الأولياء، فإنه يسارع إلى عطبه وهو لا يشعر. ولقد منّ الله علي عند صحبتي لشيخي أنني ما جالسته قط وأنا أعلم أني أهل لمجالسته؛ وما كنت أرجو من صحبته إلا حسن خدمته والخروج سالما لا عليّ ولا معي. وقد كنت من شدة تعظيمي له أحيانا، لا أعي ما يقول؛ وأسمع كلماته كأنها صلصلة جرس في أذني من قوتها. فإذا خرجنا من عنده، سألت رفقائي عما قاله آنفا، فيخبرونني وكأنني لم أكن معهم. ولقد وجدت لتعظيمه رضي الله عنه، واردات ما أظن أن عملا من الأعمال المعروفة يأتي بها. وأما الكلام المحذوف من نهاية الفقرة، فهو: "يكون الخلق كلهم تحت أقدام قلبه، ويستظلون بظله،". وهذا الحذف من الكاتب يدل على أنه لا يقبل كلام الجيلاني كله. ولو ترك الكلام كما هو، فلربما عرف (أو عرف غيره من الناس) أنه ليس من أهله، وهو يريد غير ذلك. ولقد كان جديرا به أن يشير إلى أنه متصرف في النقل، حتى يكون أمينا؛ وأما والحال غير تلك، فإن التلقي عنه لا ينبغي أن يكون بالتسليم، بل مع التثبت والتمحيص. [لا تَهْذِ! أنت تدعي ما ليس لك، وما ليس عندك! أنت نفسُك مُستولِيَةٌ عليك والخلق والدنيا كلها في قلبك! هما في قلبك أكبر من الله عز وجل. أنت خارج عن حدِّ القوم وعدِّهِم. إن أردت الوصول إلى ما أشرتُ إليه فاشتغل بطهارة قلبك (…)، واصبر مع القَدَر، وأخْرج الدنيا من قلبك. وبعد هذا تعال إليَّ حتى أتكلم معك (…). وقبل هذا فالكلام هَذَيانٌ!"]: يقصد الجيلاني رضي الله عنه من كلامه، أن العبد المتوجه إلى الدنيا، والساعي في هوى نفسه، لا ينتفع بصحبة العارفين؛ لأن العارفين لا يتكلمون إلا عن معروفهم، وإن بدا للغافل أنهم يتكلمون في كل الشؤون، والتي منها الدنيا. وهو ينصح مدعي الأهلية، أن يتطهر من كل ما يحجبه عن ربه، ثم يأتيه بعد ذلك، لينتفع منه. وهذه النصيحة كان الكاتب أولى بالعمل بها، وهو من انحرف عن الطريق من قبل أن يُلبي نداء ربه من شيخه، وتكمل تربيته. لهذا كنا نقول عن كلامه فيما سبق "هذيان"، كما وصفه الجيلاني باللفظ. رضي الله عنه وعن جميع أهل الله. [واقرأ أخي وأختي ولو مرة كتاب "الفتح الرباني" فكله رسالة واحدة، وصية واحدة، من هذا الرجل المبارك الذي أجمعت الأمة على توقيره. وإن كان في الكتاب أحاديث ضعيفة وواهية فإن شيخ المحدثين الإمام أحمد رحمه الله لا يرى بأسا في الاستشهاد بالضعيف في فضائل الأعمال.]: وما جدوى القراءة، والقلب مدنس بالأغيار!... ألم يسبق للكاتب أن أخبر أن قراءة كتب القوم لا تغني شيئا، عن الجلوس بين يدي شيخ عارف يأخذ بيد العبد إلى ربه!... لمَ يتقلب الرأي من الكاتب، ويتوهم أن القارئ سيقبل منه التوجيهين معا مع ذلك!... أهو الهذيان؟... أهي حقيقة حاله تنطق عنه بما يُبطن؟... ثم هو بإيراد رأي الإمام أحمد في جواز الاستدلال بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، كمن يستأذن للجيلاني من الإمام أحمد؛ لا يدل إلا على تنكيسه، كما اعتاد أن يفعل دائما. فأين أحمد من الجيلاني!... وإن كنا لا ننسب سوء الأدب إلى الإمام أحمد، وإنما إلى من يُقحمه في سوء أدبه هو مع الرجال!... وما ينبغي أن يعلمه أهل الحديث خصوصا، عن أهل الله، هو أنهم قد يأتون بالحديث من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة، كما أخبر الدباغ رضي الله عن نفسه؛ فيتوهم الناس أنهم يأتون بالأحاديث الضعيفة إذا حدثوا بها، وهي صحيحة عند الله وعند الناطق بها صلى الله عليه وآله وسلم. وإذا لم يكن للأولياء، هذا المأخذ الخاص الذي يميّزهم عن سواهم، فما هي الولاية بعدُ؟!... ولقد حدث معي مرة في واقعة، لا أذكر الآن تفاصيلها، أُلهمت فيها النطق بصيغة مخصوصة للثناء على الله، لم أكن أعلمها، ولا هي مما يجري على الألسنة. فلما بحثت عنها في الروايات، وجدتها كما أُبلغتها والحمد لله، من الصيغ النبوية. ولعل الأمر قد تكرر معي بخصوص غيرها، وإن كنت الآن لا أذكر تفاصيل ذلك كله. ونعني من هذا، أن ديننا نحن إنما نأخذه عن الله ورسوله، لا عن الكتب. ولو اشتغل الأولياء بتصحيح الأحاديث والحكم عليها بالوضع (لأنه لا مجال للتضعيف معهم)، من هذا الوجه الغيبي، لسمع الناس العجب!... [وأوصاك الإمام الجليل القدوة الشيخ أحمد الرفاعي قدس الله سره فقال: "أي أخي! أين أنت؟ في أي واد؟ تهيم في وادي وهمك! تَسرح في ميادين قطيعتك! اللهَ اللهَ بك! أحْرِصُ عليك والله أن تنقطع! أخاف عليك أن تخذل! (...) يا أخي لا تَحْرِدْ (لا تهرب) مني إذا انقطعتَ وأنت تظن الوصل، ورأيت أنك عالم وأنت على طائفة من الجهل. فقد فاتك السَّوْمُ، وسبقك القوم، وعمك اللوم".]: كما سبق أن ذكرنا، إن أولى الناس بهذه النصيحة كان الكاتب، لو كان يعقل؛ ولكن قلبه كان قد صُرف عن الحق، فلا يستطيع رجوعا. وهذه الحال، لا تكون إلا لمن أدركه المقت، وخُتم له بالطرد. وإن جلّ من يقع لهم ذلك في الدنيا، بحيث تُمنع عنهم التوبة وإن تمنوها، هم من يؤذون الأولياء. وقد جعل الله لبعض أوليائه سلطانا في الختم بما شاءوا لمن يعرفون من الناس؛ فإذا بلغ من أحدهم أذاه أن يستخرج من الوليّ الختم له بالشقاء، فإنه لن يُفلح أبدا. ولقد وقع في هذه البلية علماء كبار، اجترأوا على أهل الله، وظنوا أن علمهم ينفعهم. وليعلم الطالب، أن الله يغار على نسبته في أوليائه أكثر مما يغار على نسبته المجردة التي يُعاملها العامة من وراء الحجاب؛ لأنه عند الولي حاضر على قدر الولي، لا على قدر العبد المحجوب. وهذه القاعدة نفيسة في معاملة الله في مختلف المظاهر، قد لا يعلمها كثير من السالكين. ولقد أخبرني سيدي ابن الطاهر يوما قائلا: "إن كل من يؤذيني يُعاقب: فإما أن تقع العقوبة عليه أو على أولاده!.". وقد سمعت عن أقرانه، أنهم أخبروا عنه زمن صحبته للشيخ العباس، أن الشيخ رضي الله عنه كان يقول لباقي مريديه، مشيرا إليه: "إنه ناقة صالح! فمن استطاع أن يُكرمه فليفعل، ومن لا فليجتنب أذاه!... ولقد كان أمره كذلك، ما آذاه أحد إلا وظهرت عليه العقوبة من الله. ولقد كان مؤذوه كثيرين، لشدة جهلهم وقلة توقيرهم. [وترك لك عندي نصيحة أخرى تقول:]: هذا تدليس من الكاتب؛ لأن الرفاعي لم يكلفه التبليغ عنه. وإنما هو يروم بذلك التخفي خلفه، ليدعو الناس إلى نفسه. وهيهات!... ["أيْ محجوب! تزعم أنك اكتفيت عنا بعلمك! ما الفائدة من علم بلا عمل؟ ما الفائدة بعمل بلا إخلاص؟ الإخلاص على حافة طريق الخطر من ينهض بك إلى العمل؟ من يداويك من سم الرياء؟ من يدلك على الطريق القويم بعد الإخلاص؟".]: لقد تأكد لدينا بالتكرار أن الكاتب لم يكن عاملا بنصائح الجيلاني ولا الرفاعي؛ وهذا يجعلنا فارغين من أمره. ولكن السؤال هو: إلى أين قاد الكاتب أتباعه بكلام الربانيين؟ فهل علّمهم العمل بالعلم؟ وهل علمهم الإخلاص في العمل؟ وهل ذكر لهم أن بعد الإخلاص طريقا عليهم أن يسلكوه؟ أم إنه اكتفى منهم بمطالبتهم بالدعوة إليه وتكثير الأتباع؟ وهو إن فعل معهم ذلك، هل كان عاملا بنصائح الرفاعي أم كان مخالفا لها؟... نحن لا نشك في أنه قد استغلّ شبابا ظنوا لجهلهم أنهم بإمكانهم إقامة خلافة موهومة، على أنقاض حكم أذِنَ الله في إقامته؛ فأدخلهم في إعلان الحرب على الله وهم لا يشعرون. وإن كان الله الحكيم سبحانه لم يُعجّل بهلاكهم، فإنه قد حرمهم نور العلم ونور العمل، وتركهم بين الناس مفلسين من كل خير، وإن كانوا -عملا بطريقة أستاذهم- ينسبون كل فضل إليهم. وإنا لا ندري، كيف يجرؤ عبد أن ينسب إليه ما لم يُثبته الله له!... أيظن أنه سينال ما لم يأذن به الله، وهو سبحانه الفعال لما يريد؟... {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74]. [ووصية أخرى تقول: "أي سادة! أحذركم الدنيا! أحذركم رؤية الأغيار! الأمر صعب، والناقد بصير. إياكم وهذه البطالات! إياكم وهذه الغفلات! إياكم والعوالم! إياكم والمحدثات! اطلبوا الكل بترك الكل. من ترك الكل نال الكل. ومن أراد الكل فاته الكل. كل ما أنتم عليه من الطلب لا يُصلحه إلا تركه والوقوف وراءه. وحِّدوا المطلوب تندَرِجْ تحت توحيدكم كل المطالب. من حصل له الله حصل له كل شيء، ومن فاته الله فاته كل شيء".]: هذه الوصية من السيد الرفاعي جامعة؛ ولكن أين الإسلاميون منها، وهم من يؤسسون رؤاهم على اعتبار الأغيار!... إن رؤية الأغيار لا تنتفي إلا لأهل التوحيد الخاص من أصحاب الإحسان حقا؛ فأين صاحبنا منها؟!... أما حصول الله للعبد، الذي هو الغاية من السلوك، فأصحابه قلة من الناس. هم وحدهم من تركوا كل شيء من أجل الله، فأنالهم الله كل شيء بفضله. وكيف يأتي الكاتب بهذا الكلام، وهو يعلم أنه على غير طريقه يسير!... وإلى غيره يدعو!... وأما العمل بمقتضى التشريع، الذي يتشبث به الكاتب ومن يسير على دربه زعما، فإنه غير ما يظنون؛ لأنهم يعملون بما يرونه شريعة على غفلة، وأهل الله يعملون بالشريعة على حضور. والفرق بين الحالين كالفرق بين السماء والأرض، لا يُتصوّر للعقول. وعلى هذا، فإن العمل بمقتضى الشريعة لا ينبغي أن يؤم فيه الناسَ الفقهاءُ المحجوبون، ولا الحركيون المتأدلجون كصاحبنا، ولكن ينبغي أن يكون ذلك تحت إمامة الربانيين، المعاملين لله ظاهرا وباطنا، والعالمين بالأحكام من وجه ظاهرها ومن وجه الباطن؛ حتى تكون الأعمال مثمرة للخاص والعام. ولكن ما نشهده في زمان الإسلاميين، هو العكس؛ فنجد عوام العوام يتقدمون الصفوف ليدلّوا على عمل يهدم ولا يبني، يُغضب الرب ولا يُرضي؛ من دون أن يعترض طريقهم أحد من أهل العلم أو من أهل السلطان، وكأن الجميع قد صمموا على السعي في هلاك هذه الأمة من أقرب طريق. ولقد كنت أعجب في حواراتي المتعددة مع الإسلاميين، عند مخالفتي لهم في الرأي، كيف أنهم مصرون على المضي فيما هم عليه، وإن بدا لهم أن الحق ليس معهم!... يصرّون على ما هم عليه، وكأن الأمر بينهم وبين الخصوم وحدهم؛ من دون أن يحسبوا حسابا لله، ربهم ورب خصومهم. ولقد كنا نبشرهم بعدم نجاح مسعاهم، بسبب سوء أدبهم وجهلهم، فكان ما تلقنوه من أيديولوجيا يغلب كل كلام. وها هم رغم توالي النكبات عليهم وتعاقب الخيبات، لا يزالون يعاندون من له الفعل والاختيار وحده سبحانه. ولا يعلمون أنهم بهذا، يكونون من أهل الكفران عمليا (كفران عناد)، وإن بقوا على إسلام باهت من جهة الباطن. فما أشد خسارة هذا الصنف من الناس، مع ما هم فيه من تعب ونصب!... [إن كان ما قرأته من وصايا الرجال هيج شوقك، فاسمع قوارع الكلام يحاول به أهل الله وخاصته أن يَخِزُوا به همتك وأنَفَتك وخزاتٍ مؤلمة عساك تنهض ولا ترضى بما دون اللحاق بهم ومنافستهم وسبقهم. ولم لا تطلب والله لا يزال وهَّاباً كريما!]: تهييج الشوق ينبغي أن يُعلم إلامَ؛ فنحن على كثرة ما لقينا من الإسلاميين، ما رأينا منهم واحدا يشتاق إلى الله!... ورأينا أغلبهم، يعيشون تقمصات لأحوال المؤمنين، من باب سوء الفهم لمثل حديث: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا؛ فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا.»[1]. ولقد ظن المساكين أنه يجوز بحسب هذا المبدأ لمن لم يعلم أن يتعالم، ولمن لم يصدُق أن يتظاهر، ولمن لم يُخلِص أن يزعم، ولمن لم يسبق أن يتقدم؛ ففسد لديهم بهذا الخلط نظام الدين، وفُتح الباب بينهم أمام الدجالين؛ فانعكست أمورهم، وانطمست أنوارهم، وصاروا أسوأ من غيرهم ممن انحرفوا عن الطريق من بداية أمرهم، كالمتفلسفة من يساريين أو ليبراليين، وإن ظهر العكس. إن الكاتب عند إتيانه بكلام أهل الله المشوّق إلى الله، وإتيانه بكلامه بعده الذي ينصب الدنيا بين أعين القراء، يكون كالمستهزئ بالدين!... أو كأن أهل الله لا ينبغي أن يُلتفت إلى ما يقولون، لأنهم ناقصو علم أو دين؛ حاشاهم!... وإن المتلقي الذي يسمع من الكاتب نقله لكلام الخواص، ويتوجه بعده إلى ما يُدلّ عليه من دخول في مجال السياسة وهو لا أساس له من الإيمان يمنعه عن انتهاك الحرمات، وعن التحلي بصفات المنافقين والفاسقين، لا يكون إلا من الكاذبين الذين لا خلاق لهم عند الله، ولا مثوبة ولا مآب. {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج: 18]. [رجل من بني آدم طلب فوجد، وسلك فوصل يخاطبك: "يا من باع كل شيء بلا شيء، واشترى لا شيء بكل شيء! قد اشتريت الدنيا بالآخرة، وبعت الآخرة بالدنيا! أنْتَ هَوَسٌ في هَوَس! عَدَم في عدم! جهل في جهل!"]: هذا الكلام للجيلاني رضي الله عنه؛ وهو وصف لجل أهل الدين في زماننا، يغني عن كثير من الكلام. وإن إتيان الكاتب به، في معرض الاستشهاد الموهم بأنه عامل به، لا يكون إلا من التدليس؛ لأن الطريق غير الطريق، والغاية غير الغاية!... [ويخاطبنا وقد هاج عليه إخلاصه قائلا: "إن أردت الفلاح فاصبرْ على مطارق كلامي. إني إذا أخذني جنوني لا أراك! إذا ثار طبع سري، طبع إخلاصي، لا أرى وجهك! وأريد الصلاح وإزالة الخبث عن قلبك، وأطفئ الحريق عن بيتك، وأصون حريمك.]: مقصود الجيلاني من كلامه، دعوة السامع إلى الصبر عليه؛ لأن كلام الصدق الذي لا مداهنة فيه، مؤلم للنفوس الضعيفة. وقد اعتاد الناس من مخاطِبيهم أن يحتالوا عليهم ويوهموهم بأنهم أفضل الناس حالا، ليأخذوا ما في أيديهم من حطام. وهذا الخطاب الضلالي، هو الغالب على عصرنا، حتى صار أقل الناس شأنا يقارن نفسه بالصحابة المرضيين من دون أن يتردد!... إن كلام الجيلاني "الحق"، له أثر في النفوس، إن هي أقبلت عليه: فهو حارق يذهب بالخبث المكتنف للقلوب، وقوي ينزع عن النفس أكسيتها الموهومة؛ ففي النهاية، هو خير ودواء وصيانة، لا يأباها إلا الحمقى الذين يفضلون خطاب النفاق الممتع المـُخسر. ومقصود الجيلاني من قوله للسامع: "إني إذا... لا أراك!"، هو أنه لا يعتبر شؤون العادة المقتضية لأن يرعى المتكلم مكانة السامع إن كان من أهلها؛ وإنما هو ناطق يخاطب المعنى الكلي (بالمعنى الفلسفي) للعبد؛ لتحصل الفائدة للجميع، وحتى لا يظن من يكون أمامه في ساعة الكلام أنه المقصود وحده، فيتصدّع قلبه. وهذه الصفة من الجيلاني، لا تكون إلا لمن كان نائبا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكلام، وهم خواص الورثة رضي الله عنهم، من كل زمان. ومن تتبع هذه الصفة، وكان ذا تمييز، فإنه لا شك سيعثر عليهم إن كان حريصا على اللقاء؛ فليتق اللهَ امرؤ وجدهم، فإنهم فتنته في النبوة وهو لا يشعر. ونعني بكلامنا، أن من لقيهم وقبل منهم فإنه يكون قد صدّق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتصديقهم، ومن لم يقبل فهو عند الله من المكذّبين!... فحذار حذار!... [(...) أنت كسلان! أنت جويهل! ألَيْكِع! عندك أنك أعْطِيتَ شيئا! كم سَمَّنَتْ الدنيا مثلك وأكلته؟ سمنته بالجاه والكثرة ثم أكلته. لو رأينا فيها خيرا ما سبقتنا! ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾]: هذه صفة جل المسلمين كما ذكرنا، وفي مقدمتهم علماؤهم. ويحذّر الجيلاني رضي الله عنه سامعيه من كل زمان خوض هذه التجربة، وتوهم الفوز فيها من دون شاهد من الله؛ لأن الأمر متكرر مع كل من سبق في الأزمنة كلها، ومع ذلك قليل من تنبه إليه. وعلى المعتبر أن ينظر إلى عاقبة السابقين، ليستعين بها على معرفة طريق خلاصه؛ لا أن يكون كمن يجرب صروف الزمان لأول مرة!... فما أكثر ألسنة الوعظ، إن كان للعبد سمع يسمع به!... ويُنهي الشيخ عبارته بذكره عن نفسه -وهو من يرى الأشياء على حقيقتها- أنه لو وجد في الدنيا خيرا، ما سبقه إليها مخاطَبه الغِرّ قط. وهذا صحيح!... ونعني منه أن أهل الله يكونون من أعقل الناس، حتى قبل انخراطهم في السلوك. فهم ينظرون إلى المآلات، عندما ينظر غيرهم إلى الأغراض العاجلة. لهذا يزهدون في الدنيا، من قبل أن يتوجهوا إلى ربها. وهذا أمر، لم أر -بحسب علمي- من يدل عليه من السابقين، مع علمهم به من غير شك. وقد ذكر الله هذا المعنى عن رسله عليهم السلام، في قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]، فليُتدبّر... [ويخاطبنا معاشر الخربين من الباطن بحدَب الحريص الـمُشفق فيقول: "إذا صفا السر تَعدّى الصفاء إلى القلب والنفْس والجوارح والمأكول والملبوس، وتعدى إلى جميع أحوالك. أولُ ما يَعْمُر داخلُ الدار، فإذا كملت عمارتها خرج إلى عمارة الباب. لا كان ظاهر بلا باطن! لا كان الخلق بلا خالق! لا كان باب بلا دار! لا كان قُفل على خَرِبَة! يا دنيا بلا آخرة! يا خلقا بلا خالق! جميع ما أنت فيه لا ينفعك يوم القيامة".]: لقد نصح الجيلاني رضي الله عنه، ولكن الناقل لم ينصح. ويريد الشيخ هنا أن يؤسس لقاعدة كلية في الدين، وهي أن أصل الأمر باطن، يشهد له الظاهر فيما بعد. وهذا هو ما دل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ.»[2]. وهذا خلاف ما يعمل عليه المتأخرون، عند تأثيثهم الظاهر بصنوف التزويق، وتركهم الباطن مزابل تتخذها الشياطين مساكن. وبعد هذا يزعمون أنهم مؤمنون، ويرجون من الله ما يرجو المؤمنون!... فاعجب، إن كنت ذا لب!... ولهذا السبب كنا -نحن من نشتغل بالتزكية والإسلاك- نجد جل من يأتينا من الممسوسين؛ يظهر أثر المس منهم بمجرد البدء في الذكر المأذون، عند دخول النور عليهم. وكثير منهم يتخلص منه بعد جلسات معدودة، بفضل الله لو كانوا يشكرون. وعلى هذا فليُفهَم أن جل الناس اليوم، يقعون تحت تسلط الشياطين من الإنس والجن أجمعين، وإن كانوا في الظاهر من أكبر العلماء (نعرف هذا عن كبار فقهاء عصرنا)، أو من أكبر ذوي السلطة والجاه. ومن هنا يُعلم ما نحن عليه في عمومنا من هوان وذلة وتخاذل؛ إذ كيف يقوم على رجليه من صار مركوبا للشياطين. يقول الله تعالى مخاطبا اللعين: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [الإسراء: 64]. وخيل إبليس كل مركوب من حيوان وإنسان. ولقد رأينا من هذه الخيل ما لا يكاد يحصره العدّ. بل إن هذا الأمر الذي كان يُستحيى منه في الماضي، قد صار عند المتأخرين ممن فقدوا البوصلة الإيمانية من أمور العادة. ولقد علمنا مؤخرا، عن قوم في مدينتنا يدعون إلى الكفر الصراح، وإلى خدمة الشيطان، من دون أن يجدوا رادعا ممن يزعمون أنهم قائمون على الشريعة والدين من الفقهاء ومن ذوي السلطان أجمعين!... [ويحثنا جَزاه الله خيرا على الإخلاص فيقول: "أنت صنم بلا روح! جِلْدٌ يابس بلا معنى ولا قوة! لا تصلح إلا للنار! عبادتك لا إخلاص فيها؟ فإذاً لا روح فيها! لا تصلح أنت وعبادتك إلا للنار! ما تحتاج تتعب إن لم تُخلص في الأعمال!".]: إن كان هذا الكلام يُقال لمن ظاهر أعماله موافق للشريعة، فما القول فيمن هو مخالف لها بابتداع جهاد فتنوي، يبعث على اقتتال المسلمين فيما بينهم!... فإن كان الأول لا يصلح إلا للنار، فكأن الثاني ما خُلق إلا لها!... إن المعنى المفهوم من هذه الفقرة، قد أجمع علماء الدين على مخالفته منذ قرون، عندما جعلوا الدين طقوسا جوفاء، يعامل الناس بها بعضهم بعضا، وكأنه لا رب لهم. والمصيبة هي أنك إذا رمت الدلالة على معاملة الله، ستجد نفسك وكأنك عجمي بين العرب، تُكلّم من لا يعي، وتُخاطب من لا يكترث!... فإنا لله وإنا إليه راجعون!... [ويقول: "يا أحمق! أنت في قيام وقعود بلا إخلاص. تصلي للناس وتصوم وعيناك إلى أطباق الناس وإلى ما في بيوتهم. أيَا خارجاً عن الأنام! يا منفردا عن وصف الصديقين والربانيين!".]: السؤال هو: لماذا يأتي الكاتب بوعظ الجيلاني رضي الله عنه، وهو من يخالفه طولا وعرضا!... وهل يعلم الكاتب حقيقة الرباني والصّدّيق، أم إنه يستعمل الألفاظ وهو لا ينتظر من أحد تبيّن معناها بعده؟!... وما قول أتباعه في مثل ما دل عليه الشيخ الرباني؟!... أيحسبون أن مجرد انتسابهم إلى جماعة الأستاذ يجعلهم على ذلك!... كما يتوهم بعض المتصوفة عندما ينتسبون إلى من لا يبلغ أن يكون مريدا وهو على كرسي التشيخ جالس؟!... فهيهات!... ومتى كان الساعي يسعى بغير قدميه!... [ويقول: "يا غلام! أراك قليل المعرفة بالله عز وجل وبرسوله، قليل المعرفة بأوْلياء الله عز وجل وأبدال أنبيائه وخلفائه في خلقه! أنت خالٍ من معنى! أنت قفص بلا طائر! بيت فارغ خراب! شجرة قد يبست وتناثر ورقها". أيقصد الشيخ الجليل تحقير أحد من المسلمين؟ حاشا معاذَ الله! إنما هو أسلوب لإيقاظ النائمين.]: الواصف لا يحقر!... والكلام ليس لعموم الناس، وإن كان موجّها إلى العموم. ونعني أن من ينفعل لكلام الجيلاني صنف مخصوص من الناس، خلقهم الله له. وروم الكاتب جعل هذا الكلام من صنف النصيحة العامة، هو من الجهل بالمراتب؛ إن لم يكن من إيهام العامة بأن في إمكانهم أن يكونوا على ما ذكر الشيخ بالتمني!... وهيهات!... وأما ربط الشيخ بين معرفة الله ومعرفة الرسول والولي، فهو جيد ونافع؛ لأنه لا يعلم حقيقة العبد المخصوص إلا من علم ربه. ونعني أنه عند علمه بربه، يعلم الخلق به؛ لا العكس. ونسبة العباد إلى الله تدخل من غير شك في العلم بالله الواسع. وهذا يعني أن غياب معرفة الولاية في المتأخرين، إنما جاء من الغفلة عن الله، ومن ضعف الإيمان به سبحانه. [ما بال القوم يختارون لك من العبارات أنفذَها إلى القلوب؟ ما بالهم لا يملون إخبارك عن العبودية وصفاتها، والألوهية ومُصافاتها، وطريق الولاية وشروطها؟ إنهم لآخرتهم يحرثون. يا هذا! لا تظن أن بهم هما غير الله، والدلالة على الله، وتحبيب العباد إلى الله الذي يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح. فهم الحريصون على أن يلتقي قضاء الله لك أيها السعيد، وسابقته الأزلية لك بالحسنى، مع كلمة تسمعها منهم تكون سبب يقظتك وتشميرك فينالوا عن طريقك مثوبة من الله ورضوانا.]: ينبغي أن نعلم أن الجيلاني ونظراءه دعاة إلى الله حقيقة، وأن الكاتب لا يُميّز مرتبتهم ما دام يقيسها على الدعاة إلى الطريق. ثم إن الدعوة إلى الطريق تنقسم إلى نوعين: دعوة إلى العلم به، وهذه دعوة الفقهاء؛ ودعوة إلى سلوكه، وهذه دعوة عوام الصوفية. والكاتب عند جهله بمرتبة الجيلاني، يصفه ويقع في المحذور؛ وهو تحريف المعاني الأصلية العلوية، والنزول بها إلى معان مشتركة عامية. وهذا كله من الإضرار بدعوة الخصوص، ومن التدليس الذي سيوهم العوام أنه منهم... [هذا واحد ممن أبلى البلاء الحسن في إيصال رسالة الربانية إليك، أسمعك عَذْبَ حديثه بعد أن سمعتك قوارع الجيلاني الكبير. هو ابن القيم الطيب الكريم. يبلّغك على يدي هذه المختارات من هداياه إليك، وارجع إلى كتبه لتقطف مزيدا من الأطايب.]: مرة أخرى يخلط الكاتب بين الأكابر والأصاغر، عندما ينقلنا من كلام الجيلاني إلى كلام ابن القيم. وهو لا يبرهن بهذا منه إلا عن جهله بالمعاني، وعن كونه على سبيل ابن القيم وشيخه يسير. ولو أنه تنبه إلى كون التيميين لا يطيقون كلام الجيلاني، لعرف أن الأمر منوط باختلاف المراتب، وليس مما يتعلّق بالتشهي الذي يكون عليه أهل الأهواء؛ ما دام المراد العلم من حيث هو علم. [قال رحمه الله، لا يعنيه أن تصدق أو لا تصدق بعد أن بلغ الجهد معك وبلغك: "فلو فُرضت لذات أهل الدنيا بأجمعها حاصلة لرجل، لم يكن لها نسبة إلى لذة جمعية قلبه على الله، وفرحه به، وأنسه بقربه، وشوقه إلى لقائه. وهذا أمر لا يصدق به إلا من ذاقه. فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك".]: أولا، علينا أن نعلم أن ابن القيم يبني على بناء الهروي في كتابه "مدارج السالكين"، وإن كان الهروي ذاته ليس من أئمة الطريق بالمعنى الاصطلاحي. فهو يروم تفسير عبارات الهروي وليس واجدا لها. وهذا دأب كثير من الفقهاء، عند توهمهم إمكان تحصيل كل العلوم الدينية بالتصور. والكاتب لا يُميّز بين الذائق والواصف المستعير، لأنه هو ذاته من هذا الصنف. وأما عبارته "فإنما يصدقك من أشرق فيه ما أشرق فيك"، لو أنها صدرت من غيره، لنُسب إلى فلسفة الإشراق؛ أما هو وشيخه، فكلامهما ذاته يُصبح السنة الخالصة التي لا شوب فيها في أعين الجاهلين، بمجرد نسبته إليهما. وهذا كله لا يُنبئ إلا عن عدم الأهلية العلمية للخوض في مثل هذه المسائل. وكنا نود أن نسأل الكاتب عن هذا الإشراق، بأي معنى يُؤخذ هنا؟ وهل هو مجاز أم حقيقة؟... [وقال لك رحمه الله عزاءً في ضَيْعتك: "ومن لم يعلم معنى وجوده لله عز وجل والفوز به، فليَحْثُ على رأسه الرماد، وليبك على نفسه!".]: يتكلم ابن القيم وكأنه من العارفين!... ونحن نسأله ونسأل غيره: هل بلغ ابن تيمية أن يكلم الله، ويُكلمه الله؟... فإن أجيب بالنفي، فإننا نقرر أن تكليم الله نفسه، لا يدل على كون العبد عارفا به؛ ودليلنا هو إبليس. ألم يقل الله تعالى -مثلا-: {قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ . قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 32، 33]. فمن مِن هؤلاء المتعالمين قال الله له وقال هو لله. فكيف يزعم -بعد هذا- معرفة الله من لم يبلغ مقام إبليس!... [وقال يهيب بالقاعدين مثلنا السالكين في ديار الشهوات والغفلات إلى السفر إلى المولى الكريم: "من لم يسافر ولم يخرج عن وطن طبعه ومرباه، وما ألِف عليه أصحابَه وأهلَ زمانه، فَهو بمعزل عن هذا. فإن عرف قدرَه، وكفى الناسَ شره، فهذا يُرجى له السلامة. وإن عدا طَوْرَه، وأنكر ما لم يعرفه، وكذب بما لم يحط به علما، ثم تجاوز إلى تكفير من خالفه، ولم يقلد شيوخه، ويرضى بما رضي هو به لنفسه، فذلك الظالم الجاهل، الذي ما ضر إلا نفسه، ولا أضاع إلا حظه".]: إن أولى الناس بهذا الوصف، ابن تيمية وابن القيم والكاتب معهما. فهم جاوزوا قدرهم، وقبلوا وردوا بهواهم وما يُعطي إدراكهم. وهم من خالفوا الحق، لا لشيء إلا لأنهم لم يظفروا به. ولم يكتفوا بالسكوت حتى يؤتيهم الله علم ما لم يعلموا، وإنما طعنوا في الربانيين وكفّروا منهم من لا يبلغون شأوه في العلم والتحقق؛ ولبسوا على الناس دينهم، وخلطوه بما ليس منه من بنات عقولهم القاصرة؛ فصاروا فتنة زائدة على صنوف الفتن، وهمّا مضافا إلى هموم الحائرين والضالين!... [إن كنت أخي وأختي ممن يستبعد أن يصرف العقلاء وقتهم وجهدهم في العبث والفراغ، فاصبر معي في الفصول المقبلة حتى أصف لك أحوال الأولياء، وأصف لك طريق الولاية. وإن كنت من الصنف الآخر الذي قرأت عنه في هذه الصفحة، وكان رِضَى رُفقتك وأهلِ زمانك أحبَّ إليك من رضى الله تطلبه مع الطالبين، وكان الإنكار والتنكر أوفق لطبعك من التصديق، وكانت النفرة من كلمة النصيحة ألصق بنفسك وأشهى إليها من الانقياد، فاطو هذا الكتاب وانفض يدك وقل: كلام فارغ! كما قال غيرك، وهذا فراق بيني وبينك.]: يتقمص الكاتب صفة الناصحين الذين فرغوا من أنفسهم، ويتوهم أن الأمر منوط في ذلك بالكلام وحده. ومتى كان الكلام مجردا عن قائله له اعتبار؟!... وهل يكون كلام الله مساويا لكلام غيره، إن تصادف واتحدت العبارتان؟!... هذا لا يقول به أحد!... وأما ما يَعِد الكاتب بإيراده مستقبلا في وصف الأولياء ووصف أحوالهم وطريقهم، فإننا بانتظاره من أجل تمحيصه، والتفريق فيه بين حقه وباطله... [واعلم من هنا أن ألف كتاب تحفظه لا يتقدم بك شعرة في الطريق إلى الله إن لم تنبثق فيك إرادة ويقظة وهمة وطلب ولم تجد من يسدد خطاك من رجال عصرك.]: يدعو الكاتب إلى نفسه هنا صراحة، كما يدعو الربانيون كلٌّ في زمانه. وهذا أمر لا غبار عليه، طالما كانت الدعوة ربانية، قد فرغ صاحبها من نفسه؛ وأما وهو ما زال لم يشتد عوده في الطريق، بله أن يزعم أنه من الواصلين، فتلك دعوة أصحاب السبل التي نهى الله ورسوله عنها. يقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. وجاء في الحديث: «خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَطًّا، وَخَطَّ عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الْخَطِّ وَعَنْ شِمَالِهِ خَطًّا، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا، وَهَذِهِ السُّبُلُ؛ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}"»[3]. وليلاحظ القارئ هنا، أن هذه السبل المنهي عنها، ليست السبل المفارقة لسبيل الله من الأصل، والتي يكون عليها أهل الضلال الأكبر؛ وإنما هي سبل منبثقة عن سبيل الله. يخرج بها أصحابها عن الحق، بعد أن كانوا عليه. ولا يقع منهم هذا، إلا باتباع شيطان هم بالتأكيد يظنونه من أئمة الدين، ولو كانوا على نور لكشفوا أمره بسهولة ويسر. ولقد رأينا إبليس مرة في واقعة، لاح لنا من خلف نافذة بيتنا حيث كنا، فعرفناه بمجرد أن وقع بصرنا عليه؛ وعرف اللعين أنا عرفناه فصار يتقهقر إلى أن غاب. ولقد رأيناه يومها على الهيئة التي يكون عليها علماء المغرب، ملتحيا ولابسا جلبابا أبيض يضع "قبّه" على رأسه. نسأل الله العصمة لنا ولجميع المسلمين. [وتكفي كلمة صادق في لحظة صفاء في لقاء شفوي أو مقروء يباركه الله تعالى ليُورَى زَنْدُكَ، وتظلم الدنيا في عينك، لا يقِرُّ لك قرار حتى تضع قدم قلبك في مدارج العقبة لتقتحمها، ولتكون من أهل المناجاة والنجوى، والقرب مع ذوي القربى. كان الله معك!]: الكلام صحيح في بدايته، وإن كان عاما يُختلف فيه من حيث التصديق الخارجي، لا من حيث التصور الذهني الأولي. ونعني من هذا، أن الاختلاف ليس على مبدأ ضرورة الشيخ في التربية؛ وإنما الاختلاف فيمن هو ذاك الشيخ الذي يستحق أن يُلقى إليه القياد. وأما نهاية الكلام فتعود إلى "عقبة" الكاتب التي قد أسس لها سابقا على غير أساس، وتعود إلى اقتحامها الذي يخالف فيه ما جاء به الوحي من عند الله وما اختطته السنة الشريفة. وعندما نقارن ما كنا فيه مع الجيلاني والرفاعي رضي الله عنهما، مع ما يؤول إليه الكلام في نهاية هذا الجزء، فإننا لا نكاد نجد رابطا معتبرا بينهما. فكأن الكاتب يقول: لقد قام فلان بإصلاح بيتك وإعادة ترتيبه، فأعطني أنا الأجرة؛ من دون أن يُعلمنا عن صلته هو بالعامل المـُصلح!... وهذا من الاحتيال الجلي، الذي يقع فريسته ضعاف العقول وحدهم. [قال لك وامق محب على لسان حضرة القرب: لا يُبعِدَنَّـــــــك عَتْبُـــنـا عـن بابنــا *** فالعهـــــد بــاقٍ والــوِدادُ مُصــــــانُ فبـــــجاهنا وبِحُــسْنِنـَا وبلطْفــنـا *** شاع الحـــديـث وســـــارت الركبـــان وإذا ذَلَلْــــتَ لِعــــــزِّنـا ذلـت لعـ *** ـزتـــــك الـملوك وهـابـــك السلطـــان يا أيـهــــا العشــــاق دونكـم السبــــ *** ــاق فهـذه الشقــــــراء والميــــــدان]: حضرة القرب خطابها وحي في أعلى ما يكون الخطاب. والطريق محجة بيضاء ليلها كنهارها؛ الحلال فيها بيّن والحرام. والسباق يكون بين السالكين بأنواع القربات عند الإتيان بها على الإخلاص والخمول؛ لكي تصفو المعاملة وتصح المسامرة. فإن دخل العبد فيما هو من الفضول، أو من الآثام عند الوقوع في أحد صنوف الظلم، فإنه يكون مخطئا للطريق يبعد أن يصل بذلك إلى الحق. ولا ينفع في هذا كلام ولا زخرفة شعر أو نثر!... [وقال محب لك في الله يبشرك بالعقبى إن قدرت على الثمن: يا طـالبــاً للـمــــــعـــالي *** مـهر المعـــــالي غَــالـي قـدِّمْ فــــــأول نـــقـــــــد *** مُعَــــــجّــــــلُ الآجــــال مــــا استعــذبَ الموت إلا *** مــــن ذاق ذَوْقَ الـرجـال حـَمَـــاه دون وصـــال *** حَمَــــاه حَـــــــدُّ النـــــصـال كـذا القـصور العــــوالي *** حُفَّتْ بسُــمْــرِ الـــعــوالـي والشـهْـــــدُ دون جـَــــــنـاه *** لَذْعٌ كحَـــــرِّ الـنَبـال]: المعنى واضح، ولا يحتاج إلى شرح؛ وإن كان عاما يحتاج إلى شاهد يشهد له عند العمل به. [وقلت وأنا الحريص عليك الشفيق: يَا طالبـا للمـعـــالــي *** تبـغــي لَحَــــاق الرِّجـال شـمِّـر بعـــزمٍ لِتـرقى *** لِشــــــاهقـات العـوالـي وغالبِ الجُبنَ واهجُــم *** بمَــاضِيـــات النِّـصـال]: قد يأخذ كثيرون معنى الجبن على معتاد الناس، وما يوافق تلميح الكاتب منه إلى اقتحام عقبته؛ والحقيقة هي أن جبن النفس الذي يحول بينها وبين السلوك إلى الله أقوى، وأولى بالاعتبار؛ لأنه ناشئ من حقيقتها العدمية، والتي تجعلها بعد أن شمت رائحة الوجود، تسعى إلى التمكن فيه -بحسبها- لا إلى العمل على مغادرته. والشأن هنا -كما في أمور أخرى كثيرة- مبني على مبدأ المخالفة، عند العلم بكمون الأشياء في أضدادها. فالبقاء الذي تتوق إليه النفس لا يكون إلا بتحقق الفناء، الذي تفر منه فرارا. والموفق من وفقه الله. وهذا الذي ندل عليه هو من علم التربية، لا من علم الحقائق؛ فليتنبه القارئ إلى الفرق بينهما، حتى لا تختلط عليه الأمور. وفي ختام هذا الجزء نقرر أن الكاتب يجعل الدلالة على الحق التي أعرب عنها الربانيون، ونصحوا فيها الناس بالعودة إلى ربهم، قبل أن تنفد أعمارهم، لا يجعلها الكاتب إلا وسيلة يجتذب بها المغرورين إلى دعوته إلى السِّوى والحجاب؛ وكأن وراء الله مرمى، وهو يقول سبحانه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]. وهذا الفعل وحده خليق بأن يهوي بالعبد إلى أسفل سافلين؛ لأنه عكس لخط سير الدين، وقلب لمعانيه وخلط لمراتبه. وأما في ختام الفصل الثاني الذي عنونه الكاتب بـ "عقبة واقتحام"، فإننا نذكر أنه من أشد ما وقع بيدنا من تدليس المتأخرين، والذي يجمع فيه صاحبه بين ضلالات ابن تيمية العقدية، وضلالات الجماعات الحركية العمليّة، في مزيج موحل يصعب أن ينجو منه ضعاف العقول والإيمان من أهل زماننا. ولا يسعنا هنا إلا أن نحذر المسلمين من ضرره، وأن ننبه أتباع الأستاذ إلى وخامة مورده، لعل الله يتوب بكلامنا على من يتوب، فنكسب إخوانا لنا في الدين، بعد أن أخذهم المـُضِلّون بعيدا. [1] . أخرجه ابن ماجة عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. [2] . أخرجه ابن ماجة عن علي بن أبي طالب عليه السلام. [3] . أخرجه الحاكم في المستدرك، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. |