انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2019/04/17
إحسان الإحسان - 21 -
الفصل الثالث: الصحبة والجماعة: حب الله قطب رحى الدين يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: [بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً﴾.رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكُر لِي ولا تمكُر علي، واهدني ويسر هُدَايَ، وانصرني على من بغى عليَّ، رب اجعلني لك شاكرا، لك ذاكرا، لك راهبا، لك مِطْواعاً، إليك مُجيبا مُنيبا تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبِّتْ حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسللْ سخيمة قلبي.] [الطريق الصادقة الصاعدة التي إن استقام عليها العبد في إرادته وجه الله، لا تصْرِفُ إرادة الدنيا وجهَه، طريق تقرب إلى الله عز وجل وتوصل إليه.]: سلوك الطريق إلى الله، لا يكون معه إرادة للدنيا؛ فكيف يعتبرها الكاتب هنا، ويحكم بأنها لو وُجدت لا تؤثر على توجه العبد!... إن الكاتب بحكمه هذا، يخالف صريح القرآن والسنة، وهو من يكرر أنه ملتزم بهما!... يقول الله تعالى من باب الذم لمريدي الدنيا للصحابة الكرام يوم أحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]؛ ولولا إرادة الدنيا لدى مريديها، ما عوقب صف المؤمنين كله، بما أخبر الله عنه في قوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]؛ وسمى إرادة الدنيا المؤدية إلى المخالفة معصية. وما يجري على الصحابة، يجري على غيرهم من المؤمنين؛ فلا سبيل إلى القول بأن المتأخرين قد يصلون بالأسباب ذاتها إلى نتائج تخالف ما وصلوا هم إليه!... ومن هذا الباب قال مالك بن أنس رحمه الله: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.". ويقول الله تعالى لعموم الخاسرين: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ . وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20، 21]، ويقول سبحانه في معرض ذكر المانع عن الخير: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند تفسيره للوهن الذي يصيب الأمة: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»[1]. ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّكُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، مَا لَمْ تَظْهَرْ فِيكُمْ سَكْرَتَانِ: سَكْرَةُ الْجَهْلِ، وَسَكْرَةُ حُبِّ الْعَيْشِ: وَأَنْتُمْ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَإِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ حُبُّ الدُّنْيَا، فَلا تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلا تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلا تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْقَائِلُونَ يَوْمَئِذٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَالسَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ!»[2]. فكيف بعد هذا، يجعل الكاتب لإرادة الدنيا محلا في الطريق إلى الله. نعم نحن نعلم أنه يريد بالتنازل عن الشروط، استمالة أكبر عدد من مرضى القلوب من أهل زمانه، كما يفعل غيره من "أئمة العصر"؛ ولكن هذا لا يكون عذرا شرعيا قط. وأقصى ما يمكن للمربي الرباني أن يفعله في زماننا، هو أن يقبل الطالبين على حالهم، في انتظار أن ينصلح أمرهم ويعودوا إلى حال السلامة القلبية. وهذا يقتضي منه تعريفهم بأنهم على مخالفة قلبية خطيرة، قد تكون لها نتائج وخيمة على مصيرهم الأخروي. وأما تحريف أحكام السلوك، وموافقة العامة من المخالفين، فإنه تزوير للدين، وانحراف إلى سبل المضلين. وإن كل من ينتسب إلى طريق التربية، وهو على إرادة الدنيا، لا يفلح أبدا؛ وقد رأينا خلقا كثيرا ممن هذه صفتهم، ورأينا السنين تمر عليهم وهم على حالهم، إن لم يزدادوا سوءا. وبدء الكاتب لهذا الفصل بهذه الضلالة، يجعلنا نتخوف مما سينجر عنها من بناتها. فإنا لله وإنا إليه راجعون... [إنها طريق الولاية والسبق لدرجات القرب من الله عز وجل. وتتحقق الولاية للعبد.]: هذا الاستنتاج باطل؛ لأن الولي يزهد في الدنيا وهو بعدُ في بداية سلوكه، وقبل أن تتحقق ولايته. وأما من يبدأ بهذا الخلط، فمآله في الغالب إلى الفسق والفجور. ومن يتأمل حال علماء الدين من المتأخرين، على علمهم بالأحكام في أنفسهم، ويرَ أنهم لا يختلفون عن كبار الفساق من أهل زمانهم، عليه أن يعلم أنّ ذلك ما أصابهم إلا من آفة إرادة الدنيا؛ عندما ظنوا أن العلم (النظري) وحده يكفيهم في بلوغ ثمار الدين. وإن كان هذا حال العلماء، فما الظن بالجاهلين من العامة، أو من منحرفي المتصوفة. وأما الحركيون من الإسلاميين، فإننا سنرى -وسيتأكد هذا مع تقدمنا في الكتاب- أنهم أشد طلبا للدنيا من غيرهم؛ ولا يفوقهم في ذلك إلا الكفار الذين لا دار لهم إلا هي. [ويُحْرِزُ على السبق والقُربى حين تكلل جهوده في طاعة مولاه وحبه والوفاء له والسير إليه بحب المولى عبده ذلك الحب الخاص الذي تَشرئب إليه أعناق الرجال.]: هذا كله كذب، لأن مريد الدنيا لا يُعتبر عند الله. وقد قيل إن الله لم ينظر إلى الدنيا منذ خلقها؛ لا لأنها تخلو من الحق أو لأنها فاقدة لتجليات الصفات الإلهية، ولكن لأنها لا تستحق أن يتوجه العباد إليها لذاتها. وأما التوجه إلى الله فلا يحتاج العباد فيه إلى تكلف، لأنه فطري ومطابق للحقيقة. وبدل دلالة الكاتب على ما يجعل العبد يَعلق منذ أول قدم، فقد كان يجدر به الدلالة على الحق، ليتعلق القلب به من البداية ويقوى بذلك على الانطلاق في سلوكه. والسلوك يتطلب قوة باطنية استثنائية، بالنظر إلى حال عموم الناس. ومن لم يعمل على تقوية باطن أتباعه من الشيوخ والمربين، فإنه يكون لهم خائنا عند الله. والقلوب لا تتقوى بالابتداع، وإعادة صياغة معالم الطريق، ولكن بتأكيدها وبترسيخ الأصول التي لا انفكاك عنها. وإن المدد النبوي ضروري في تقوية القلوب وجعلها تُقبل على السلوك، ومن لا مدد له من المربين فإنه يخون أتباعه إن لم يُخبرهم بحقيقة أمره. ولقد وجدنا كثيرا من جهلة التلاميذ، يظنون أن الشأن في تلاوة الأذكار؛ من دون أن يكون لهم تمييز، بين أذكار الأجور وأذكار النور. وهذا من أكبر موانع السلوك لدى المتأخرين!... [روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذَنته بالحرب. وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه. وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه. وما ترددت عن شيء أنا فاعِلُه تردُّدي عن نفس المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مَساءَتَه".]: هذا الحديث يجمع بين الكلام في الولاية العامة والولاية الخاصة: ولاية الفرض وولاية النفل؛ إن حصرنا الأمر بين المؤمنين وحدهم. ذلك لأن معنى ولاية الفرض، يتوسع حتى يشمل كل العباد. ولهذا المعنى شواهد من القرآن، لا يطيق العامة من أصحاب العقائد القفصية أن يسمعوها. ولولا تحري الأمانة العلمية، ما دللنا نحن على أصله هنا. وقد قيل: إن في الولاية الأولى، يكون العبد سمع الله وبصره؛ وفي الثانية يكون الله سمع العبد وبصره. ومن ميّز بين الأمرين، فقد وضع رجله على الطريق. وهذه معان لا يخوض فيها إلا أهل التحقق الذين يعرفون الله في كل المظاهر. وسنرى هل للكاتب قدم في هذه العلوم أم لا... ولكن للحديث نتائج عملية، يهملها جل المسلمين، نُجملها فيما يأتي: 1. إن للحديث مصاديق من كل زمن، بحيث نجد دائما من هم من أهل الولاية العامة الذين هم عوام المؤمنين، ونجد خواص الأولياء الذين هم الربانيون الذين صاروا مظاهر للحق بعد أن فنوا عن أنفسهم. 2. يُفهم من الحديث، أن كل من أراد الترقي من مرتبة الولاية العامة إلى مرتبة الولاية الخاصة، عليه أن يبحث عن عبد رباني يعامل الله في مظهره ويتبع توجيهاته؛ فلا شك أن من كان الله سمعه وبصره، فهو أيضا قلبه ولسانه وجميع قواه. ومن هنا يكون الرباني ناطقا بعلم الله، ومُريدا بإرادة الله، وقادرا بقدرته سبحانه؛ إلى غير ذلك من الصفات... وأمة يكون فيها هذا الصنف من الناس، لن تخيب أبدا، إن هي لجأت إليهم واتبعت توجيههم. وأما إن هي اختارت غير ذلك، فإنها لن تلوم إلا نفسها عندئذ. 3. إن إهمال العمل بمقتضى حديث الولاية، لا يدل إلا على توان في طلب الحق، إن لم يكن تكذيبا بالوحي وإعراضا عنه. والحديث لا شك متعاضد في المعنى مع آية الولاية التي يقول الله تعالى فيها: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 62 - 64]. فكون الأولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، هو معنى من معاني العصمة، عند خروجهم عن احتمال لحوق سوء العاقبة بهم. وهذا الصنف من العصمة، هو بسبب البشارة التي حصلت لهم في الدنيا قبل الآخرة؛ وليست هذه البشارة إلا انقلاب حقيقتهم عند تحققهم بالحق. فالتحقق الذي نتكلم عنه كثيرا، ليس إلا كون الحق (الله) جميع قواهم ومتولي صغير أمورهم قبل كبيرها. فهم يتحققون في ذواتهم به، وفي صفاتهم وفي أفعالهم. ومن لم يعلم التحقق على هذا الوجه، فما علمه. 4. إن الإمامة في الدين بمعناه الجامع، لا تكون للفقهاء ولا لعوام الصوفية؛ وإنما تكون لهذه الطبقة العليا من الأولياء. وإن الأمة بتفريطها في العمل بهذا الأصل، قد انحرفت عن الصراط المستقيم في جل أزمنتها. فلا عجب من خروجها بعد ذلك إلى الفسق العملي، وإلى صنوف الغفلة التي توالت عليها جيلا بعد جيل. [هذا الحديث القدسي العظيم سندٌ قَوي لزيادة بيان ما أثبته القرآن وأثبتته السنة من أن الله جلت عظمته يحب من عباده خاصَّةً يُفْرِدُهم عن الناس هم أولياء الله.]: بمقتضى هذا الفهم للحديث، كان ينبغي على الأمة جمعاء -وفي مقدمها علماؤها- أن تبحث عن هذا الصنف من الناس، لأن الله ما دل عليهم إلا لأنهم وحدهم من يصلحون لإمامة الناس، كما ذكرنا في الفقرة السابقة. ولكن الملاحظ أمران: الأول، تغييب الحديث من قبل الفقهاء والوعاظ، حتى لا يكاد يُذكر في المساجد التي صارت هي قلاعهم ومراكز نفوذهم؛ والثاني، هو حصر إمامة الدين في الفقهاء المحجوبين الذين لا سمع لهم ولا بصر بالمعنى القرآني. وهذا كله عمل بعكس ما جاء به الوحي؛ وهو يجعل الأمة في عمومها على صفة من قال الله تعالى فيهم: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]. ولهذه الحال نتائج حتمية، هي ما نراه من السوء العام، ومن ضعف الإيمان الشديد العام أيضا، ومن تولي السفهاء قيادة الأمة وفيها من هم أفضل منهم. [وحول هذا الحديث نَشِبَتْ بين طوائف العلماء خلافات وتأويلات. أفرده بعضهم بالتأليف لمزيد العناية به، كما فعل الشوكاني في كتاب "قطر الولي في حديث الولي"، وأنكره بعضهم مع ثبوته في أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى لَمّا ضاقت حُوَيْصِلَتُه عن قبول المعاني الجليلة التي يتضمّنها، كما فعل الذهبي حين زعم أنه: "حديث غريب جدا، ولولا هيبة الجامع الصحيح لعددته من منكرات خالد بن مخلد". وخالد بن مخلد راو من رجال إسناد الحديث، تجاوز القنطرة بتَزكية البخاري له، ويريد الذهبي غفر الله له أن يرده على أعقابه.]: يريد الكاتب من التيميين أن يقبلوا حديث الولاية الخاصة، وهم أبعد الناس عنها. وكيف يقرون بولاية يفقدونها ويجهلون معناها، وهم من يرون -مع ذلك- أنفسهم قمم العلم التي لا تُدرك؟!... وليلاحظ المرء أن الواحد منهم لا يتهيّب الطعن في الرجال، وفي المصادر، لا لشيء، إلا لأنها تخالف هواه وتجاوز معلومه!... وأما ضيق الحويصلة، فهو من صفات الكاتب أيضا؛ لأنه ترك كلام الأولياء في الولاية، وتوجه إلى العوام من التيميين يستفتيهم. وهذا يعني أنه لا يُطيق أن يسمع كلام المتخصصين، وهو ما يعني أنه من العوام أيضا. وأما ما يُقال في هذه المسألة من تلفيقات فكرية، فهو لا يُعدّ علما البتة؛ وإنما هو مسكنات فكرية يتناولها "ضيقو الحويصلة" وضعفاء الإيمان. [حديث جليل عظيم تفسر بعض معانيه فصول هذا الكتاب. نقف هنا على كون حب الله عبدَه ذلك الحب الخاص هو مطلب كل متقرب إلى الله، محب لله، مطيع لله، طامع في الله، مريد لله، فائز بالله.]: تفسير الحديث، لا ينفع فيه الإطناب والحشو؛ فإما أن يكون العبد عالما بمعانيه، فيعبر عنها بما يُفهِم عنه؛ وإما أن يسكت مع الساكتين، حتى لا يكون خائضا فيما لا يعلم. [وحب الله الخالق المنعم مغروزٌ في الفِطَرِ الكريمةِ الـمَعْدِنِ، تَطْمِرُه الطّوامر وتُبرزه من مكامنه صحبة من "ينهض بك حاله، ويدلك على الله مقاله". لا ينكر حب العبد لربه واستجابة المولى الودود بحبٍّ أكبر إلا جاحد مُعاند، أو مُعطل فاسد. "فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالله هو المستحق له على الكمال. وكل ما في غيره من محبوب فهو منه سبحانه وتعالى. فهو المستحق لأن يُحب على الحقيقة والكمال. وإنكار محبة العبد لربه هو في الحقيقة إنكار لكونه إلها معبودا. كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته، وهو يستلزم إنكار كونه ربا خالقا. فصار إنكارها مستلزما لإنكار كونه رب العالمين، ولكونه إله العالمين. وهذا هو قول أهل التَّعطيل والجمود".]: النقل الذي أورده الكاتب في آخر الفقرة، هو عن ابن تيمية، ومن هنا نعلم من أين يأتي الكاتب بشواهده، ونعلم في أي اتجاه يسير. ومتى كان لابن تيمية خبر عن محبة الله حتى يصفها؟!... إنما هو عبد ضال، لا يُعتد بكل كلامه، ويُجتنب التأسي به، إن كان المرء يحرص على فلاح نفسه ونجاتها. ولكن الكاتب يتتبع الألفاظ عند عدم ظفره بالمعاني. وهذا أمر يقع فيه من لا نور له كما أخبرنا مرارا... يبغي الكاتب بكلامه الرد -من دون إفصاح- على قوم أنكروا المحبة بين الرب والعبد، لأن ذلك في نظرهم يقتضي التجانس؛ وهو محال في حق الله. وهؤلاء من أقل الناس أهلية للخوض في مثل هذه المسائل، وكلامهم بدعة من جملة البدع الطارئة على الأمة، والتي تركت آثارا سيئة جدا على مر التاريخ. ونعني من هذا، أن أصحاب العقل المعاشي من عوام المؤمنين، كان ينبغي أن يُمنعوا من إبداء رأيهم فيما هو فوق إدراكهم، لو أن حكم الحكام كان على النهج العمري يسير؛ ولكنه التفريط العام، الذي فتح أبواب الفتن على مصراعيها. فلا يُحجم محجم عن ولوجها، إلا إن رُزق ورعا صادقا يحجزه عن اقتحام الموبقات. وأما السفهاء الذين لا رادع لهم من عقولهم، فإنهم قد فاهوا بالعجب العجاب، واستطابوا الرعي بدل النحل مع الذباب. [قال هذا شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أورد حديث الولاية في بداية كتابه "الفرقان بين أولياء ال رحمن وأولياء الشيطان"، ولم يتوقف فيه كما توقف الذهبي، بل بنى عليه واهْتَبَل به. والعجب لرجل من أهل الحديث مذهبُه إثبات الصفات وإمضاؤها كما جاءت، يتحول مُعطلا لِمَا يسمع من جلال ولاية الله لعبده المحبوب حتى لَيَكون سمعَه وبصرَه ويدَه ورجلَه! عجب! ثم عجب! ثم عجب لمن يحارب المؤوِّلين في الصفات عُمْرَه، ويذهب هو يؤول ويعطِّل في مثل هذا الخبر العظيم الذي بلَّغه من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. والحمد لله أن هنالك هيبة الجامع الصحيح تحول دون المحرفين ودون طمس معالم الطريق.]: لا عجب من كل ما ذُكر؛ لأن الناس يأخذون النصوص على قدر عقولهم. ومن منهم يعقل معنى الولاية حتى يتتبعها في ألفاظ الحديث المذكور!... وإننا نعلم أن جل المسلمين يُنشَّأون على التنزيه شبه المطلق، بسبب اقتصار الإدراك منهم على ما تعطيه عقولهم؛ ومن يكون على التنزيه العقلي، كيف سيعلم معنى كون الله سمع العبد وبصره؟!... وأقصى ما يُطلب من عوام العلماء، هو أن لا يُنكروا الحديث وقد ورد في الصحيح؛ وأن لا يخوضوا في معانيه، لأنها من وراء ما يعقلون؛ وأن يبقوا بعد ذلك على التسليم، المبقي على أبواب إدراكهم مفتوحة، إن ورد من الله ما يزيح الإبهام. وأما الحق الذي كان على كل عاقل التزامه، فهو طلب معنى الحديث من أهل الولاية الخاصة، إن كان الطالب يستحق نيل جوابهم. هذا وحده، ما يليق بأهل الإيمان!... وأما ابن تيمية، فهو يختلف عن كل من ذكرنا، بسبب كونه على وحي شيطاني. ولقد ذكرنا في الفصل السابق أن هذا الصنف من الناس يجد ما يشبه ما يجده أهل الله، إلا أنه يصب في بعده لا في قربه. وهو بهذا الوحي، له فهم خاص في كل النصوص، يظنه من الله وهو من الشيطان؛ ويظن أن له به امتيازا على العلماء، وهو في الحقيقة على طريق غير طريقهم. والمقارنة التي أوردها الكاتب بين ابن تيمية والذهبي، تدل على أن الذهبي مأموم في الضلال لا إمام كابن تيمية؛ وصاحبنا لا يشعر بهذا الفرق، ويرى بذلك المزية لابن تيمية. وهذا لا يدل إلا على سطحيته وقصور فهمه. وحتى نوضح مجانبة ابن تيمية للصواب في فهم "حديث الولاية"، سنأتي بكلامه من كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، ونرد عليه بما يرفع اللبس لدى الناظرين المنصفين. يقول ابن تيمية: [فالأبرار أصحاب اليمين هم المتقربون إليه بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكف عن فضول المباحات.]: يفهم ابن تيمية ألفاظ الحديث على ما تعطيه في مجال الفقه، وهذا لا يصح؛ لأن معنى الفرض والنفل في الحديث متعلق بالحقيقة والوجود، لا بالأعمال التكليفية. وهذا يعلمه من له مراعاة للمراتب، لا الألفاظ وحدها. فالفرض، هو الأصل؛ وهو مسمى الحق عند أهل الحق. وأما النفل، فهو الإمكان من كونه فرعا عن الوجوب؛ وهو مسمى الظل بالاصطلاح القرآني. وعلى هذا، فإن هذه المرتبة هي مرتبة الخلق. والمعرفة التي يكون عليها المحجوبون من المؤمنين والناس أجمعون من غير الأولياء، هي للحق لا لهم؛ لذلك يكونون أجهل الناس بالحق. وأما ما دل عليه ابن تيمية في كلامه، فهو خارج دلالة الحديث؛ وهو مناسب لمرتبته العامة التي لا يختلف فيها عن كل المحجوبين من أهل الإسلام. ثم يقول: [وأما السابقون المقربون فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات، والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم أحبهم الرب حبا تاما، كما قال تعالى: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه»، يعني الحب المطلق كقوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} أي أنعم عليهم الإنعام المطلق التام المذكور في قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}. فهؤلاء المقربون صارت المباحات في حقهم طاعات يتقربون بها إلى الله عز وجل، فكانت أعمالهم كلها عبادات لله، فشربوا صرفا، كما عملوا له صرفا.]: هذا الكلام أيضا ينطلق فيه ابن تيمية من الفقه الذي لا يُدرك من علوم الدين غيره. ويجعل المقربين المحبوبين على ما دل حديث الولاية هم من يأتون بنوافل الأعمال، لأنه لا يعلم نافلة غيرها؛ ولكنه يغفل عن كون هؤلاء المقربين بحسبه، لا يتحققون بالمعنى الذي رتبه الحديث على إتيان النوافل: فهم لا يسمعون بالله ولا يبصرون به... وإذا غابت النتيجة، اتضح أن الوسيلة ينبغي أن يُعاد فيها النظر؛ ولكن ابن تيمية يبني على وهمه، ويمضي من دون تحقق من النتائج. وهذا العمل يُخرجه عن صنف العقلاء بالمعنى العملي. وبما أنه يجهل ما يخوض فيه، فقد ترك الأمر معلقا من غير أن يربطه بشاهد أو ببرهان. ولو أنه سكت لكان خيرا له. وأما معنى التقرب بالنوافل، بالمعنى الذي يعلمه الأولياء، فهو فناء العبد في مراتب ذاته وصفاته وأفعاله؛ وكأن العبد يُعطي نفسه لله تقربا، بل هو ذاك. وهذا لا يكون إلا للواصلين. وهذا يعني أن الواصلين هم أهل النوافل المذكورون في الحديث، وهم وحدهم من يعلمون معنى أن يكون الله سمع العبد وبصره ويده ورجله. ويشهد لصدقهم في فهمهم وُجدانهم لما ذُكر على ما ذُكر، من غير تصور عقلي كما فعل ابن تيمية ويفعل غيره من المتطفلين. وإيراد الكاتب لكلام ابن تيمية السقيم، يدل على أنه لا علم له بمعنى الحديث كما هو في نفسه؛ ويدل على أنه ليس من الأولياء حتما. ويقول ابن تيمية: [والمقتصدون كان في أعمالهم ما فعلوه لنفوسهم، فلا يعاقبون عليه، ولا يثابون عليه، فلم يشربوا صرفا، بل مزج لهم من شراب المقربين بحسب ما مزجوه في الدنيا.]: ابن تيمية انحرف عن ألفاظ الحديث، بسبب انحرافه عن إدراك المعاني كما هي منه. فهو لكونه فسر الحديث تفسيرا فقهيا، فقد جعله عاميا وهو خاص. وعند أخذه الفرض والنفل بالمعنى الفقهي، اضطر إلى الكلام عن المقتصدين، مع أن الحديث لم يذكرهم. وهذا خروج منه عن لفظ الحديث، زيادة عن خروجه عن معناه سابقا. ولو أنه كان عالما بما نقول، لعلم أن الحديث يتناول أحوال الأولياء من جهة، وأحوال غير الأولياء من الجهة المقابلة؛ عند اعتبار مفهوم الحديث (المكمل). ولا وجود لفئة وسط بين الصنفين، كما يفهم هو من المعاني الفقهية. وحتى الآية التي يأخذ منها ألفاظ تفسيره للحديث، والتي هي قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32]، لا تحمل على المعنى الفقهي وحده؛ ولقد تكلمنا في معانيها في موضع سابق من هذا الكتاب، فلتُنظر هناك. فاتضح من كل هذا، أن ابن تيمية لم يمس معاني حديث الولاية، وما ينبغي له. وكل من يأخذ عنه تفسيره لهذا الحديث أو لغيره، فإنه يسير في طريق منحرف، لا ينتهي إلا إلى غضب الله ومقته. ونحن ننصح كل المغترين بعبارات ابن تيمية، أن يتوبوا إلى الله؛ وأن يعودوا إلى الإسلام الميسر الواضح، قبل أن يأتيهم الموت فيصبحوا على ما فعلوا نادمين. [حب العبد ربَّه وحب الرب عبدَه هو قطب رحى الدين.]: يتكلم الكاتب عن حب الله للعبد وعن حب العبد لله، وهو لا يعلم حقيقة ما يتكلم فيه. ولقد جهل جل الناس هذا الأمر، ويظنون أن ما يجدونه من أنفسهم عند انجذابهم إلى محبوباتهم، هو ذاته الحب الذي يكون بين الله وعبده المصطفى؛ وهذا قياس مع الفارق لا يُقبل. وعندما أذاقنا الله هذا الحب، كنا لا نستطيع أن نعبر عنه لقوته. ولم نكن نجد وقتها ما يصف ما بنا، إلا ديوان ابن الفارض رضي الله عنه، الملقب عن جدارة واستحقاق بـ "سلطان العاشقين". وعلمنا وقتها أن جل الناس في العالم كله، لا خبر لهم عن الحب، على كثرة ما يتكلمون عنه؛ وهذا من أعجب العجب. وكنا نقول حينها لمن يخالطنا: "لو مُكّنّا من تدريس مادة الحب في إحدى الجامعات العالمية، لسمع الناس منا العجب!". هذا مع العلم أن التدريس سيُعطي صورة خارجية للحب، مخالفة عن وجدانه، لا تكون إلا تقريبية. وعلى كل حال، فإن علم الحب ضمن العلوم الدينية، لم نجد من اعتنى به إلا من جمع الله له الولاية بأطرافها، وهو الشيخ الأكبر قُدّس سره. وهو القائل صادقا عنه: "لسان المحبة أعجمي!". وأما غيره من الأولياء -وإن كانوا على علم بما ذكرنا- إلا أنهم بالمقارنة إليه تابعون. وهذا العلم فوق كل العلوم، كما هي المحبة فوق كل الأحوال. ومن علم شيئا منه، فإنه سيعلم الوجه الخفي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ والذي لا يكاد يشعر به المؤمنون وعامة العلماء. ولولا أن الكلام في هذا الوجه محرم، لأتينا منه بنُبذ تندك لها شوامخ العقول. [وكلما كان العبد أشد إيمانا كان أشد حبا لله.]: ربط الكاتب الحب بالإيمان، وإن ورد به القرآن، فإنه لا يدل إلا على ما يعلمه العوام منه؛ لا على ما هو من شؤون الأولياء. نصرّ على هذا التفريق، لأن الكاتب يوهم بأنه عالم بالولاية، ويوهم بأنه يدل بكتابه هذا على مرتبة الإحسان. ولا ولاية في الحقيقة ولا إحسان!... [قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ﴾.]: يأتي قول الله هذا، بعد قوله سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]؛ فهو حب في مقابل حب الأنداد المتوهمة؛ وهذا هو ما يجعله من أحوال العامة. وأما حب الخواص فهو الحب اللائق بالله، حيث لا غير ولا سوى؛ ونعني أنه حب لا مقابل له. ومن هذا الوجه يمكن أن يقول القائل، ما أحب محب من العالم إلا الله، سواء أعلم ذلك أم لم يعلم. [هذه المحبة بين العبد وربه، منك إليه ومنه إليك، هي: "عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها، ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها (...). ولهذا كانت أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه، وأهل غضبه ونقمته فهذه المسألة هي قطب رحى الدين الذي عليه مدارُه. وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق. وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله. ولا حول ولا قوة إلا بالله".]: إيراد الكاتب لكلام ابن القيّم يدل على أنه مقلد له من جهة، ويدل على أنه من مرتبته أو أقل منها؛ لأن كلامه يوافق مُدركَه في نفسه. ومن تقليد الكاتب لابن القيم، نجده يختار عناوين أجزاء كتابه وفصوله من كلامه: كـ "ابك على نفسك" من الفصل السابق، و"حب الله قطب رحى الدين" هنا. وإن كان ابن القيم لا يُدرك من المحبة إلا ما يكون عليه العامة من المؤمنين، فأين يريد الكاتب الوصول بنا وهو المقيّد في نفسه!... وهذه المرتبة لا تبلغ بصاحبها إدراك ما كان عليه قيس بن الملوح وجميل بن معمر، من الحب الطبيعي؛ فكيف يطمع بعدها في الظفر بالحب الإلهي الساري في العالم!... إن من ذاق رشفة من الحب الإلهي، يصير بها محبا لأعدائه قبل أحبابه. ومن هذا الباب كان قول عيسى عليه السلام: "أحبوا أعداءكم!". وهو ليس أمرا تكليفيا، كما قد يبدو؛ وإنما هو حض على الترقي في الحب إلى أن يبلغ المرء تلك المرتبة. هذا هو الفهم الصحيح، ما دام الناس لن يتمكنوا من حب غيرهم بالأمر. وأين ابن تيمية وتلاميذه من هذه الذرى، وهم من لا يفقهون إلا المعنى التكليفي!... وأين الثرى من الثريا!... ويشهد لسوء حال ابن تيمية، تكفيره للمؤمنين مع كونهم على الإيمان؛ فكيف يتمكن من محبة أعدائه من الكافرين!... وما نذكره هنا، ليس مما نهى الله عنه في مثل قوله سبحانه: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]، أو في قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]؛ لأن كل هذا متعلق بأعمال الظاهر، وما ندل عليه نحن محله الباطن. وما لا يعلمه عوام المؤمنين عند معاملة الكافرين في القتال -مثلا- هو أن ذلك أصله حكم محبتهم الداعية إلى إرادة الخير لهم حتى بمخالفة إرادتهم هم مع جهلهم بمصالح أنفسهم. ولقد طغى الحكم الفقهي الظاهر على ما ينبغي أن يكون عليه الباطن، فخسر المسلمون بهذا الميل كثيرا من الخير. ولو كان الناس على استعداد لسماع أكثر مما ذُكر لأسمعناهم، ولعلموا حينها أن المحبة غالبة على كل الشؤون، وسابقة على كل الأحكام. وأما كلام ابن القيم المحذوف، فهو يربط فيه بين المحبة ومعنى لا إله إلا الله. ورغم أن ما يشير إليه ابن القيم لا يُجاوز طور العوام، إلا أن الكاتب بحذفه، قد صيّر المعنى مبهما. وهذا لا يليق. [والمؤمنون في حبهم لله مراتب، فالعامة يحبونه لما يغذوهم به من نعم ومِنَن، وخاصة أهل الله يحبونه عبودية وإخلاصا وشوقا. وكل هذه العواطف فروع لشجرة المحبة المغروزة في الفطرة الإنسانية، تبْرز من داني الفطرة وقاصيها إلى الوجود، فيقذف الله بها، وهي حق، على كل باطل مشكِّك مُعطِّل، فيدمغه فإذا هو زاهق.]: هذا التقسيم غير علمي، لذلك لجأ الكاتب في إثباته إلى الإطناب وتنميق العبارة على عادته. والمعاني التي أراد الكاتب عرضها هنا جاء بها من الحديث النبوي: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللَّهِ، وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي.»[3]. ولقد خفي عنه أن هذا المعنى التكليفي من الحب، ليس هو حب الخواص من الأولياء. والفرق بينهما هو أن حب الخواص ليس من هذا الصنف، وإنما هو من شهود الجمال ومن الانفعال الجبلّي له. وحتى يعلم القارئ الفرق، فليتنبه إلى أن الحديث يدل على ما يُحَب الله لأجله لدى العوام، وهو النعم والإحسان؛ وهذا حب العبيد والسوقة، وأما الخواص فيحبون الله لأنه أهل لأن يُحَب. ثم إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤسس لحبه هو بحب الله؛ ليكون فرعا عند السامع منه. ويجعل حب أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم فرعا عن حبه؛ كل هذا لينتفع العبد ويجد معينا يعينه على التوجه إلى الحق. لكن هذا كله من مقام العوام لا الخواص. والخواص إنما يحبون الله لذاته، ويحبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونه مظهرا للحق، ويحبون العترة الطاهرة لكونها مرايا لذلك المظهر الكلي. فهم يشهدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عترته، ويشهدون الله في نبيه. فيحبون محبوبا واحدا من مراتب مختلفة، فيتنوع لهم الحب بتنوع المظاهر وهو واحد. ولقد كان حريا بالكاتب، وهو من رام الكلام عن الإحسان، أن يتكلم عن المشاهدة التي هي مناط المحبة، لو كان من أهلها؛ لا أن يعود بنا الأدراج إلى ما يكون عليه عوام المسلمين. ["أما بعد، فإن الله سبحانه غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده في قلوب من اختارهم لربوبيته، واختصّهم بنعمته، وفضّلهم على سائر خليقته. فهي شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء توتي أكلها كل حين بإذن ربها". ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم.]: كلام ابن القيم المنقول عامي، لا يفيد شيئا من العلم. ولقد كان يجدر بالكاتب، عند إرادته الكلام عن الحب أن يأتي بأقوال المحبين، لا بأقوال الفقهاء. فمال الفقهاء وللحب، حتى يستخبرهم عنه؟!... [رابطة الحب بين العبد وربه مغناطيس يجذب، ويُقَرِّب، ويُبَلِّغ المقامات العليا. قال سلطان العلماء: "إن المحبوب أبدا يسلُب بلطافةِ خاصِّيةِ محبته، ويجذب أجزاءها إليه بقوة سلطانه عليه. كما أن المغناطيس تعلقت به أجزاءُ الحديد، وانجذب إليه بذاته، فهو يدور معه حيث دار، وينجذب إليه حيثما سار. فمِن أوصاف الحب الميلُ الدَّائم، بالقلب الهائم، ومخالفة اللائم. إن من أراد كشف هذا السر الخفيّ، والكشف الجليّ، فليتدبر قوله عليه السلام مخبرا عن ربه عز وجل: "لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا وفؤادا".]: سلطان العلماء هنا مرة أخرى، ليس العز بن عبد السلام، ولكنه عز الدين عبد السلام المقدسي؛ وكلامه منقول من كتابه "حل الرموز ومفاتيح الكنوز"؛ وهو عام يناسب العوام. وأما لو أراد الكاتب تبيّن حقيقة الحب، فإنه كان عليه أن يأتي بكلام المحبين؛ ولكن يبدو أن له موقفا منهم، ولا يطيق معانيهم. وأما حديث الولاية الذي اختُتمت به الفقرة المنقولة، فإنه لا يعلم حقيقته علماء الدين المعروفون، وإن بالغوا في التعظيم؛ لأنه خاص بأهل الولاية الخاصة، كما سبق أن بيّنّا. وهم وحدهم من يعلمون دلالاته، وإن كانوا لا يفشونها لغير طبقتهم. [قال: "فهمنا من ذلك أن علاقة وصلة المحبة لما اتصلت بها لطافة وصْلة المحبوبية، واستمسك بعروة حتى أحبه، قَوي سلطان المحبوبية على سلطان المحبة فأفناه عن ذاته، ونَفاه عن صفاته، ثم أقام ببقائه عن فنائه، وخيم بصفاته عن فنائه. تبدلت الصفات بالصفات، وقام الوجود بالوجود، فجاءت خِلَعُ الجود على يد: "فَبي يسمع وبي يبصر".]: يقصد: "وخيم بصفاته في فِنائه"، وهو خطأ في النقل. والكلام المنقول هو دائما لعز الدين المقدسي، وهو ليس دقيقا؛ بل إنه قد يصبح من المطاعن على أهل التصوف، إن أُخذ على ظاهره، ومن غير تفصيل. وذلك لأن عبارة "وقام الوجود بالوجود" هي دالة على معنى الحلول الذميم، الذي إن اعتقده العبد كفر. ورغم تنميقات القائل لعباراته، فإنه قد أفصح عن جهله من غير أن يشعر. وهذا شائع فيمن ليس من أهل الله المأذون لهم في العبارة. والأصح هو أن يقول إن الله بتجليه على عبده، أفناه في جميع مراتبه: فأفنى ذاته بذاته؛ وهذا من معاني إتيان الحق وزهوق الباطل؛ وأفنى صفاته بصفاته وأفعاله بشهود أفعاله. غير أن القول بفناء الذات بالذات، فيه نظر؛ فلا يؤخذ إلا من جهة العلم وحدها، لا من جهة الوجود. والسبب هو أن ذات الله محيطة، وأن ذات العبد لا وجود لها إلا في العلم وحده. وهي إن خرجت إلى التعيّن، تبقى تابعة للعلم، كما هي سائر التعيّنات. وهذا التفريق نافع جدا، لمن أراد ان يكون من أهل التوحيد الحق. فلما فني العبد فناء تاما، بقي منه الله في جميع مراتبه. ولذلك كان سمعه وبصره...وهذا المعنى هو ما يدل عليه قول الله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]؛ وهذا في كل مظهر مظهر. ونعني أن الله كان عوضا لعبده عن نفسه، فضلا وكرامة، عندما فقد العبد نفسه. كل هذا من جهة العلم لا من جهة الحقيقة. ونعني أيضا هنا، أن من تتبع الألفاظ ليأخذ منها المعاني، فإنه سيضل ضلالا مبينا؛ وإنما الأمر عائد لإذن الله لعبده في الاطلاع على هذه العلوم، منه إليه. وهذا من عجيب ما يقع لأصحاب الطريق. وما نذكره هنا، لا خبر لأحد من علماء الرسوم عنه؛ وإن أُخبر به فإنه لا يفهمه أو ربما قد يُنكره. كل هذا بسبب العزة!... [نؤجل الحديث عن علوم الأولياء وأذواقهم ومعارفهم مثل الفناء والبقاء والوجود بالوجود إلى سائر ما يعبر به كل معبر. ما يبلغ متكلم بلاغة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمانته ودقته وصدقه. غاية اسْتِفادتنا من كلامهم رضي الله عنهم أن نستمع عسى تَبلُغُ نبرة من نبرات صدقهم مَغَابِنَ فطرتنا. قال الشيخ أحمد الرفاعي: "أيْ بُنَيَّ! اعلم أن حبيب القلوب سبحانه إذا أحب عبدا أطْلع سره على جلال قدرته، وحرك قلبه بمراوح ذكر مِنّته، وسقاه شَربةً من كأس محبته، حتى يُسكره به عن غيره. وجعله من أهل أنسه وقربه وصحبته، حتى لا يصبر عن ذكر ربه. ولا يختار أحدا عليه، ولا يُشغل بشيء دون أمره."]: كلام الكاتب في بداية الفقرة، يدل على جهله؛ لأنه يقارن بين عبارات أهل الله والعبارات النبوية، وكأن الأولياء يأخذون علومهم عن غيره صلى الله عليه وآله وسلم. وهو عندما لم يجد بعض مصطلحات القوم في الأحاديث، صار يجعلها كأنها تعابير تخص أصحابها ولا تمت إلى العلم بصلة. والحقيقة هي أن عباراتهم إما موجودة في القرآن بالمعنى واللفظ (كالفناء والبقاء)، وإما بالمعنى إن هم أرادوا تقريب المعاني القرآنية إلى الناس بألفاظ من عندهم. وكذلك الشأن مع الأحاديث النبوية، التي هي معجزة في بنائها، وتحتاج في كثير الأحيان إلى تبسيط. بل إن بساطة عبارتها أحيانا تكون هي الحاجبة عن إدراك معانيها. والأمر في كل ذلك لله، إن أراد أن يفتح لعباده بابا إلى باطن الألفاظ فتح، وإلا فلا. وأما كلام الرفاعي رضي الله عنه، فهو كلام ذائق خبير، يعلم ما يقول ويعلم ما يدل عليه سامعَه. ومع ذلك، فإن الرفاعي كان من أشد الأولياء حرصا على أن لا يصدم العقول بالألفاظ غير المألوفة والتعابير المستحدثة؛ وكأن زمانه كان زمان إنكار، فلم يرد أن يتسبب للناس في ارتكاب الآثام، إن هم ردوا عليه علمه. وهذا ليس بغريب عليه -رضي الله عنه- وهو من عُرف بالشفقة على غير المسلمين وعلى الحيوانات. [سُقي القوم من قبلنا رضي الله عنهم شراب المحبة بكاسات دهاقٍ في خلوات المجاهدة والرياضة والتفرغ الدائم لذكر الله. ومطلب المجاهدين المشتاقين إلى ربهم في مستقبل القومة لله، والتحزب لله، وإقامة الخلافة على منهاج رسول الله، ينبغي أن يكون عند مقام من وصفهم الله عز وجل في كتابه العزيز حيث قال: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.]: إن مقابلة الكاتب بين أهل الله، وما تعطي الآية من معنى، جهل محض؛ لأنه لو علم لوجد من يبغي الحط من قدرهم، تنطبق عليهم الآية انطباقا تاما في صدرها وعند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة: 54]. وكيف لا وهي ما نزلت إلا فيهم!... وأما الأولياء فهم البدلاء، وهم من أحبهم الله وأظهر محبته لهم بين عباده؛ حتى صاروا يُعرفون بها في كل الأعصار!... ولو علم الكاتب حقا، لوجد نفسه أولى بالشك في نفسه منهم، من كونه ليس على مثل درجتهم، ولا جاهد كجهادهم. وأما إن كان يظن أنه قد فاق الرفاعي وأقرانه في ذلك، لأنهم لم يقوموا للسلطان كما قام، فإنه يكون أعمى البصيرة، يُخاف على إيمانه. فالرفاعي ومن على شاكلته، إن كان الناس يموتون ميتة واحدة، قد ماتوا عدة ميتات؛ ولو خُيّروا لعادوا إلى ذلك دائما وأبدا من شدة حبهم لله. وكيف لا وهم خلصاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، المخبر عن نفسه في قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ.»[4]. وكيف يكون كلام الكاتب في هذا الجزء عن المحبة، وهو لا يعلم شهداءها، الذين كان ينبغي أن يتخذهم أئمة يستهدي بهم. وكيف يكون ميت السيف الحديد مساويا لميت الحب؛ إلا أن يجمع بين الأمرين!... أين من يعقل!... [هنيئا لأحباب الله أولياء الله رحيقَ المحبة سُقوه قروناً طويلة في ظلال الخلوات، وأهنأُ منه ما سُقِيَه الصحابة تحت ظلال السيوف، وما يوعد به "الإخوان" بعد الصحابة تحت ظلال البنادق وأزيز الصواريخ وعجيج دواليب الدولة الإسلامية، تعمر الأرض، وتنشر لواء العزة بالله، وتبلغ للعالمين رسالة الله.]: ما أشد سماجة هذا الكلام الذي لا يفضح إلا صاحبه، عند إخباره أنه لا خبر له عن حال أهل الله، وعند مقارنة نفسه بالصحابة المرضيين وهو لا يعلم منهم إلا ظاهر ظاهرهم!... وأما من ينفعل لدعوة الكاتب إلى محبة تنتهي إلى ما يصف من انخراط في "حرب" خيالية، لم نشهد له فيها فعلا ولا همّا؛ فإننا نحذره من التمادي في ذلك الطريق، لكونه غير واضح المعالم؛ بل هو مخالف لطريق أهل الحق مذ كانوا. هذا إن كنا نبغي اتباع السبيل المشروع، وأما من يسعى إلى الخلط بين أحكام الشرع وما يُفرزه الفكر السياسي العالمي، فإنه يكون مغامرا بمصيره، لا يدري هل يُختم له بالضلال أم بالهدى... [ادعاء حب الله دون إعطاء براهين الصدق العمليَّة كذب وأمانٍ وأحلام. لستَ هناك حتى يَنقلعَ من قلبك حبُّ ما سوى الله من دنيا مُوثَرة وهوى مُتبع وأنانية طاغية! لستَ هناك حتى يرى اللهُ ورسولُه والمؤمنون عملَك عند الأمر والنهي! قال الغزالي: "لا ينبغي أن يَغْتَرّ الإنسان بتلبيس الشيطان وخِدَعِ النفس مهما ادعت محبة الله تعالى ما لم يمتحنها بالعلامات، وما لم يُطالبها بالبراهين والأدلة. والمحبة شجرة طيبة أصلها ثابت، وفرعها في السماء، وثمارُها تظهر في القلب واللسان والجوارح".]: القاعدة التي تربط الدعوى بالبراهين صحيحة؛ لكن مصاديقها تكون بحسب المراتب. ويبدو أن صاحبنا لا يعلم من الدين إلا المشترك العام، ويظن أن ذلك أقصى ما يُدرك!... وأما كلام الغزالي هنا، فهو عام أيضا؛ لا يدخل في تفاصيل مسألة المحبة، وهو من يعلم بُعد غورها من غير شك. ولقد اكتفى -رضي الله عنه- بالدلالة على أولى مراتبها، وهي ما يبلغه العامة منها. وهذا من صدق نصيحته رضي الله عنه، ومن تأدبه مع أهل المحبة الذين استُشهدوا بسيفها. [وذكر رحمه الله سبعة أدلة على ثبوت محبة الله في قلب العبد، منها "حب لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة"، و"أن يكون مُؤْثرا ما أحبه الله تعالى على ما يحبه في ظاهره وباطنه"، و"أن يكون مستهترا بذكر الله". و"أن يكون أنسُه بالخلوة ومناجاته لله تعالى وتلاوة كتابه"، و"أن لا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عز وجل"، و"أن يتنعم بالطاعة، ولا يستثقلها"، و"أن يكون مُشْفِقاً على جميع عباد الله، رحيما بهم، شديدا على جميع أعداء الله".] ما زال كلام الغزالي من طور العوام؛ وهو مناسب للمريدين من أهل الطريق. وأما الكبار فمحبتهم فوق هذا بما لا يقارن!... [من الناس من يَزعم أن السلوك إلى الله عن طريق الحب أمر إرادي يتحقق بدون اعتبار الأمر والنهي الوارد بهما الشرع. ويتحدثون عن المحبة والدنو والقرب والعشق والهُيام وسائر هذه المصطلحات، ثم تجدهم عند الأمر والنهي مُتلَكّئين مُتهاوِنِين. هؤلاء عابثون مستهزئون، "لم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله. فإن تحقيق الشهادة بالتوحيد يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله وأن يحبَّ ما يحبه الله، ويبغض ما أبغضه، ويأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى الله عنه. وأنك لا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، ولا تسأل إلا الله وهذا ملة إبراهيم. وهذا الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين".]: كلام الأستاذ عبد السلام هنا، يشبه كلام متسلّفة الزمان من التيميين؛ فهم يقارنون بين من هو في أدنى الدرج، ومن هو خارج الدين؛ فيظهر لهم أنهم الأئمة وغيرهم العامة. ولو كانوا مستقيمين، ترتفع رؤوسهم إلى السماء غير منكبين على الوجوه، لعلموا أن فوقهم من لا يبلغون أن يكونوا تلاميذ بين أيديهم. ولقد أوضح الكاتب وأبان، عندما ختم بنقل عن ابن تيمية نفسه، وهو من أسس للسلوك المعكوس، ورام التعالي على مَن أحذيتهم فوق عمامته وإن كره. ولو علم ابن تيمية معاني الشهادة (كلمة التوحيد) التي يوردها وكأنه أعلم الناس بها، لتواضع إلى الأرض وسأل الله الإقالة؛ ولكن أنى له، وهو من أراد أن يدوس على البساط بنعله، فطرد إلى موضع النعال حتى صار مقاما له. [محبة الله عز وجل الصادقة بِبَراهينِها، المـُوَفِّية لشروطها من جانب العبد، الفائضة من العزيز الحميد نُزُلا مُباركاً، جنة في الدنيا معجَّلة لأحباب الله. قال ابن القيم: "سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة"]: لقد سبق أن ذكرنا أن ابن تيمية له أذواق في مقابل أذواق أهل الله، ينالها من إبليس شيخه الأكبر؛ علم ذلك من علمه وجهله من جهله. وإن إتيان الكاتب بكلام ابن تيمية في شأن المحبة، لا يدل إلا على انعدام النور لديه؛ لأن للمحبة رجالها، وهو قد أخطأهم وجاء بالمفلس يستنجد به. فمثله في هذا، كمن يطلب عزف الألحان المطربة من الحدادين، أو يسأل عيون الشعر من الأجلاف المتبلدين. [وقال المحب: إن المحـب نهــارُه مســــــتوحـش *** بين العبــاد يسيـــر كالمتفـــرِّد فالعـيــن منه قــريـرة بحبـــيبـه *** يرجـو لقـاء الواحـد المتـوحِّــد يا حُسْنَ موكبهم إذا ما أقبلـوا *** نحو الإلـه مـع النـبي محمـد!]: هذا الشعر جيد، لكنه من طور العوام. [وقال آخر: أموت وما ماتت إليك صبابتي *** ولا قُضيَت من صدق حبك أوْطاري مُناي، المنى كل المنـى، أنت لي مُنىً *** وأنت الغنى، كل الغنى، عند إِقتاري وأنت مَـدى سُــؤْلي وغـاية رغبـتي *** ومـوضع آمالي ومكنون إضْماري تَحمَّلَ قلبي فيك ما لا أبُثه *** إن طال سُقْمي فيك أو طال إضراري وبين ضلوعي منك ما لك قَـدْ بدا *** ولم يَبْــدُ بـاديه لأهل ولا جَار وبي منك في الأحشاء داء مُخامـِرٌ *** فقد هَدَّ مني الركنَ وانبث إسراري ألستَ دليل الركب إن هم تحيروا *** ومنْقـذَ من أشفى على جُرُفٍ هار؟ أنرت الهدى للمـهتدين ولم يكن *** من النور في أيديهم عُشْرُ معشـار فَنِلْـني بعفو مـنك أحْـيى بقـربه *** أغثني بيُسْر منك يطرد إعسـاري]: هذا أيضا شعر جيد، ولكنه ما يزال عاميا. [وقال المحب الذاكر ذو البصيرة: ذكرك لي مـؤنس يعـارضـني *** يُوعدني عنك منك بالظَّفَـر فكيف أنساك يا مَدَى هِمَمي *** وأنت مـني بموضع النظـر؟]: المعنى هنا رقى قليلا، ولكنه لا يُجاوز مرتبة المريدين. [وقال الإمام الشافعي يخاطب الدعِيَّ الكاذب: تعصي الإله وأنت تظهر حبه *** هذا محـال في القـيـاس بديـع لو كـان حبـك صادقا لأطعـته *** إن المحب لمـن يحب مطيــع في كل يوم يبـتـديك بنعـمـة *** منه وأنت لشكر ذاك مطيـع]: الشافعي فقيه، وهو يتناول الحب من جهة الفقه. ونعني من هذا أن المعاني التي يدل عليها، لا تتجاوز مرتبة الإسلام. وهذا الخلط من الكاتب بين المراتب، سيسيء إلى كل ما يتناول من مسائل. [وقلت وأنا العبد العاصي عفا الله عني: تعصيه ويْحك زاعما بوقاحة *** حبَّ المهيمـن إن ذا لفظـيـــعُ أبدعت في شرع الوداد وخنْتَه *** إن المُحبَّ لمن يُحب مُطـيـعُ ما أنت مِن رِقّ الهوى مُتحرِّرٌ *** ولأنت في وَحَل الفُتون صريـعُ]: هذا الشعر أنزل من جهة المعنى من شعر الشافعي، ولو أنه اكتفى به لكان خيرا له. وإن تناول الكاتب للمحبة من دون الإتيان بكلام أهلها شعرا ونثرا، يدل على أنه على نهج ابن تيمية يسير. ونعني أنه يبغي إعادة صياغة الدين بحسب هواه، ولا يتركه على أصله. وما دام لم يعرّج على ابن الفارض أو على الحلاج أو على من هو دونهما أو فوقهما، فما تكلم عن المحبة ولا يمم شطرها. وأين كل ما جاء به، من مثل قول ابن الفارض رضي الله عنه: وَلَـقَــــــــدْ أَقُولُ لِمَنْ تَحَرَّشَ بِالْهَوَى *** عَـرَّضْـتَ نَفْسَـكَ لِلْبَـلاَ فَاسْتَهْدِفِ التحرش بالهوى: هو إرادة الانخراط فيه، من غير أن يكون المرء من أهله. يُعلم ابن الفارض من هذه حاله، أنه قد عرض نفسه لبلاء لا قِبل له به. وهذا صحيح؛ لأن الحب لا يصح من المحبوب، حتى يُبتلى من قِبل محبوبه، فيكون ما يختاره محبوبه أحب إليه من مراده، وإن كان في اختيار المحبوب حتفه. وهذا الأمر يذوقه أهل المحبة ذوقا، ولا يكتفون منه بتعقل معناه، كما يتوهم الدارسون. أَنْــتَ القَتِيلُ بِــأَيٍّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ *** فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فِي الهَوَى مَنْ تَصْطَفِي يعني أن كل محب لا بد أن يكون صريع محبوبه؛ والحب مراتب وأصناف. وأعلى صنوف الحب ما كان المحبوب فيه الحق لا غيره. وكيف يستوي محب الحق، مع محب ليلى العامرية؟!... هذا لا يكون!... ويدل ابن الفارض على محبة الحق وينصح بها، لأن قتيلها يُبدله الله عن فقدان نفسه بأن يصير سمعه وبصره ويده ورجله؛ وهو معنى تحقق الولاية له. في حين يبقى صريع محبة "السوى" من غير عوض، فيخسر نفسه وحظه من الله. وهذا هو الخسران المبين. قُــلْ لِلْعَذُولِ أَطَلْتَ لَوْمِيَ طَامِعاً *** أَنَّ المـَـــــلاَمَ عَنِ الهَوَى مُسْتَوْقِفِي العذول هنا هو الفقيه الذي لا يعلم من المحبة إلا تلك التكليفية التي يكون بها المسلم مسلما. وهو يلوم محب الله، لأنه يجهل معنى تلك المحبة، ويظنها بدعية لا أصل لها من الشرع، عند قياسه على نفسه. ومحب الله المقبل على حتفه، وهو يشتهي الشهادة، يُخبره أن ملامه لن يُثنيه عما هو بصدده؛ لأن مشهوده يقوم عنده مقام العذر، عند غياب الحجة العقلية هنا. وكيف يقوم العقل مقام العين هنا؟!... ومتى استغنى محب عن النظر إلى محبوبه، إما حسا وإما خيالا؟!... دَعْ عَنْكَ تَعْنِيفِي وَذُقْ طَعْمَ الْهَوَى *** فَـــإِذَا عَشِقْتَ فَبَعْــدَ ذِلكَ عَنِّفِ فكما ينصح الفقيه السالك بالعودة عن طريق المحبة، ينصح السالك الفقيه بالدخول فيها، لأنها بالتأكيد مرتبة أرفع مما هو فيه. وينصحه أيضا بشهود الجمال، لأنه إذا شهده سيعذره؛ بل سيُصبح وليا له يعينه على مواجيده بما يستطيع. وهذا يعني أن العذول ما عذل، إلا من جهله بحقيقة من يلوم. وهذه قاعدة عامة، قلما تتخلف. بَرِحَ الْخَفَاءُ بِحُبِّ مَنْ لَوْ فِي الدُّجَى *** سَـفَـرَ اللِّثَامَ لَقُلْــتُ يَا بَدْرُ اخْتَفِ يشكو الشاعر تباريح محبة محبوب، لو ظهر في الدجى وسفر اللثام لاختفى وجه البدر المعلوم لدى أهل الحس. والمقصود بالدجى، المظاهر العدمية التي يزخر بها العالم. والمحبوب المنحجب في الدجى، هو الحق الذي تقوم به تلك المظاهر من كونه قيّومها سبحانه. وهو يعني لو أن الحق ظهر من المظاهر، لأعين الناظرين، لاختفى البدر ضرورة، لأنه ليس إلا مظهرا كسائر المظاهر. وعند ظهور الحق من البدر، تنعدم صورته (تفنى) ليبقى الله مستوليا بقهره على مظهره. وَإِنِ اكْتَفَى غَيْرِي بِطَيْــفِ خَيَالِهِ *** فَــأَنَـا الّــذِي بِوِصَالِهِ لاَ أَكْتَفِي يعني الشاعر هنا، أن المؤمنين المحبين لله من وراء حجاب، إن اكتفوا بما يجدونه من ذلك الحب المناسب لمرتبتهم، فهو لا يكتفي حتى بشهوده الحق في المظاهر؛ لأن الحق يبقى منه خارج المظهر ما لا يبلغه إدراك، وما لا تحيط به عين. وهذا يجعل المحب يزداد شوقا في عين وصاله، حتى يُقطع في الحب بهلاكه هلاكا تاما سرمديا، هو المعبر عنه لدى الأولياء بالفناء السرمدي والموت الذي لا بعث معه. وهذا مقام من صار حقا بحق لحق في حق. وهؤلاء هم الشهداء بالأصالة، الذين لم ينل شهداء الحد والنصال إلا صورتهم في عالمهم، عليهم السلام. وأما الكاتب في هذا الجزء، فإنه ما قارب محبة ولا ولاية، كما كان يطمع؛ وإنما أشهد العلماء بالله على نقصه وغربته بينهم. نسأل الله العفو والعافية. [1] . أخرجه أبو داود، عن ثوبان رضي الله عنه. [2] . أخرجه البزار في مسنده، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. وهذا الحديث مما يصححه الواقع. [3] . أخرجه الترمذي والحاكم في المستدرك، عن ابن عباس رضي الله عنهما. [4] . أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. |