انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2023/12/05
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (10)
الفصل التاسع: أحكام الجهاد الشرعي
إن الجهاد مشتق من الجَهد، وهو بذل الطاقة والوُسع مع المشقّة. وهذا يجعلنا نقف على معنى الجهاد بالمعنى الواسع، الذي يتضمّن بذل الجُهد في عبادة الله، وفي تحمّل مخالفة هوى النفس؛ ويتضمّن مجاهدة أعداء الدين بالرأي والكلمة، ثم بالسلاح إن توافرت الشروط ودعت إلى ذلك الظروف؛ ولنتكلم على أقسام الجهاد كما هي في الشريعة؛ حتى نتبيّن تفاصيل أحكامها بإذن الله، لأننا نراها قد طُمست، وحُرّفت معالمها كثيرا... 1. جهاد النفس: ا. مجاهدة النفس باختيار سبيل نجاتها: يقول الله تعالى عن النفس: {قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا . وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا} [الشمس: 9-10]. فتزكية النفس، التي هي تطهيرها وتنمية نورها، لها سبيل مخصوصة، وهي السبيل التي شرعها الله لعبادته، وبيّنها رسله عليهم السلام، كلٌّ في زمنه بحسب طريقته. والتدسيس الذي هو السير بالنفس في طريق هلاكها، له سبيل مخصوصة، هي التي يدل عليها إبليس ويُعينه فيها شياطين الإنس والجن من مختلف مراتبهم. وأول ما ينبغي التحذير منه في هذا المستوى، هو الخلط في الدلالة، والتدليس الذي يعتمده إبليس في زماننا، عندما يجعل الناس يتكلّمون عن "التنمية البشرية" بمعنى غير شرعي، ومجهول الأصول؛ لأن الخلط في الدلالات، يحتاج إليه إبليس كثيرا، في بلوغ أغراضه؛ بعكس المرسلين، فإنهم مستغنون عنه، ومنزّهون؛ وهي مسألة جدلية بين الحق والباطل عموما منذ نزول آدم عليه السلام، وإلى زمن آخر ولد من ذرّيّته. ونحن سندلّ على القاعدة الكبرى فيها، تسهيلا على الدارسين عند نظرهم في مختلف الأمور، فنقول: إن الحق حيث كان، وفي أي مرتبة ظهر، لا يكون قيامه إلا بنفسه، وهذا هو معنى كلمة "حق" في الاصطلاح الشرعي. وأما الباطل، فحيث كان، ومن أي مرتبة ظهر، فإن ظهوره لا يكون إلا بالحق. ونعني من هذا، أن الباطل في أصله عدم محض، والعدم لا يظهر بالصورة الحسيّة أو الخيالية أو المعنوية، إلا إن قام بالحق الذي هو الوجود، في تلك العوالم كلها. ومن هنا كانت دلالة الباطل في نفسه، على الحق، ومن غير إرادة منه، لمن كان من العقلاء. وهذا، بعكس السفهاء الذين يعتبرون الباطل إذا ظهر لهم، وينحجبون به عن الحق، لعدم إدراكهم مرتبته وحاجته إلى الحق. والذي نبغي بلوغه بكلامنا هنا، هو أن من كان متّبعا للباطل، فهو مُدرك لصورته، لا لحقيقته، لأنه لو أدرك حقيقته، لأدرك الحق؛ وهو ما لا يكون إلا بإذن من الله؛ وبين الأمريْن فُرقان!... ومن هذا المستوى، كنا نقول لأصحابنا: إن كل كلام في العالم هو حق، بغض النظر عن حكم الناس عليه بأنه حق أو باطل، انطلاقا من العقل أو من الشرع. وهذا، لأن الكلام الحق هو حق من جهتيْه: الظاهرة والباطنة؛ والكلام الباطل، ليس باطلا إلا من جهته الظاهرة، لتبقى جهته الباطنة حقا دائما... وسبيل الحق بالمعنى الشرعي، التي هي تجمع بين الحق الظاهر والحق الباطن منها؛ بالفقهيْن الظاهر والباطن، ليست إلا سبيل الرسل أجمعين عليهم السلام. وهذه السبيل المشروعة، لها جانبان: جانب عقديّ، وجانب عملي، وهما غير الظاهر والباطن، وإن تعلّق كلاهما بكليهما. والجانب العقديّ ينبغي للمرء أن يتبع فيه دلالة الكلام الإلهي في الكتب المنزلة، وفي القرآن بعد نزوله خاصة، من حيث كونه "الكتاب" بالمعنى المطلق. وهذا يجعلنا نتوقف من جهة، عند وقوف اليهود والنصارى، مع التوراة والإنجيل، وإن كانوا لا يقطعون بصحة كل ما يجدونه فيها؛ ومن جهة أخرى، يجعلنا نتوقف عند جهل فقهاء الدين من المسلمين في غالبيتهم، لمرتبة القرآن. ونعني أنهم عندما يتكلمون عنها، فإنهم يجترّون كلاما موروثا عن أسلافهم، من دون إدراك حقيقي لفحواه ومرتبته. وتنضاف إلى دلالة الكلام الإلهي، دلالة الكلام الرسالي، الذي به يُعرِّف الرسل عليهم السلام، والذين هم أعرف الناس بالله، الناسَ على ربهم. والمشقة التي على العبد مجاوزتها، ضمن جهاده لنفسه هنا، هي تصديق ربه وتصديق رسوله. ووجه المشقة، هو كون الكلام الرباني والرسالي، قد يكون مخالفا لما نُشِّئ عليه المرء، أو لما هداه إليه عقله إن كان من المتفلسفة. والمصدّق لله ورسوله في هذه المرحلة الإيمانية الأولى، لا بد له من تكذيب نفسه، وتكذيب قومه؛ جزئيا، إن لم يكن كليّا. وهذا، لأن المجتمعات وإن كانت على الدين الحق، وفي الزمن التشريعي المخصوص، فإنها لا تكون على الحق الخالص، بسبب عُسر ذلك عليها، والناتج عن العزّة الإلهية([1])؛ وبسبب مجاوزته لأطوارها العقلية. يقول الله تعالى في هذا المعنى: {وَكَذَ ٰلِكَ مَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ فِی قَرۡیَةٍ مِّن نَّذِیرٍ إِلَّا قَالَ مُتۡرَفُوهَاۤ إِنَّا وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا عَلَىٰۤ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِم مُّقۡتَدُونَ} [الزخرف: 23]؛ والأمر ليس محصورا في المترفين كما يدل عليه ظاهر الآية، وإنما هم خُصصّوا بالذكر لكونهم الركن الأكبر من قادة مجتمعاتهم، والذين تكون لهم الغلبة في الرأي بقوة المال، لا برجاحة العقل وحدها. وهذا جليّ، إن نحن نظرنا إلى الطبقة المسمّاة في عصرنا بـ "الأولغارشيا"، وإلى طرق عملها. وأما الأقلية، فهم إما الرسل وأتباعهم، أو الفلاسفة وأتباعهم؛ وإن كان الفلاسفة على جهاد لأنفسهم، في مقابل جهاد المؤمنين، غير مشروع؛ وهذا غير خفي، عمن خبر الفلسفة وعرف أهلها. لذلك، فنحن لا نقبل من سفهاء المجتمعات أن يزعموا أنهم تابعون للفلاسفة، كما هو الشأن في زماننا، عندما نجد كل من درس الفلسفة أو تمسح بدارسيها، يزعم أنه فيلسوف. وقد كنا ننكر على أحد المتفلسفين أن يكون من الفلاسفة، حبّا لخيره أولا؛ ومن كوننا لا نشهد بالفلسفة إلا لمن كان كافرا، بخلافه هو ومع علمنا أنه مسلم. وقد كنا نعرف وقتها، أن السامعين لحكمنا، لن يعلموا مستندنا، ولن يلتزموا به في أنفسهم؛ بل سيستمرون على ما كانوا عليه من آراء، وكأنهم لم يسمعوا ما يخالفها، على عادة العامة. ولكن في المدة الأخيرة، سمعنا رأيا لهذا الشخص، يؤيّد فيه جماعة "حماس" في فعلها يوم السابع من أكتوبر، تأييدا لا يليق في تفاصيله، بمن كان من أهل الرأي العاديّين، بله الفلاسفة. لهذا، فإننا نرى أن الذين لم يكونوا عالمين بأصل حكمنا السابق، عليهم أن يعتبروا هذا الرأي الصادر عن هذا الشخص بخصوص "حماس"، ليعلموا أننا كنّا على الحق في ذلك الحكم. وهذا التذكير منا للعامة، هو من باب تيسير الفهم عليهم، ومن العودة بالدلالات إلى نصابها؛ حتى لا يبقوا في هذا الخلط الكبير الذي يعيشونه، لا من تقصُّد ذلك الشخص، عياذا بالله. والذي نبغي من الناس تبيّنه من خلال هذه السطور، هو أن الفيلسوف لا يُقر بعمل لا يكون مبنيا على أُسس عقلية معتبرة؛ وعمل "حماس"، لا يمكن أن يُصنّف عقلانيا إلا جزئيا... ب. مجاهدة النفس بمخالفة هواها داخل السبيل: وهذا لأن اتّباع سبيل الله، لا يكون اتباعا صوريا، من دون إخلاص الأعمال فيه لله، ومن دون موافقة لفقه باطن الشريعة. ونحن نتعجّب كيف أن الفقهاء يتكلمون منذ القرون الأولى عن علم الشريعة من جهة ظاهره، ولم يُثبتوا علمها من جهة الباطن ولا مرة واحدة. فإن وقعت الدلالة على باطن الشريعة، فمن طبقة الصوفية منذ أزمنة التصوف الأولى؛ وكأنهم رضي الله عنهم، أرادوا تكميل فقه الفقهاء بفقههم. وهذا رغم عدم دلالتهم على ما ذكرنا من تقابل في الفقه، دلالة واضحة؛ ولكن بالإحالة على القلب وأحواله فحسب. وقد يكون العبد عاملا بالأعمال الشرعية، ولكن مرائيا؛ وقد يكون عاملا، وحريصا على نيل ثمرات التديّن في الدنيا، عن طريق تحصيل الجاه عند الناس عموما، وعند السلاطين خصوصا؛ أو عن طريق إرادة التكسّب بالدين. والأهواء كثيرة، لا يكاد يعرفها -فضلا عن مخالفتها- إلا من أخذ الله بيده من أفراد المؤمنين. وكل من سارع إلى تبرئة نفسه من الآفات التي ذكرنا بعضها، فإنه يكون مـُبينا عن جهله بحقيقة نفسه فحسب. والغالب، هو أنه لا يستغني مجاهد هوى نفسه، عن اتباع شيخ يُسلم إليه قيادها. ونعني من هذا، أن ما يظن الناس أنه حرية في اتباع الدين، ليس في الغالب، إلا توسع في اتباع الهوى. ويبقى اتخاذ الشيخ الرباني ضرورة دينية شرعية، لكل من يروم تحقيق التديّن السّنّيّ السليم. يقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى . وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى . وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-41]، ويقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... وَالْمُجاهِدُ مَنْ جاهَدَ نَفْسَهُ فِي طاعَةِ اللَّهِ،....»[2]. وعلى كل حال، لا يتحقق الخروج عن الهوى، إلا بعد أن يعرف العبد نفسه؛ ومعرفة النفس أمر لا يستطيعه كل أحد، ولا تُقبل دعواه إلا ببيّنة. يقول الله تعالى: {أَمِ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةً قُلۡ هَاتُوا۟ بُرۡهَـٰنَكُمۡۖ هَـٰذَا ذِكۡرُ مَن مَّعِیَ وَذِكۡرُ مَن قَبۡلِیۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ ٱلۡحَقَّۖ فَهُم مُّعۡرِضُونَ} [الأنبياء: 24]؛ ومن الآلهة المزعومة: الهوى. وبحسب الواقع، فإن أغلب أهل الدين يكونون على هوى، علموا أم لم يعلموا؛ ما لم يكونوا قد بلغوا النهاية في التزكية، أو يكونوا متبعين لإمام يحمل عنهم الآثار الظلمانية لمعاصيهم التي قد تخفى عنهم. ومن ظن أن الصحابة كانوا يتقون أهواءهم بأنفسهم، فإنه يكون قد ضل ضلالا بعيدا؛ لأنهم ما اتقوها إلا بالنور النبوي الذي كان يكشفها لهم؛ وهو معنى قوله تعالى: {وَدَاعِیًا إِلَى ٱللَّهِ بِإِذۡنِهِۦ وَسِرَاجًا مُّنِیرًا} [الأحزاب: 46]. أي منيرا لظلمات نفوس الأتباع. وهذا يكون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، من زمن البعثة، وإلى أن تقوم الساعة. لكن إنارته عليه وآله الصلاة والسلام في الزمن الأول للصحابة، كانت على وجه؛ وإنارته في الأزمنة التالية، تكون على وجه آخر؛ وهو اتباع الأئمة من الوارثين. وفي البداية وقبل أن تتحقق معرفة النفس التفصيلية، التي لا تكون إلا لأهل مرتبة الإيمان فما فوقها، فعلى العبد أن يُغلّب اعتقاد مخالفتها بإطلاق، فيما لا يوقِع في معصية؛ لأن مخالفة النفس قاعدة عامة، يتقي بها المرء هواه، ويعتذر بها إلى ربه في أي فعل من أفعاله؛ بحيث إن عرض له أمران، اختار منهما ما تكره نفسه، واجتنب ما تحبه. وأما تفاصيل العلم الذي يستند إليه العالم عند مخالفته لنفسه، فإنها كثيرة، إلى الحد الذي يكون فيه النظر في تفصيل واحد شخصيّ، أدق مما يُقابله في الفقه الظاهر من فتاوى، بما لا يُقارن. وفي الغالب -كما أسلفنا- من لم يكمل له نوره، فلا مناص له من الاستنارة بنور شيخ يهتدي به، وإلا ضل. ومن تأمل حال المسلمين عموما، والإسلاميّين خصوصا، وكان على بصيرة، فإنه سيرى مصاديق كلامنا ماثلة للعيان؛ وهذا رغم إنكار المنكرين، وجحود الجاحدين. يقول الله تعالى: {وَمَا یَتَّبِعُ أَكۡثَرُهُمۡ إِلَّا ظَنًّاۚ إِنَّ ٱلظَّنَّ لَا یُغۡنِی مِنَ ٱلۡحَقِّ شَیۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِمَا یَفۡعَلُونَ} [يونس: 36]. وأما إن زعم العبد أنه يعمل بقاعدة الحلال والحرام الشرعية، وهذا يكفيه، فإنه في الغالب يكون معرِّضا نفسه للإضلال؛ لا لأن القاعدة غير صحيحة، وهي الشريعة نفسها، فهذا لا يقول به أحد؛ ولكن لقلة علمه ونوره، بحيث يُمكن أن يظهر له الحلال حراما والحرام حلالا، عند تركيب المسائل ودخول الهوى على الحكم. ولولا أن الله قد علّمنا ما يصير به الحلال حراما والحرام حلالا من جهة باطن الأحكام، ما كنا نصدّق بذلك من الأصل. وقد يبدو هذا مستبعدا في عين من لا خبرة له، أو في عين الفقيه الذي لا نور له؛ وأما من علم تلونات النفس وشدة مَكرها بصاحبها، فإنه سيعلم ما نقول. وإن أغلب من نعرف من الفقهاء، لا نعرف منهم إلا أنهم متبعون لهواهم، وهم يظنون أنهم على خير؛ وهذا لأنهم اكتفوا بقواعد الشريعة الظاهرة، من دون سلوك يُخرجهم عن تحكم النفس فيها. ولو كان أحد ينجو بظاهر الفقه، لنجا الفقهاء، ولكانوا من الأولياء. ولكن الواقع يدل على العكس منهم!... وعلى العموم، فإنه لا ينجو من النفس إلا من نجاه الله!... 2. مجاهدة الشيطان: ومجاهدة الشيطان لمن كان على نور في تشرّعه سهلة، لأن من التزم طاعة ربه، فقد تحققت له مخالفة الشيطان تلقائيا. ونعني بكلامنا أن المطيع لربّه حقيقة في الوقت، لا يكون عاصيا، لامتناع اشتغال المحلّ بالنقيضيْن؛ إلا إن كانت الطاعة منوطة بالظاهر، والمعصية منوطة بالباطن؛ أو العكس. وهذا يعني أيضا أن الشيطان يدعو إلى عكس ما يدعو إليه رب الناس: فهو يدعو إلى المعاصي، من صغراها إلى كبراها؛ ويدعو في النهاية إلى الكفر. ومن استهان بدعوة الشيطان إلى المعاصي، فإنه لا يشعر بنفسه إلا وهو واقف على باب الكفر. يقول الله تعالى: {أَوَلَوۡ كَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ یَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِیرِ} [لقمان: 21]، مع أنه لم يقل لأحد بصريح العبارة: تعال، فهذه باب السعير. ويقول سبحانه: {إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ لَكُمۡ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا یَدۡعُوا۟ حِزۡبَهُۥ لِیَكُونُوا۟ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلسَّعِیرِ} [فاطر: 6]. وهذا يعني -كما أخبر أئمة الطريق قبلنا- أن عداوة الشيطان تتحقق بطاعة الرحمن تلقائيا. وأما من تتبع أمور الشيطان، ليتحقق بمعاداته فيها زعما، فإن اللعين يفرح به أكثر مما يفرح بغيره؛ لأنه يكون متوجها إليه من غير أن يدري؛ وعن قريب سيُصبح من أقرب أقربائه. ومن توجّه إلى الشيطان، سهل عليه استدراجه، بدرجة تفوق كل تصوّر. ولولا مخافة الإطالة، لضربنا لكل ما نقول أمثلة، مما لا يخطر لأحد على بال... ومن مجاهدة الشيطان عدم الإنصات إليه عند نزغه بين الناس. يقول الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِی یَقُولُوا۟ ٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ یَنزَغُ بَیۡنَهُمۡۚ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَـٰنِ عَدُوًّا مُّبِینًا} [الإسراء: 53]. وهذا يعني أن النزغ بين الناس يبدأ بإيغار الصدور، ثم ينتقل إلى القول السيء، ثم قد يُفضي بعد ذلك إما إلى الهجر إن كان الأمر محصورا بين المؤمنين، أو يُفضي إلى الإضرار الذي قد يبلغ القتل إن تجاوز العبد حدود الإيمان. وقد ذكر الله قصة ابنيْ آدم ليدل على هذا الصنف من المعصية، فقال سبحانه: {وَٱتۡلُ عَلَیۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَیۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ یُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡـَٔاخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا یَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِینَ . لَىِٕنۢ بَسَطتَ إِلَیَّ یَدَكَ لِتَقۡتُلَنِی مَاۤ أَنَا۠ بِبَاسِطٍ یَدِیَ إِلَیۡكَ لِأَقۡتُلَكَۖ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ . إِنِّیۤ أُرِیدُ أَن تَبُوۤأَ بِإِثۡمِی وَإِثۡمِكَ فَتَكُونَ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلنَّارِۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَ ٰؤُا۟ ٱلظَّـٰلِمِینَ} [المائدة: 27-29]. وهذا من أكبر الجهاد للنفس وللشيطان، رغم أن الناس يحصرونه في صورة ابنيْ آدم وحدهما؛ وكأن هذه الصورة ليست أصلا تتخرج عليه جميع الفروع المنشقة عنه. بينما الإشارة بابنيْ آدم، هي إشارة إلى كل الناس، ضمن صنفيْ الخيّرين والأشرار؛ وهي أعم الإشارات. وقد كان ينبغي من هذا الوجه لكل مؤمن أن يتورّع عن قتل آدمي غيره، بصرف النظر عن إيمان المقتول وكفره، إلا عن إذن من الله ورسوله خاص؛ وإلا عرّض نفسه بهذا الفعل لغضب إلهي لا مثيل له. يقول الله تعالى: {مِنۡ أَجۡلِ ذَ ٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٍ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعًا وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعًاۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِیرًا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فِی ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} [المائدة: 32]؛ مسرفون: أي على أنفسهم، بقتل النفوس بعد ورود النهي. ولم نر مِن علماء الدين، مَن يدل على هذا الأصل من الدين: والذي هو عدم جواز قتل الكافر (اليهودي مثلا)، لمجرد كفره. بل إن المؤمن إذا تورع عن قتل الكافر، وفضل أن يُقتل هو إن قصده الكافر بالقتل، فإنه يكون خير ابنيْ آدم، ونال بذلك الفضل الكبير؛ وإلا، فلمَ وردت قصة ابني آدم، وهي لا تدل إلا على امتناع أهل النور من قتل أعدائهم الذين يريدون بهم شرا؟!... أما إن كان العبد قد بعدت به ظلمته عن إدراك أخوة كل آدمي له، فإنه يكون في حاجة إلى تصحيح طريقه، وتصحيح أعماله ونياته، بتجديد إيمانه. والإيمان يُجدّد، ويزيد وينقص، ويبلغ اليقين، حيث لا نقصان، كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلا ينبغي للعبد أن يحرم نفسه من علاج قلبه!... والخلاصة أن القتل، يحسن فيه -لخطورته- أن يكون المرء مقتولا على أن يكون قاتلا. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي فَسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، ما لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرامًا.»[3]. والدم الحرام، هو كل دم؛ ما لم يرد فيه الإذن الإلهي الذي يكون فيه العبد على بيّنة وعلى بصيرة؛ كما كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان التابعون مع الخلفاء الراشدين عليهم السلام. وقد كان على المؤمنين في فلسطين، أن يعملوا بهذا الأصل، وأن يكونوا على نيته؛ فإن الله ينصر به ما لا ينصر على غيره. والأمر هنا فوز عند الله أولا، لا غلبة للناس؛ وكم من مجاهد قتل وقُتل، يكون من المعذّبين في الآخرة. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضمن حديث الثلاثة الذين هم أول من تُسعّر بهم النار: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ؛ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.»[4]. وبلغة العصر، فإنه يُخاف دخول النار على الأبطال!... 3. مجاهدة الأعداء: والمراد بالعدو هنا، عدو الله ورسوله، وعدو الدين؛ لا عدو النفس. والتفريق بين هذيْن المستوييْن ضروري، حتى لا يتبع المرء هواه في أمر عظيم كالجهاد. وعند الكلام عن الجهاد، فإننا نؤكد على أننا مخالفون للفقهاء الذين جعلوه قسميْن: جهاد طلب وجهاد دفع. ولنعتبر في البداية أن هذيْن المصطلحيْن لم يرِدا في قرآن ولا في سنة؛ وإنما هما من ابتداع الفقهاء بحسب فهمهم، رغم ما سيبدو في القرآن أنه من أدلتهما. وهذا، لأن الدين لا يقوم على سفك الدماء، كما جعله الفقهاء يبدو؛ بل إن سفك الدماء يكون من آخر ما يلجأ إليه المؤمنون. ولنذكر جميعا أن الله في بداية الدعوة الإسلامية، لم يأذن بالقتال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فمضت الفترة المكية (13 سنة) وسنتان بعد الهجرة، حتى جاء الإذن به. وطولَ المدة المكية كان الصحابة رضي الله عنهم يأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما بين مضروب ومشجوج، فيقول لهم: «اِصْبِرُوا! فَإِنّي لَمْ أُومَرْ بِقِتالِهِمْ.»[5]، وقال جماعة من الصحابة منهم: عبد الرحمن بن عوف، والمقداد بن الأسود، وقدامة بن مظعون، وسعد بن أبي وقاص: يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون، فلمّا آمنا صرنا أذلّة؛ فائذن لنا في قتال هؤلاء! فقال: «كُفّوا أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ، فَإِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقِتَالِهِمْ!» . وعندما كان المسلمون يريدون اغتيال بعض رؤوس الكفر في مكة، نزل قول الله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ یُدَ ٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج: 38]. خوان كفور: بقتله كافرا مشركا بغير إذن رباني. وهذا هو الأصل في الدين: نعني دفاع الله عن المؤمنين غيبا؛ وهو ما يراه الأولياء عيانا إذا عودوا من قِبل الكافرين والمنافقين. وسنرى أن هذا الأصل سيبقى حاكما على فروعه من أحكام الجهاد دائما. وإن إحجام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتال المشركين بغير إذن، يعني أن الأمر عظيم، وأن الداخل فيه بنفسه وهواه، سيسعى إلى هلاك نفسه، قبل هلاك عدوه. والهلاك في النهاية، ليس هلاك الأبدان؛ ولكنه هلاك النفوس. ولما شاء الله الإذن لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ولمن معه بالقتال، نزل قول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُوا۟ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِیرٌ} [الحج: 39]؛ أي وإن كان الله على نصرهم قديرا، من دون قتال منهم. وهذا يعني أن المؤمن ينبغي أن يكون موقنا بقدرة الله على نصره؛ حتى إذا أتى فعل الجهاد، أتاه بعبودية لا بنفس كما أسلفنا. ويدل على براءة المؤمنين من القتل، قول الله تعالى: {فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِیُبۡلِیَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مِنۡهُ بَلَاۤءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمٌ} [الأنفال: 17]؛ وهذا يُخرج المجاهدين من الحساب دفعة واحدة. ويقول الله في موضع آخر: {قَـٰتِلُوهُمۡ یُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَیۡدِیكُمۡ وَیُخۡزِهِمۡ وَیَنصُرۡكُمۡ عَلَیۡهِمۡ وَیَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٍ مُّؤۡمِنِینَ} [التوبة: 14]، وهذا يعني: - أن القتال من الناس، وأن التعذيب الحادث بالقتل والجرح هو من الله، لا منهم. - أن النصر عند القتال، هو منّة على المؤمنين الموافقين لأحكام الشريعة؛ وأن الخزي الذي هو الذل والمهانة في مقابل ذلك هو جزاء الله للعصاة من عباده. ومن تأمّل، فإن العباد ليسوا إلا مظهرا لفعل الله، وأما فعلا النَّصْر والإذلال، فهما معا من الله وحده؛ بحيث لا يُقال انتصر المؤمنون على الكافرين إلا مجازا... - أن نصر المؤمنين وإذلال الكافرين، يشفي به الله قلوب المؤمنين، الذين يكونون حانقين على الكافرين من كونهم مُؤذين لهم في إيمانهم بسبّ الله ورسوله، ومتنقصين لهم ومتكبرين عليهم؛ ولكن هذا مخصوص بالمؤمنين، وهم العامة من أهل الدين. وأما من كان في أعلى مراتب الدين، فإنه يعلم أن الفعل كله لله، وأن العبد المنتصر لا يفرح إلا بفعل الله، لا بفعله؛ كما أن هذه الطبقة العليا، لا تنقم من الكافرين شيئا، لأنها تعلم أن الإيمان والكفر بقدر الله، وأن من آمن فبفضل الله، لا بفعل منه. لذلك لم تكن قلوب هذا الصنف تطلب شفاء بنصرها... وإلى حقيقة كون فعل الإيمان هو من الله، لا من العبد([6])، يُحكى عن أحد أرباب الأحوال الناطقين بالحقائق على رؤوس الأشهاد، أنه مرّ بمقبرة لليهود فقال: "معذورون!"، ومر بمقبرة للمسلمين، فقال: "مغرورون!". ومن فهم قصدنا، سيجد كلام هذا المجذوب حقا، لا مرية فيه؛ {لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ وَیَوۡمَىِٕذٍ یَفۡرَحُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ } [الروم: 4]. ونستخلص من كل هذا، أن الجهاد ينبغي أن يكون بالله لا بالنفس؛ إما تحقّقا وهو أمر مخصوص بالربانيين، وإما عن طريق القتال تحت إمرة رباني وعن إذنه. وكل من ينسب إلى نفسه فعلا في الجهاد، فإنه يكون بعيدا عن أصل الشريعة. وهذا الذي نراه في زماننا، لا يمتّ إلى الجهاد بصلة؛ بل هو أفعال تكون أقرب إلى المعصية منها إلى الطاعة. وقد ورد في سيرة ابن هشام فيما يتعلّق بغزوة بدر: [ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج من مضيق الصفراء، نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية، يقال له: سير، إلى سرحة به؛ فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين؛ فقال لهم سلمة بن سلامة (كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان): ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة، فنحرناها؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أي ابن أخي، أولئك الملأ!...» (يقصد أنهم أشراف القوم، ولا ينبغي الاستهزاء بهم!).][7]. فمن لا يقبل الاستهزاء بالأعداء، كيف يكون داخلا في قتالهم بنفسه؛ وحاشاه!... وأما الدخول في الجهاد بالله لا بالنفس كما هو مفترض، فقد يعترض عليه معترض، بأن ذلك ليس في إمكان العامة من المؤمنين، وهم سواد الجيش؛ فكيف يستقيم هذا الواقع مع الأصل (وهذا من باب التأكيد لمعنى سابق)؟ فالإجابة عنه تكون: إن المؤمنين لا يُعتبر مقامهم هم، وإنما يندرجون في مقام إمامهم. فالصحابة الذين كان إمامهم في الجهاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فالمعتبر منهم جهاد النبيّ بهم، لا جهادهم. وقد دل على هذا المعنى قول الله تعالى: {وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ}، بعد قوله سبحانه: {فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ}؛ وهذا كما يعني نفي القتل عن الصحابة، فهو يُثبت أن الرمي الواقع من كل رامٍ هو رميٌ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لكن الله لم يقل له: فلم ترم ولكن الله رمى؛ وإنما قال: {وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ}، وهذا نفي مع إثبات في حق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إثبات من غير نفي لله وحده. وهذا، لأن حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حضرة إمكان، بينما حضرة الله هي حضرة وجوب، ومظهر النبوة ظاهر بالمعنييْن معا: الإمكان والوجوب. وأما الصحابة، فكانت حضرتهم إمكانا وحده، لعدم تحققهم بربهم (الوصول)؛ فلذلك نفى الله عنهم القتل جملة. فليُنظر إلى مدى دقّة القرآن في التعبير... ثم إن من كان من أهل الأزمنة المتأخرة -إن لم يكن من أهل الشام ذوي الإذن المفتوح- فينبغي أن يكون جهاده تحت إمرة ربانيّ، يكون خليفة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من هذا المقام؛ حتى يكون جهاده شرعيا. وإن نحن عدنا -من قبيل التمثيل- إلى الحركات الوطنية، المعتمِدة لأصول غير شرعية في مقاتلة الأعداء، وفي قتل "الخائنين" من أبناء وطنها، فإننا سنحكم على ذلك الصنف بأنه كان معصية في مجمله، مستثنين من هذا الحكم، من كان يقاتل تحت إمرة ربّانيّ، كما كان المقاتلون تحت إمرة الأمير عبد القادر الجزائري رضي الله عنه، الذي هو أحد تلاميذ الشيخ الأكبر الذين يكونون في جميع الأزمنة، والذي كان جهاده ما بين 1832 و1847م؛ وكذلك من كان يقاتل تحت إمرة الشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل، المتوفى بمدينة تزنيت جنوب المغرب يوم الثلاثاء 28 اكتوبر سنة 1910م. وأما من كان ثائرا، وبطلا وطنيّا، وغير ذلك من التسميات الجاهلية، ويعمل بأساليب المنظمات المقاتلة التي لا تتقيّد بالشريعة، فإنه -إن لم يتجاوز ربه عنه- يكون قد مات ميتة جاهلية، إن قُتل في المعركة. ولقد نشأ هذا الفسوق العام، مِن تولّي الفقهاء الفتوى في هذه المسألة، مع عدم أهليتهم؛ بل إن بعضا منهم كان يعادي الربّانيّين في بلاده، كما عودي الشيخ ابن عليوة رضي الله عنه، لفترة في الجزائر. ونحن هنا لا نقول بضرورة قيادة الربانيين للجيوش الإسلامية، ولكن بضرورة استئذانهم في كل قتال؛ وهذا لأن الربانيّين يكون لرأيهم اعتبار عند الله، وهو ما لا يكاد يصدّق به الفقهاء الغافلون. ومن هذا الباب، ننصح الدولة الجزائرية، بالرجوع عن مقولة "المليون ونصف شهيد"، التي تعتمدها البروباغاندا الضلالية؛ لأن الشهادة حكم من الله على العباد الذين قضوا في الجهاد وحدهم؛ وهو سبحانه، وحده العليم بنيات عباده في قتالهم. فلا يتألّ عبد على الله!... وليعد إلى الحق في هذه المسألة، فإننا نرى فيما يتصل بها بدعا منكرة، لا تليق حتى بـ "عقلاء" الكافرين!... وأما أكثر جهاد المتأخرين، فهم يدخلون فيه بالنفس، ومن دون إمام؛ فيكون قتالهم للكافرين كقتال الكافرين لهم، ولا فرق بينهم إلا أن المؤمنين على كفر أصغر، وأن الكافرين على كفر أكبر. وهذا الذي نقوله هنا، يلحق بكلامنا عن الإمامة في فصل سابق، لو أن الناس كانوا يعلمون!... ولنتكلم الآن عمّا قامت به جماعة "حماس" في السابع من أكتوبر: - فمن جهة كونهم فلسطينيين، فإن مجاهدتهم لليهود بعد أن بالغوا في التنكيل بالمسلمين هناك، جهاد مشروع، يُقصد منه دفع الضرر؛ وهذا الجهاد لا يُحتاج فيه إلى إذن للضرورة. - ولكن من جهة كونهم مسلمين، فكان ينبغي دخولهم فيه عن إذن إمام، حتى ترتفع مرتبته، ويكون جهادا شرعيا تاما. وهذا، لأن الشام لا يخلو من ربّانيّين يُستهدى بهم. - أما ما تجاوزوا فيه حدود الله، فإنهم يصيرون به عصاة. وذلك كقتلهم أو أسرهم للعجزة والنساء وللأطفال من اليهود. فإن قالوا: هم فعلوا ذلك بالفلسطينيّين! قلنا: إن فعلوا هم ذلك من خستهم، فنحن لنا قيمنا في القتال التي لا ننزل عنها، إرضاءً لربّنا، لا شفاء لغليلنا. - وأما إن اعتبرنا ارتداد فعل جماعة "حماس" على نساء وأطفال الفلسطينيّين، بقتلٍ بشع وهدم مروّع لأحياء بكاملها على يد الإسرائيليّين؛ فإن ذلك العمل المسبِّب كله يُصبح حراما حرمة لا شبهة فيها. وهذا لأن الشريعة الإسلامية تعتبر حرمة المسلم الواحد، فكيف ستستهين بعشرات الآلاف منهم؟!... هذا كله جهل، ولا أصل له!... والمقصود من الكلام هو أن "حماس" قد تسببت في قتل أعداد كبيرة من الفلسطينيين، لعلمها بطريقة انتقام الإسرائيليين، عندما يُصابون بأذى؛ بحيث لم يكن يوجد احتمال واحد، يصب في كون إسرائيل ستمتنع عما فعلت من إبادة جماعية بعد الهجوم عليها بتلك الطريقة. وهو ما يجعل "حماس" مسؤولة مسؤولية مباشرة عن قتل قومها، وهي المعرّة التي ستلحقها بفعلها ذاك. يقول الله تعالى: {وَلَوۡلَا رِجَالٌ مُّؤۡمِنُونَ وَنِسَاۤءٌ مُّؤۡمِنَـٰتٌ لَّمۡ تَعۡلَمُوهُمۡ أَن تَطَـُٔوهُمۡ فَتُصِیبَكُم مِّنۡهُم مَّعَرَّةُۢ بِغَیۡرِ عِلۡمٍ لِّیُدۡخِلَ ٱللَّهُ فِی رَحۡمَتِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ لَوۡ تَزَیَّلُوا۟ لَعَذَّبۡنَا ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا} [الفتح: 25]. وهذا ينطبق على وجود المؤمنين في جهة العدو المـُقاتَل، ناهيك عن وجودهم في جهة المؤمنين المـُقاتِلين. وإن ورود "لولا" الذي هو حرف امتناع لوجود، يدل على حرمة مقاتلة العدو في الحال الأولى. فإن كان ما دلت الآية محرما، فإن ما فعلته "حماس" هو أشد حرمة من غير شك!... وهذه المسألة تشبه من وجه أيضا، ما يُفتي به بعض جهلة الفقهاء، من جواز تفجير الناس لأنفسهم في العدو. ونعني أن الله إن كان يُحرّم قتال العدو مخافة إصابة مؤمنين، فكيف سيأذن بقتل المؤمن لنفسه في سبيل قتل العدو!؟... وقد التبس الأمر على هؤلاء الجهلة، لأنهم صاروا يعملون بمنطق الكفر، الذي يتغيَّى الغلبة، لا طاعة الله. ولقد أوضحنا في السابق الفرق بين الأمريْن، وحتى نزيد الأمر وضوحا نقول: إن المؤمنين لا يخشون من الموت قتلا على يد العدو، إن هم امتنعوا عن القتال من الأصل؛ وهذا لأنهم يرجون الآخرة، والموت طريق إلى الآخرة، خصوصا إن جاء في صورة الشهادة. وذلك بشرط ألا يكون موت المؤمن مؤديا إلى نتيجة يأباها الشرع، كتحقُّق إذاية الكافرين لإخوانه المؤمنين بعده، أو كتعسير طاعة الله عليهم في بلدانهم، بطريقة ما. وهذا الذي نقوله، هو من باب إبراز الأصل في المسألة، الذي لا نريد به معاكسة إجازة الشرع للعبد في الدفاع عن نفسه. فإن قيل: فكيف سنردّ عدوان إسرائيل، وليس بأيدينا غير الأساليب المشبوهة؟ قلنا: أنتم تحكمون بأنفسكم، وعلى قدر علمكم، ولم تعودوا في الحكم إلى الله، ولا إلى علمه؛ والعودة في الحكم إلى الله، هي العودة إلى إمام في الدين رباني. وهو قد كان يستطيع دلالتكم على ما ينفعكم في الحال، وفي المآل؛ وإن استهنتم بمن يُعلّمهم الله من عنده، فإنكم تكونون مستهينين بعلم ربكم وقدرته نفسه. أما وقد عدتم إلى أنفسكم وإلى عقولكم وأفكاركم، عند تقليدكم لمنظمات قتالية كافرة، فإن الله سيكِلُكُم إليها، وستكون عاقبة أمركم خُسراً، ولو بمعنى جزئي دنيوي. وإن قيل إن هذا القتال هو من أجل الدفاع عن بيت المقدس، قلنا: أولا إن الدفاع عن الشعائر والحرمات، هو أمر واجب؛ ولكن لا ينبغي أن يكون في ذلك هلكة للمسلمين. فقد ورد عنِ ابنِ عمرَ (رضي الله عنهما) قال: "رأيتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يطوفُ بالكعبةِ وهوَ يقولُ: «ما أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! ما أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ: مالُهُ، وَدَمُهُ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهِ إِلا خَيْرًا.»[8]. والكعبة أشرف من بيت المقدس، كما بيّنّا في فصول سابقة؛ وهذا يعني أن جلب الضرر على المسلمين، بدعوى الحفاظ على بيت المقدس، هو مخالف لمقاصد الشريعة. وكلامنا، لا يدل على التفريط فيه؛ بل هو تنبيه إلى المحاذير فحسب... ولنبيّن الآن: لمَ كان الإسلام يعتني بالنباتات والحيوانات، فضلا عن غير المقاتلين من نساء وأطفال؟ فذلك كان، لأن المخلوقات هي مظاهر لأسماء الحق تعالى، والمظاهر تنال مرتبة شرف الظاهر بها؛ لذلك وجب اعتبار هذا الأصل في المعارك. وأما استباحة قتال المقاتلين من الكفّار، فهو استثناء لا قاعدة؛ رخّص الله به للمؤمنين، من أجل دفع الضرر إذا كان متحَقَّقا. وهذا الحكم كان يجدر بالفقهاء أن يميّزوه، بدل أن يتركوا الأمة في هذه الحيرة الكبرى... وهذا يجرنا في ختام هذا الفصل، إلى الكلام عن حكمة مشروعية الجهاد، وعن صنوفه. ولقد سبقنا الفقهاء إلى القول بجهاد الدفع وجهاد الطلب؛ ونحن نخالفهم -كما قدّمنا- ولا نقول إلا بجهاد الدفع. ولننظر الآن في أدلتهم: 1. جهاد الدفع: وله ركنان أساسان: ا. إذا دخل عدو بلاد المسلمين. ب. إذا أسر العدو عددا من المسلمين. وهذان الركنان قد توافرا للفلسطينيّين، ومن هنا وجب عليهم الجهاد للإسرائيليّين. وبما أن إسرائيل لن تزول الآن، فهذا يعني مرابطة الفلسطينيين واستمرار جهادهم إلى يوم الملحمة الكبرى. ولا يتوهم أحد أن إسرائيل زائلة الآن... 2. جهاد الطلب (بحسبهم): ونحن سنبيّن المعنى الصحيح للأدلة بإذن الله: يقول الله تعالى: {وَقَـٰتِلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ كَاۤفَّةً كَمَا یُقَـٰتِلُونَكُمۡ كَاۤفَّةً} [التوبة: 36]، وهذا يجعل قتال المسلمين للمشركين، تابعا لقتال المشركين للمسلمين، لأن كما هنا تفيد الترتيب. والمعنى أنه لولا قتال المشركين لكم، لم يكن قتال منكم لهم. ورغم ورود الألفاظ مطلقة في الآية، فإن المنطق الديني العام، والذي لا يكاد يتبيّنه الفقهاء، يُعطي أن كل فعل من جماعة المؤمنين ينبغي أن يكون بإذن إمامهم؛ وإلا عُدّ لغوا أو معصية... وقول الله تعالى: {قَـٰتِلُوا۟ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَلَا یُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا یَدِینُونَ دِینَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ حَتَّىٰ یُعۡطُوا۟ ٱلۡجِزۡیَةَ عَن یَدٍ وَهُمۡ صَـٰغِرُونَ} [التوبة: 29]؛ أيضا هذا الأمر بالقتال، هو مخصوص بالدولة الإسلامية، تحت إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إمامة أحد الخلفاء الاثني عشر أو إمامة سلطان للمسلمين تكون الخلافة لديه ظاهرة فحسب. وهذا يعني أن السلاطين القطريّين غير معنيّين به، ولا الجماعات القتالية الناشئة في زماننا: لا من أمثال "داعش"، وهي بعيدة جدا عن الدين، ولا من أمثال "حماس"، وهي تجسد الأيديولوجيا الدينية في أجلى صورها. وأما قول الله تعالى: {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُوا۟ ٱلۡمُشۡرِكِینَ حَیۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُوا۟ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٍ فَإِن تَابُوا۟ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّوا۟ سَبِیلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ} [التوبة: 5]: فيقول الطبري في تفسيره عن هذه الآية: [يعني جلّ ثناؤه بقوله: {فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ} فإذا انقضى ومضى وخرج، يقال منه: سلخنا شهر كذا نسلخه سَلْخاً وسُلُوخاً، بمعنى: خرجنا منه؛ ومنه قولهم: شاة مسلوخة، بمعنى: المنزوعة من جلدها المخرجة منه. ويعني بالأشهر الحرم: ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرّم؛ أو إنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرّم وحده، لأن الأذان كان ببراءة يوم الحجّ الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أجلوا الأشهر الحرم كلها، وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى. ولكنه لما كان متصلاً بالشهرين الآخرين قبله الحرامين، وكان هو لهما ثالثا وهي كلها متصل بعضها ببعض، قيل: فإذا انسلخ الأشهر الحرم. ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد، فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداء على رسول الله وعلى أصحابه، أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم {فاقْتُلُوا المـُشْرِكِينَ} يقول: فاقتلوهم {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} يقول: حيث لقيتموهم من الأرض في الحرم وغير الحرم، في الأشهر الحُرم وغير الأشهر الحرم. {وَخُذُوهُمْ} يقول: وائْسروهم {وَاحْصُرُوهُمْ} يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة. {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم كلّ مرصد، يعني: كلّ طريق ومرقب؛ وهو مَفْعَلٌ من قول القائل رصدت فلاناً أرصُده رَصْداً، بمعنى: رقبته. {فإنْ تابُوا} يقول: فإن رجعوا عما نهاهم الله عليه من الشرك به، وجحود نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وأقامُوا الصَّلاةَ} يقول: وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها وأعْطُوا الزَّكاةَ التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها. {فخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} يقول: فدعوهم يتصرّفون في أمصاركم ويدخلون البيت الحرام. {إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لمن تاب من عباده، فأناب إلى طاعته بعد الذي كان عليه من معصيته، ساتر على ذنبه، رحيم به أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته، بعد التوبة. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أُجّلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم. وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.][9]. وكل هذا يعني أن فعل القتال للمشركين كان مقيّدا بأمريْن: - نقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. - ووجودهم في مكة وفي جزيرة العرب. ويؤيد هذا قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَى بِثَلاثَةٍ، فَقالَ (عن واحدة منها): «أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ...»[10]. وهذا لأن جزيرة العرب تحتوي بيت الله فيها؛ وبيت الله محرم دخوله على المشركين. فوقع التحريم بالتبع للجزيرة كلها، تعظيما لحرمات الله؛ ولا يخفى ما في دخول المشركين لبيت الله الحرام من جرأة على الله، ومن مبارزة له؛ إن لم يُراع هذا الحكم فيها (الحرمات)، نزل البلاء الشديد على المسلمين بسببها... وقتال المشركين بإطلاقٍ، مخالف لشريعة الله، لأن الله تعالى يقول لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم فيه زاجرا: {وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَـَٔامَنَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِیعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ یَكُونُوا۟ مُؤۡمِنِینَ} [يونس: 99]، وهذا لأن الكفر والشرك والإيمان قدر يجري على الناس، بحسب ما سبقت به المشيئة الإلهية، قبل خلق الناس وأفعالهم الموجبة للجنة أو للنار. وإن كان الأمر هكذا، فلا يجوز للعبد أن يلوم عبدا مثله على مخالفته في معتقده، بله أن يُعاقبه عليه. وأما الله فله أن يُحاسب عباده على أفعالهم من جهة علمه بنسبة الأفعال لعباده،([11]) قبل خلقهم وبعده. وعلى هذا، فإن الحمقى من الجماعات الإسلامية التي تسمّي نفسها جهادية، يحرم عليها قتال الكافرين والمشركين، وإن هم دخلوا فيه فإنهم سيُحاسبون عليه، إن لم يتجاوز ربهم عنهم. هذا، ولو حوسب أكثر الإسلاميّين على معتقداتهم، لوُجد ضمنها ما هو كفر وما هو شرك. ولولا أن شهادة الإسلام لا ناقض لها عندنا، لحكمنا عليهم بما عندهم. فليتّق الناس الله في أنفسهم، وليلزموا شريعة ربهم، بما هي عليه، لا بما يُفهِمها الفقهاء القاصرون. ولقد أدى هذا القصور الفقهي منذ القرن الأول، إلى وقوع الأمة في بلاء عظيم، نسأل الله أن يرفعه عن قريب سبحانه، فإنه هو الغفور الرحيم. وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلَاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّ الإسْلَامِ، وحِسَابُهُمْ علَى اللَّهِ.»[12]. فالمعنى هو أنه أُذن له عليه السلام، في قتال الكافرين حتى يؤمنوا؛ لا أنه واجب عليه أن يُقاتلهم حيث كانوا. وهذا أولا، لأنه خارج عن طاقة البشر؛ ولو ائتمر النبي بذلك الفعل، وفق ما يدل عليه اللفظ، ما كان ترك القتال يوما واحدا؛ وهو أمر شاق على المؤمنين. وهذا الصنف من النصوص، يحدد الواقع معناه، مما هو معتاد، ومما وقع به فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو مما يدل عليه قول ربّانيّ وارث... ثم إن ما لا يعتبره الفقهاء، وله مدخل كبير في الأحكام، هي مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ربه، وهي: الخلافة العُظمى. ونعني بها أن النبي خليفة عن الله، يتصرف بجميع أسمائه في مملكته. وفعله من هذه المرتبة يُنسب إلى الله، فلا يتعلّق به السؤال، كما أخبر الله تعالى بقوله: {لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ} [الأنبياء: 23]. ومن هذه المرتبة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، أن يُقاتل أو ألا يُقاتل، وأن يقتل أو أن يعفو. وهذه المكانة له بالأصالة، كسائر الأمور، وقد ناب عنه فيها الخلفاء من الرسل، والخلفاء من ورثة أمته. ومن هذا الباب قول الله تعالى لسليمان عليه السلام: {هَـٰذَا عَطَاۤؤُنَا فَٱمۡنُنۡ أَوۡ أَمۡسِكۡ بِغَیۡرِ حِسَابٍ} [ص: 39]. وهذا المعنى من غير شك، هو من توابع الخلافة التي كانت لسليمان بالنيابة؛ وهو فرع عن قول الله تعالى الأعم: {لَا یُسۡـَٔلُ عَمَّا یَفۡعَلُ وَهُمۡ یُسۡـَٔلُونَ}. ومن عرف ما نذكر هنا، عرف من أين يأتي الإذن، وما تكون أحكامه... وأما قول الله تعالى: {وَقَـٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٌ وَیَكُونَ ٱلدِّینُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡا۟ فَلَا عُدۡوَ ٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّـٰلِمِینَ} [البقرة: 193]؛ فهو مشروط كما يظهر. والمعنى أنه إذا كان يُخشى من الكافرين الفتنة على المؤمنين، بترغيب أو بترهيب، وجب قتالهم لدفع الفتنة. ويدخل في هذه الفتنة منع مستضعفيهم من الإسلام بالقوة إن هم راموه. فإن هم سمحوا بالإسلام في بلادهم، وكفوا مكرهم عن المسلمين في بلاد الإسلام؛ فإنه يحرم قتالهم. وعلى كل حال، فإن القاعدة في شريعتنا، هي المسالمة؛ وأما المقاتلة فهي استثناء تحكمه الضرورات الشرعية. فليُعتبر هذا على الدوام!... [1] . إن دلالتنا على العزة الإلهية هنا، هي من باب الدلالة على الأصل الإلهي؛ وأما الفروع التي هي أسباب المنع الذي تقتضيه العزة، فمنه كل ما يتعلّق بالعبد من أسباب، مما يحول دون إدراكه للوحي. |