انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2024/03/13
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (18)
خاتمــــــــــــــــــــــة
بعد هذا التطواف بالقضية الفلسطينية، بالنظر في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، لا يمكننا أن ندعي الإحاطة بكل أمورها؛ ولكنها مُبادَءات للقارئ في جوانب شتى لها، نرجو أن تزيدها وضوحا وترابطا في نظره. ونحن نؤكد على أننا لم نكن نخدم أيديولوجيا بعينها، ولم نبتغ التأثير على الواقع بما يُحرّف إدراكه؛ بل سعينا إلى إبراز الأصول والمبادئ التي تتأسس عليها العلوم التي لامسناها، كالتاريخ، والعلوم السياسية، والشريعة، والفلسفة. كل هذا فعلناه، لأننا كنا نرى أن تناول القضية الفلسطينية، قد تُرك لأصحاب الأيديولوجيات، ولمحترفي السياسة؛ وهو ما لا يخدمها من الناحية العلمية أبدا... ولعل القارئ، سيلاحظ أننا لم ننحز إلى طرف دون الآخر، إلا بما يقتضيه الموقف في الوقت؛ وأننا لم نكن نخشى من إبراز عيوب الصديق، ولا من الإشادة بحسنات العدوّ؛ لأننا على الحياد العلمي المشروط، الذي لا يلتزم به إلا قلة من الكتّاب. كل هذا، لنؤسس لطريقة جديدة في تناول ما يهمّ أمتنا؛ من غير أن نغشّها أو نجاملها، أو نضخم في أعينها الصغائر، أو نصغّر في أعينها العظائم. وهذا، لأننا نرى أن الصدق في تناول مثل هذه المسائل، هو ما ينفعنا جميعا، ولو بعد حين. ولقد كفانا، ما وقع في هذه القضية من تلاعب مقصود، تم التغرير فيه بملايين الناس، وتحريف إدراكهم، لجعلهم ينساقون خلف تفسيرات بعينها؛ لم تكن لتخدم القضية، ولا لتحافظ على سلامتهم. وإن هذا يحدث كثيرا، عندما تكون الأطراف دولا ذات استراتيجيا مخصوصة، تُلاعب دولا أخرى قريبة منها إن لم تكن مثلها في الشأن. وأما الشعوب، فتُقدّم من الطرفيْن المتناحريْن، قرابين في محارق تلك الدول. وهذا، هو ما لا يجوز السكوت عنه البتة في نظرنا!... ولقد دللنا نحن الشعوبَ العربية الإسلامية، إلى أول ما ينبغي الاهتمام به، وهو: ترتيب الأولويات... عندما كنّا نرى من لا يُحسن النظر لنفسه، كيف يتحمس لما يُلقى إليه، من دون تبصّر، فيخسر ما يتعلّق به، من دون أن يُحصّل شيئا يُذكر للقضية الفلسطينية، كما كان يتمنى... ولقد رأينا كيف كانت تهتز دول بعينها تحت تأثير التحريض الخاطئ، ويُتلاعب بمصائر شعوب، هي في أمسّ الحاجة لإتقان مبادئ النظر، قبل أن يُطلب منها التحرّك نحو جهة من الجهات. وما كانت الديماغوجيا الخبيثة ببعيدة عن الساحات العربية، والناس يُقنَعون بجمع الأموال للفلسطينيين، مع أنها في أحيان كثيرة لن تصل إليهم؛ أو يُقنعون بالضغط على دولهم، لاستصدار مواقف مخصوصة منها، وكأن التفريط فيما باليد، قد أصبح جائزا من أجل تحصيل غير المضمون!... والشعوب تكون كالمسحورة، ترى بأعينها شيئا، وتعمل بخلافه؛ لا لسبب، إلا لأنها تُحبّ السير حيث تسمع العزف الذي تستعذبه آذانها... أما النتائج، فرغم أنها سلسلة من الخيبات والهزائم التي يتلو بعضها بعضا، وكأنها تخاف أن تُنسى؛ فهي لا تجعل المعنيّين يعيدون النظر في عناصر المعادلة، ولو مرة، وعلى سبيل التجريب. إن الشعوب العربية المعروفة بضعف إيمانها، تكاد تكون على يقين، فيما يُستحب لها فيه أن تشك!... وكأن الأمر انقلاب في النظر، أُصيب به الناس كما يُصابون بالأمراض المـُعدية، من دون أن يكون لعقولهم دخل بالعدوى المنتشرة. ولقد اعتادت الدول العربية على ما بها من خلل، أن تواجه أعاصير في مناسبات المعارك ضد إسرائيل؛ يُعاد فيها إحياء الماضي بكل انتصاراته وهزائمه، وكأننا نريد أن نقتص لأنفسنا من الأيام التي خذلتنا، من دون أن نُميّز كيف... واعتادت التنظيمات المشبوهة، أن تنتظر هذه الفرص، كما يُنتظر العيد؛ لتوظّفها في العمل على إحياء ما مات منها، أو لتعمل على العودة بأعداد المنخرطين فيها إلى سابق العهد، إن كانوا من الذين تباعدوا عنها. فالأمر حسابات دنيوية معقّدة، واستدراك لما فات من الأغراض لأسباب تخرج عن التحكّم في الغالب، أو يقلّ في الناس من يُحسن تدبيرها في حينها... وهذا، كما وقع لجماعة الإخوان المسلمين المنتشرة في العالم، والتي تكون "حماس" جزءاً منها... نحن لا نشك في أن حماس تعمل لجماعة الإخوان، بأكثر مما تعمل للشعب الفلسطيني، أو تعمل للدين نفسه. لا لأنها تستهين بالدين، أو تستهين بشعبها؛ ولكن لأنها عُبث بعقول أصحابها مدة طويلة، فتغيّرت الأولويات لديها، من دون أن يعي ذلك جلّ أفرادها؛ وهُيِّئت لأفعال بعينها، عندما تسمع أو ترى علامات بعينها؛ كما هو الشأن في الاستجابة الشرطية، في تغييبٍ شبه تام للعقل النقدي الواعي. ومع كل هذا الذي ذكرنا، فإنها كانت ترجو بعملية السابع من أكتوبر، إعادة المنفصلين من أفراد الشعوب، إلى جماعة الإخوان في بلدانهم؛ لتعود الأمور كما كانت قبل سنوات قليلة، ولتتحسن ظروف مفاوضات التنظيم العالمي مع الولايات المتحدة من جديد، عسى أن تُفلح الجماعة في استرداد ما صارت تراه حقا من حقوقها، قد اغتُصب منها... وقد يعجب بعض القرّاء مما نقول، وربما رآه تحاملا منا، على جماعة تجاهد بالنفس والنفيس في سبيل الله. نعم، إن الإخوان المتدثّرين بمسوح الدين لا ينظرون إلى أبعد من كرسي الحكم في كل بلد؛ مستهينين بكل الشعوب، وبكل مكاسبها، عن سوء تقدير وسوء فهم للأمور، أنتجته التربية المحرّفة (الجاهلية). وهي -كما مرت الإشارة- قد انخرطت في مخطّطات النظام العالمي انخراطا تاما، لم يكن لها ما تُساوم عليه الدول الكبرى، إلا الشعوب نفسها ومصالحها. ولكن الله في هذه المرة، قد جعل الناس تتفطن لما كان يُراد بها، وتتراجع إلى الخلف إلى أن تستبين طريقها... ولنعد إلى مسألة الجهاد بالنفس، التي يتعاظمها العوام، لنبيّن حقيقة أمرها، فنقول: إن النفس (بالمعنى الصوفي ذي الأصل القرآني)، تزاحم العبد في اتخاذ القرارات، وتريد أن تكون تلك القرارات، مهما صعُبت، في صالحها في النهاية؛ والعامة من الناس، يُحسنون الظن بأنفسهم، بحيث لا يخطر لهم أنها ربما تكون عميلة لإبليس من دون أن تُعلن. فيسمع المرء إلى رأيها عند النوازل وهو واثق من نصحها، خصوصا إن تأيّدت بآية قرآنية عنده أو بحديث نبوي صحيح؛ فيحكم لها، ويتبع توجيهها، وهو لا يدري العواقب، إلى أن تُسفر الأيام عما في الغيوب منها. ولهذا السبب كان أهل التصوف، يتخذون من مخالفة النفس قاعدة في العمل، ما لم تُفض المخالفة إلى معصية متيقَّنة. وأما هؤلاء الإسلاميّون، فإن نفوسهم تكذبهم، وتُلحقهم بالمجاهدين الأولين، وتمنيهم بنيل الدرجات الموعودة في الوحي، فيتهاوشون ويتنافسون فيما لا يُقطع بصوابه، فينالهم من الضُّر ما لا يكاد يحتمله غيرهم؛ لكنهم يحتملونه، لأن نفوسهم غير معترضة؛ وهي غير معترضة، لأنها لهواها متّبِعة. أما لو كان العمل خالصا لله، فإن النفوس تجد من المشقّة، ما لا يصبر عليه إلا أهل اليقين. فظهر بالبرهنة العقلية الوجدانية الإيمانية، أن الإسلاميين ليسوا مخلصين، ولا هم سينتفعون إن أصابتهم الضراء في سبيل ما يختارون؛ بل ربما لحق بهم الذّمّ على لسان الشريعة، التي لم يعتنوا بها كفاية. فيُحاسبون على شركهم في أعمالهم، وعلى حبهم للوجاهة والرئاسة المحبط للأعمال من الأصل. وإن في حديث النفر الذين يكونون أول من تُسعّر بهم النار، ما يجدر بهم أن يتدبّروه، وأن يتوقفوا عنده، قبل أن يقع المحذور. جاء في بعض هذا الحديث النبوي، قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عمن كان ظاهره يُخبر بأنه في سبيل الله يُجاهد: «... وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيُقالُ لَهُ: فِيمَ قُتِلْتَ؟ فَيَقولُ: أُمِرْتُ بِالْجِهادِ فِي سَبِيلِكَ، فَقاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ! فَيَقُولُ اللَّهُ (من علمه المحيط): كَذَبْتَ! وَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ (اقتداء بربها): كَذَبْتَ! وَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقالَ: "فُلانٌ جَرِيءٌ"، فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ.»[1]؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أن هذا الذي قاتل رياء، يكون ضمن أصناف ثلاثة، هي أول من تُسعّر بهم النار. ولم ينالوا هذا التقديم في العذاب، إلا لأن الله غضب عليهم غضبا أشد من غضبه على سواهم؛ وما ذلك، إلا لأنهم قصدوا بعبادة شرعها سُبحانه لنيل رضاه، رضى غيره. وهذا المعنى يدخل ضمن قول الله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَغۡفِرُ أَن یُشۡرَكَ بِهِۦ وَیَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَ ٰلِكَ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰۤ إِثۡمًا عَظِیمًا} [النساء: 48]. وأما من سيسأل: وكيف يعلم المرء صدق نفسه، عند دخولها في الطاعات؟ فإننا نجيب: بالنور الذي يكشفها، حتى يرى العبد حالها ويعلم مرادها؛ فإما يقدم بعد ذلك، وإما يُحجم. وهذا النور، إما أن يكون العبد عليه في نفسه، فيكون ممن أخبر الله عنه في قوله تعالى: {أَوَمَن كَانَ مَیۡتًا فَأَحۡیَیۡنَـٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورًا یَمۡشِی بِهِۦ فِی ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ لَیۡسَ بِخَارِجٍ مِّنۡهَاۚ} [الأنعام: 122]، ومثل هذا يكون فقيه نفسه؛ وإما أن يكون تابعا لإمام على نور من ربه، يُرشده إلى ما ينفعه عند ربه، ويمنعه مما يضرّه عنده. وأما من كان على حال الإسلاميين، فإنه يركب فكره، فيلحق بمن قال الله فيه: {إِنَّهُۥ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَیۡفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ .} [المدّثر: 18-21]. والنظر العقلي، لا مقدرة له على مطالعة مكنونات النفوس؛ وإنما هو يسير سيرا أفقيا شبيها بسير الأعمى. وهذا الانقطاع الذي وقع فيه الإسلاميون عن النور، قد بدأ منذ القرن الأول، وتفاقم عندما أسس الفقهاء لتديّن مقطوع عن نور النبوة، جعلوه هو الدين، افتراء على الله وكذبا!... ونحن نكاد نجزم، أن حماس، قد تُلوعب بها في هذه المعركة هي أيضا، قبل أن تطمح إلى التلاعب بالشعوب؛ ولم يكن ذلك إلا من إيران وأتباعها في الإقليم. فإيران، قد حرضت حماس على العملية، ووعدت بعدم تركها في الميدان وحدها، مع إمكان توسيع دائرة المعركة لتعمّ الإقليم كله، إن لم يكن العالم جلّه؛ مع ما كان يُرجى من إثارة للشعوب في البلدان العربية خصوصا، بغية إيصال الأنظمة الحاكمة إلى حدّ تكون فيه مناصَرةُ حماس شرطا من أجل الحفاظ على السلام المحلّي. فكان أن تنكرت إيران لربيبتها، ونأت بنفسها عن المعركة، وكأنها مثال العفة والخيرية؛ وأمرت ذراعها في لبنان، بالقيام بمناوشات، تكاد لا تكفي من أجل إخافة العصافير المتلفة لمحاصيل الحقول هناك. ثم أمرت ذراعها الثانية، بالقيام بأعمال قرصنة في بحر اليمن، بدعوى تخفيف الحصار عن شعب غزة المكلوم؛ وكأن العالم لم يعد فيه من المسلمين إلا الروافض الذين نخروا جسم الأمة طيلة قرون، وقتلوا من المسلمين أكثر مما قُتل على أيدي الكافرين الخالصين!... وكيف يغيب هذا المشهد المـُعرِب، عن أنظار شعوب ما عادت تعرف من دينها، إلا أركانا يختلقها الإعلام اختلاقا، عند كل منعطف تاريخي مستجد؛ وعلى رأس هذه الأركان نُصرة القضية الفلسطينية، من دون تمحيص ولا تبيُّن. ولو لم نر مصاديق لِما نقول من حولنا، ما كنّا نظنّ أن أمتنا قد بلغ منها الأمر هذا المبلغ!... رأينا في بلدنا المغرب (وهو أقرب إلينا من غيره) قوما من فلول اليسار المتطرف -الذي لا يعلم الروس الآن أنه أقرب نسبا منهم إلى الاتحاد السوفياتي المندثر، ولسنا نعني إلا أنهم يفقدون الإيمان، رغم أنهم لا يجرؤون على المجاهرة بحقيقتهم وسط شعب مسلم- يقومون قياما مبالغا فيه، وغير مفهوم، بزعم نصرة فلسطين!... ومن أعجب ما سمعنا من أحد اليساريّين، يقوله بين يدي متسلّف سأله عن انتمائه، فأجاب بأنه "يساريّ على سنة الله ورسوله"!... فلم نر المتسلف يُنكر عليه بدعته، ولا طالبه بالدليل عليها؛ فهل يكون هذا من توحيدهم (المتسلفة)، ونحن لا نعلم!... والسؤال الآن، هو: كيف يقوم هؤلاء لنُصرة فلسطين قومة لا قعود بعدها، وعلى أي أساس؟... إن كان الأمر منوطا بمحاربة الاستعمار، فالأرض زاخرة بأراض مغتصبة من أهلها، ومضمومة إلى دول ليست من أصلها؛ ومع ذلك لا نرى لأصحابنا اعتبارا لها كاعتبار أرض فلسطين؛ وكأنه لم يُغتصب من الأرض إلا فلسطين وحدها!... ونحن إلى الآن لا نجد لهؤلاء اليساريين مستندا معتبرا، في مزايداتهم التي أشرنا إليها؛ ولم نر لهم نظيرا في التلاعب بمشاعر العامة، إلا الإسلاميين الذين ما عدنا نعرف منهم إسلاما نجتمع معهم عليه!... وعلى كل حال، فقد آن للشعوب المستغفلة أن تزيح عن أعينها الغشاوة، وأن تعرف صاحب الكلام من كلامه؛ لا أن تتبع ذئابا بشرية، تبيعهم في سوق السياسة العالمية بيعا، من دون أن تراعي فيهم إلاّ ولا ذمّة... لقد شرع بعض أصحابنا في ترجمة هذا الكتاب إلى الإنجليزية، وقد كانت إحدى المترجمات في أوروبا، تعمل على ترجمة كتابنا "مراتب العقل والدين"، من الإنجليزية إلى الفرنسية؛ فلما أُنجزت ترجمة الفصول الأولى من هذا الكتاب إلى الإنجليزية، أُخبرت أنها تريد أن تطلع عليها؛ فاهتبلتها فرصة لأعرف رأيها بصفتها خبيرة. فأُبلِغت أنها رغم إشادتها بالإنصاف المعتمد في الكلام، تذكر أن كثيرين من الشعوب الأوروبية، لن يحتملوا قراءته. ورغم أنها لم تذكر سبب ذلك، إلا أنني خمنت أن مواجهة الناس بالحق في أنفسهم، وبصفاتهم، هي الصارفة لهم عن القراءة؛ وهو ما سيكون حتما عائقا أمام كل ضعيف همة، يريد أن يبقى على أمانيه وإن كانت مفارقة لواقعه. وقد كنت أتصوّر أن للأوروبيين بعض واقعية، تمكّنهم من احتمال كلامنا؛ لكن الظاهر يُنبئ أن هذا الخلل العقلي الذي نجده لدى شعوبنا العربية، قد انتشر في العالم، بسبب التأثير الإعلامي المتفاقم... وعلى الرغم من أن ظاهر هذا الكتاب، يشي بأننا سنتناول المسألة من جانبها السياسي والقانوني وحدهما، فإننا لم نتجاوز من الجوانب، ما رأينا تناوله ضروريا، للإحاطة بالمسألة من كل جهة، تسهيلا لإدراكها كما هي. فعرّجنا مرات كثيرة على الفقه، لنتعرف الأحكام التي وجدناها مـُغفلة، ويُكتفى دونها بما يُقارب إدراك الصبية الصغار؛ مع أن الوضع قد ازداد تركيبا مع السنين، إلى الحد الذي أصبح عقلاء الأمة أنفسهم، لا يكادون يخرجون منه بطائل. ثم أسسنا للكلام من الناحية العقلية الفلسفية، التي تجمعنا مع الشعوب التي لا تشاركنا الدين، لنتبيّن الطريق من هناك، ونعرف الصواب من الخطأ، بعيدا عن توظيفات السياسيين جميعا، من أولئك المغرضين الذين لا يرون الحق إلا في جانبهم؛ وكأنهم هم المعيار في ذلك. ولقد تفشّى هذا الداء في الشعوب، حتى صارت مجموعة من الناس معدودة على رؤوس الأصابع، تقود الجماهير المجمهرة، بأقل جهد إلى حيث تريد!... وإذا ما كان أهل القرون الوسطى، يقبلون ذلك، على نقص كبير في التعليم، وقصور عظيم في التواصل؛ ومع ذلك ظهرت من بينهم شخصيات لها المكانة المعتبرة في تلك العصور المظلمة؛ فعجبنا، هو من أهل زماننا، الذين مع كل هذه الفتوحات التقانية، يعودون من الناحية العقلية إلى أدنى مما كان عليه أهل القرون الوسطى؟!... ونحن نقول هذا، من باب مناظرة المتنطعين من أهل زماننا، لا جهلا بقدر السابقين واللاحقين عبر التاريخ. وهذا، لأننا -بحمد الله- على علم بأننا في هذه الأزمنة، في أشد مراحل تاريخ البشرية انحطاطا؛ رغم ما يُزعم من شيوع التعليم، ورغم تحصيل الناس من تلك العلوم ما ظنوا أنه نافعهم. وإن عدم نفع العلوم لأهل زماننا، يشهد به الواقع الذي نستشهده نحن في كل مرة، فيشهد بالحق الذي جعله الله فيه؛ مع أن أغلب الناس لا يقبلون شهادته، ويرون التعديل عليها ما أمكن، إرضاء لأهوائهم!... وهذه مسألة، لو أتيح لنا أن نتناولها في غير هذا الكتاب، لفعلنا؛ بسبب أهميتها في علم المنهجيات. وعلى كل حال، فإن المعرضين عن الواقع، إنما يُفضلون العيش في عالم موازٍ من الأوهام؛ وهذا ما يُضعفهم لا محالة. ولولا أن الضعف سيبلغ منهم مبلغا غير مسبوق، ما كانوا سيقعون فرائس للدجال بسهولة. وليتأمل القارئ كلامنا، لعله يخرج منه بما ينفعه!... ونرجو لمن طالع هذا الكتاب، أن لا يُسيء بنا الظن، إلى الحد الذي قد يتهمنا فيه بمناصرة إسرائيل، أو بالعمل لها، لأننا ما قصدنا إلى ذلك؛ وما زدنا على أن قابلنا شعوبنا العربية بها، ليقارنوا أنفسهم إليها. وذلك، لأننا قد رأيناهم بالغوا في الحطّ منها، وبالغوا في الرفع من شأنهم؛ بغير دليل ولا برهان يشهد لهم. فإن كانوا يفعلون ذلك، لأنهم يرون أنفسهم على الدين الحق، فينبغي أن ينظروا بأعينهم إلى تفريطهم في دينهم في بلدانهم من الناحيتيْن: الفردية والجماعية؛ ثم ليُخبرونا: هل هم حقا نماذج إسلامية سليمة؟... أم إن الأمر له مستند آخر غاب عنا؟... بل إن اهتمام بعض اليهود بدينهم -على بطلانه- هو أشد من اهتمام جل المسلمين بإسلامهم؛ فكيف يزعمون بعد هذا أنهم أفضل من كل وجه؟!... وأما إن كانوا يرون أنفسهم كذلك، من جهة العرق، فإنهم سيقعون في العنصرية التي نُنكرها جميعا على الصهاينة؛ والإسلام قد علّمنا أننا كلنا ننتسب إلى آدم، وآدم من تراب!... فكيف يترفّع التراب على التراب، مع بقاء الزعم بأن المترفع على الدين الحق!... ولقد ذكرنا قبلا، أن الإعلام الشيطاني قد زاد من تحريف الدين، وجعل له أركانا وأصولا غير التي كانت. ولننظر إلى مقدار علم المسلمين اليوم بمعاني "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، التي هي الركن الأول من دينهم؛ فهل يعلمون أنها ينبغي أن تكون قائدتهم في كل أعمالهم القلبية والبدنية؟ نحن ما رأينا ذلك!... بينما نراهم يجعلون الآن مناصرة فلسطين الركن الأول في دينهم، حتى صرنا نفهم منهم: من ناصر فلسطين دخل الجنة، وإن كان كافرا، ومن لم يناصرها دخل النار، وإن كان مؤمنا!... فمن أين جاءوا بهذه الأحكام؟!... نعم، إن البعض قد يظن أن بكلامنا بعض المبالغة؛ لكنه غير بعيد كثيرا عن الواقع... ثم، هل نُصرة فلسطين هي نُصرة الفلسطينيين أنفسهم دائما؟ ومتى ينبغي التفريق؟... ثم، إن كان الفلسطينيون في هذا البلاء العظيم، ومع ذلك يتفرقون أشياعا وأشتاتا؛ ألا نفهم من حالهم أن شطرهم -على الأقل- ليس همه لا فلسطين ولا القدس!... ألا يكون بعضهم يسعون إلى تحصيل دنيا فانية، ببيع فلسطين وبيت المقدس في "المزاد العلني" الخفيّ؟!... فإن ثبت بعضٌ مما نُشير إليه، أفلا يكون أول عمل يُباشَر من قِبل عقلاء الأمة، هو توحيد الصف الفلسطيني على الدين الحق؟... ولو افترضنا أن فلسطين استقلت، وأن اليهود أصبحوا أقلية فيها؛ وافترضنا بقاء الفلسطينيين على ما هم عليه من انحرافات عقدية وعملية؛ فهل ستكون هذه النتيجة، هي ما كنا نسعى إليه؟ لا نظن أن كثيرين سيوافقون على هذا!... لسبب بسيط، وهو أننا لن نضمن أن تكون دولة فلسطين حينها غير ظالمة، وأول من سيكتوي بنارها حينئذ الشعب الفلسطيني نفسه. نحن لا نخاف أن نقول من باب التحذير: حال أحسن من حال!... والمغامرة في البحر بغير ربّان خبير، قد تُفضي إلى الغرق!... وقد يكون شطر من الفلسطينيين اليوم، وهم على جهاد مستمر محسوب، خير منهم إذا فُتحت عليهم الدنيا، ونسوا كثيرا مما ذُكّروا به. وهنا ينبغي أن نبيّن أصلا في الدين، يعمل عليه أهل اليقين. وعندما نحصر الكلام في أهل اليقين، فهذا يعني أننا لا نكلّف الناس ما لا يُطيقون؛ ولكن نريد للناس أن يتبينوا بعض أحكام الدين التي لا يعتني بها الفقهاء المترسمون فحسب. فعندما يكون العبد من أهل اليقين، ويقيمه الله في حال سيء بالنظر إلى المعايير العامية؛ كأن يجعله فقيرا أو يجعله مريضا ([2])؛ فهل عليه أن يسأل الله تبديله، كما يفعل الناس من غير توانٍ؟ أم يسكن تحته، ويتأدب بالآداب اللائقة به، إلى أن يبدله الله من عنده؟... نحن لا نشك في أن بعض الفقهاء سيُسارعون إلى الاستشهاد بأدعية الأنبياء عليهم السلام، ليردوا بها علينا؛ وهم لم يُميّزوا بين معاملة الله العامة، والتأسي بالأنبياء عليهم السلام. وحتى نسهّل الأمر عليهم نورد قول الله تعالى: {وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـًٔا وَهُوَ خَیۡرٌ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [البقرة: 216]. ولنسأل صاحب الحال هنا إن كان حاله سيئا في الظاهر: هل أنت على يقين، بأن حالك يضرّك؟ فإن أجاب إيمانا: لا؛ قلنا له: وهل يعلم الله الأفضل لك؟ فإن أجاب إيمانا: بالقطع؛ قلنا له عندئذ: فلمَ لم تكتف بعلم الله وهو الأعلم، وعُدت إلى علمك المدخول وأنت تعلم؟!... ويقول الله تعالى أيضا، لمن كان يُعامل الله بالظنّ: {قُلۡ أَتُعَلِّمُونَ ٱللَّهَ بِدِینِكُمۡ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ} [الحجرات: 16]؛ والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الذين يشهدون لأنفسهم بالإيمان، ويشهدون أنهم موافقون للأحكام: هل ينتظر الله منكم (تعالى) أن تخبروه بأحوالكم؟ أم هو يعلمها ويعلم تديّنكم من علمه المحيط الذي يعلم به السماوات والأرض وما فيهما، وهو بكل شيء عليم؟ فما أنتم في النهاية، إلا تفاصيل صغيرة من تفاصيل السماوات والأرض. ألم يقل الله تعالى: {لَخَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ أَكۡبَرُ مِنۡ خَلۡقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ} [غافر: 57]... فمن كان موقنا، فإنه سيكتفي بعلم الله في كل أموره، مع عدم القول بامتناع سؤال التبديل، إن أذن الله في ذلك. وهنا نعود إلى الأنبياء عليهم السلام، لنقول: لم يكن دعاء أحد منهم إلا عن إذن إلهي مخصوص!... فكيف بعد هذا، يقيس عوام المؤمنين أحوال أنفسهم عليهم؟!... وأين الإسلاميون الذين فتنوا المسلمين في كل بقاع الأرض، من هذه الأحكام القرآنية؟ أم إنهم سيدّعون لأنفسهم قرآنا خاصا بهم، كما فعلت الروافض؟!... وعلى كل، فإننا نظن أن هذا القدر من التنبيه يكفي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر... وأما ما يُنتظر من المسلمين الآن حقيقة، فهو الاستعداد لفتنة الدجال، التي تتربص بهم. وإن هذه الغفلة التي هم عليها في زماننا، لا تدل إلا على أنهم سيتبعونه في غالبيتهم إذا ظهر، مسرعين مـُهطعين. فإن كان هذا هو ما سيؤولون إليه عن قريب، فالأجدر بهم إعادة النظر في تدينهم كله، وعرضه على القرآن والسنة أمرا أمرا؛ وإلا فإنهم يكونون متلاعبين بمصائرهم. أما إن كان ضعف الإيمان قد بلغ منهم مبلغا، صاروا يُشكّكون معه في ظهور الدجال ذاته، فهنا نعيدهم إلى اليهود والنصارى، الذين هم رغم كفرهم، أفضل منهم حالا. ونحن لم نثبت وجود من يُشكّك في الدجال، إلا بعد أن رأيناهم وسمعناهم؛ وهم يعدون أنفسهم من خواص المؤمنين؛ بل من خواص العلماء. أفلا ينبغي تمحيص كل هذا، قبل أن يحلّ البلاء!... فإن وافقَنا البعض على استنتاجنا، فكيف سيعملون على تمحيص شؤونهم، وهم على هذا الخلط الكبير في المعايير؟... ولقد سمعنا في هذه الأيام، بانعقاد الاجتماع السادس، لمن يُسمون أنفسهم "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، في قطر، ما بين 6 و10 يناير من سنة 2024م؛ وذلك من أجل انتخاب رئيس للاتحاد، ومن أجل النظر في أحوال الأمة بحسب الزعم. ونحن لا نرى ذلك الاجتماع، إلا مشابها لما عهدته دار الندوة في قريش، بحضور إبليس. والسؤال هنا لـ "العلماء" المشاركين: لو حضر إبليس مجلسكم، هل كنتم تبصرونه وتعرفونه؟ فإن شككتم في الإجابة أو ترددتم، فاعلموا أنكم ترتقون مكانة ليست لكم!... وأما السؤال الآخر: فما هو دليلكم من الشريعة، على جواز العمل بمبدأ الانتخابات، كما هي عندكم؟... وأما آخر سؤال لكم هنا، فهو: مَن أناط بكم النظر في شؤون الأمة وأنتم على سوء بادٍ؟... فنحن نعلم من قديم الزمان، أن شهادة المرء لنفسه، وشهادة القوم لأنفسهم، لم يكن يقبلها أحد؛ وكانت تُعدّ من السّفَه. فإن قلتم هذه مهمة العلماء، التي قال الله فيها: {وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةً فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٍ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةٌ لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ} [التوبة: 122]، وقال فيها سبحانه أيضا (من باب مفهوم المخالفة): {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ لَتُبَیِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡا۟ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِیلًاۖ فَبِئۡسَ مَا یَشۡتَرُونَ} [آل عمران: 187]؛ فاسمعوا من هذا العُبيد، لعلكم ترشدون: 1. أنتم لستم علماء بالمعنى القرآني، وإنما تراميتم -كما ترامى علماء السوء من أسلافكم- على الصفة، فنازعتم أهلها. وبمنازعتكم لهم، تكونون ممن قال الله فيهم: {إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَشَاۤقُّوا۟ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ لَن یَضُرُّوا۟ ٱللَّهَ شَیۡـًٔا وَسَیُحۡبِطُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ} [محمد: 32]. ونحن نحمل لفظ "كفروا" في حقكم، على معنى: حجبوا وستروا؛ لا على معنى الكفر الأكبر. ولكن النتيجة هي هي: مشاقّة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه هو من يأذن لمن يقوم بالمهام الجسام، التي تتعلّق بالأمة كافة؛ ولكنكم أنتم تأخذونها مغالبة وبالانتخاب، وبأمر من جهات محلية ودولية، ليس لكم معها إلا السمع والطاعة. لهذا، نحن نراكم بحسب كلام ربنا: صادّين عن سبيل الله، من غير شبهة. ولو عدتم إلى أحاديث آخر الزمان، وبحثتم عن صفتكم، لوجدتموها جلية. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَماءِ؛ حَتَّى إِذا لَمْ يَتْرُكْ عالِمًا، اِتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.»[3]. فأنتم الرؤوس الجهال، إن لم تكونوا تعلمون!... وأما إن كنتم تتوهمون أنكم تعيشون في أول الزمان أو في وسطه، فتلك الطامة الكبرى؛ لأنكم ستكونون مجانين، لا تعقلون شيئا من واقعكم. لهذا، فإن ما يصدق عليكم (بسبب تأسّيكم بأحبار أهل الكتاب، وقد نُهيتم عن ذلك)، هو قول الله تعالى: {مَثَلُ ٱلَّذِینَ حُمِّلُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ یَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ یَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ} [الجمعة: 5]. 2. نحن نعلم أنه لا يهمكم أمر المسلمين، وإنما يهمكم أمر الإخوان المسلمين، وفي طليعتهم حماس التي بدأت تجني الثمار المرة، بسبب ما اقترفت. وكل إنشائكم في بيانكم، بغرض دعوة الأمة إلى ما لا برهان لها فيه، هو من التلبيس الذي ألفتموه. ويكفينا نحن فيكم، بحسب ما ورد في بيانكم، الذي كان يجدر بكم تسميته "تعمية"؛ جمعُكم في عبارة واحدة بين ما هو إسلامي وما هو إنساني (دجالي)، وهو قولكم: "يدعو الاتحاد المسلمين كافّة إلى أن يتمسّكوا بالقيم الإسلامية والإنسانية في التعامل مع سائر الأمم والشعوب والدول."؛ ولقد كان يكفي، وأنتم تزعمون أنكم علماء الإسلام، أن تدعوا إلى التمسك بالقيم الإسلامية؛ ألم تكن تكفيكم؟... أم حسبتم حساب أعداء الله، وخفتم أن لا يرضوا عنكم؟!... هذا، إن كنتم تعلمون من قيم الإسلام شيئا معتبرا؛ لأن أحوالكم تدل على العكس. وعلى كل حال، فإنّ تناوُل أقوالكم وأفعالكم، لم يأت ضمن كتابنا إلا عَرَضا، ومن أجل التنبيه على خطورة ما تدعون إليه؛ إبراء لذمتنا؛ وإلا فإن الله فعّال لما يُريد، ونحن نسلّم له سبحانه في كل ما يريد... ولنعد إلى ما كنا بصدده من دلالة المسلمين على ضرورة تمحيص شؤونهم، لنقول لهم: إن أول من ينبغي أن تتخلصوا من هيمنتهم: الفقهاء الخادمون لأصحاب النفوذ، وأما الدين فحظه منهم المتاجرة به. وهذا يعني أن تعودوا إلى الفقهاء الصادقين، رغم قلتهم؛ والذين لا يحتفي بهم إعلام، ولا يُبسط لهم سجّاد؛ الذين يعيشون على القناعة، ولا يذلّون إلا لله. تحرّوهم في سواد الأمة، فإنهم هناك!... إن ما ندعو إليه من خلال هذا الكتاب كله، هو إخلاص الدين لله؛ عملا بقول الله تعالى: {قُلۡ إِنِّیۤ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ مُخۡلِصًا لَّهُ ٱلدِّینَ} [الزمر: 11]. وهذا، لأن أهل الدين كثيرون؛ والمخلصون فيه قلة. وإن أكثر ما خالط دين الناس في زماننا، الفكر؛ ومن أخص الفكرِ الفكرُ السياسي الذي نشأ عنه ما يُسمّى الحقوق. وقد استُدرج العامة من هذه الجهة، وأوهِموا أن فلسفة الحقوق أصيلة، وهي غير ذلك. ولسنا هنا، نُنكر ما حبا الله عبادَه من حقوق، والتي هي الأصل المعتبر في المسألة؛ ولكن نُنكر تلاعب الشياطين بعقول الضعفاء، عندما يوهمونهم أنهم حريصون على ما ينفعهم. ولقد تجاوز هذا الاستحواذ العقلي ما يتعلق بالأفراد، إلى ما أصبح من خصائص العقل الجمعي العربي. وعلى سبيل التنبيه لا التفصيل، نذكر ما يُعبّر عنه المغفّلون بالحقوق الفردية، التي صارت هادمة للدين وللمجتمع؛ حتى عاد السكوت عليها من أكبر المحرمات، وتوجّبت على الناس المسارعة، لا أن ينتظروا حتى تعمل فيهم هذه الدعوة الشيطانية عملها، ليُعلنوا رفضهم لها؛ فإنه يكون قد فات الأوان. وإن الحرص على التوبة، من شروطه المسارعة؛ لأن العبد لا يدري متى يُباغته الموت!... ثم، لننبه إلى ما يُسمّى القانون الدولي، من الجهة الجمعية، لندل على مدى إضراره بمجتمعاتنا، وعلى حتمية إبلاغه إيانا إلى الكفر الأكبر، عاجلا أم آجلا، إن نحن وافقنا أهله وانصعنا لرغباتهم. وإن نحن عدنا إلى القضية الفلسطينية، وإلى القرارات المتعاقبة الصادرة عن مجلس الأمن، مع تنكّر إسرائيل لها كلها، من غير أن يتململ "المجتمع الدولي" ولو قليلا، من باب رفع العتب على الأقل؛ لعلمنا علم اليقين، أن الأمر تجاوز طور المخادعة، ليصل إلى حد الاستهتار والاستهزاء بأمة لا ينبغي الاستهزاء بها. وليس اللوم بالدرجة الأولى، على المستهزئين؛ ولكن على من يقبلون أن يصيروا عُرضة له، على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي قاطبة... ولقد انتهى الأمر بعد انتهاك إسرائيل لجميع القوانين، عند ردها على عملية السابع من أكتوبر التي نفذتها حماس، بتلك الهمجية النادرة؛ إلى أن ترفع دولة جنوب أفريقيا دعوى بها، أمام محكمة العدل الدولية، في مبادرة غير مفهومة على التمام؛ وكأنها تُزايد على الدول العربية، التي هي المعنية الأولى؛ أو كأنها تبغي توظيف القضية الفلسطينية، هي الأخرى، عندما رأت أن جميع الأطراف قد وظّفتها إلى أقصى غاية. أما ما يُقال من أن دولة جنوب أفريقيا، قد جرّبت الفصل العنصري، الذي يُعاني منه الآن الفلسطينيون، مع نظام البيض السابق؛ فلا نراه يفي القضية الفلسطينية حقها، وهي التي تتجاوز كل معنى مخصوص، من المعاني التي تعرفها العلوم السياسية والقانونية. ونحن عندما تناولنا هذه القضية في هذا الكتاب من جوانب متعلقة بالغيب وبالشهادة، وبالدين وبالأرض المقدّسة؛ وعندما أومأنا إلى البعد الكوني للقضية؛ فإنما كنا نريد من القارئ أن يرتفع بنظره إلى حيث مكانة بيت المقدس، فوق جدليات الاحتلال والاستقلال، والظلم والعدل بالمعنى القانوني، والإنساني وغير الإنساني بالمعنى الوضعي؛ إلى ما هو خلاصة ما هي عليه البشرية جمعاء من جهة حقيقتها، وفي مستوى ما تطمح إليه البشرية جمعاء من خير... وقد وقع في فخ التقليل من قيمة بيت المقدس، كل من استمعنا إليه من "علماء" الدين، ومن رجال السياسة، ومن الحقوقيين؛ ولقد كان استغفالهم، من الأبواب التي دللنا عليها، مما هو مـُلحق بالفكر والفلسفة عموما؛ عندما لم يكن أولئك المتكلمون، من أهل المكانة العليا فيهما. بل إننا نجزم، أن معرفة مكانة بيت المقدس، وبالتالي معرفة ما يتوجّب على المسلمين نحوه، لن يتمكن منها إلا الربانيون الذين يكون الله معلّمَهم وهاديَهم. وعندما غاب هذا المعنى عن علماء الدين، وصاروا يستعيرون من أهل السياسة والقانون عباراتهم، خفيت المكانة وغابت الدلالات. ومع هذا السوء كله، صرنا نُفضل ألا يتكلم عن القضية الفلسطينية كل أحد؛ حتى لا ينزل بها إلى ما تعرفه العامة عن الاحتلال، وعن سوء معاملة المحتل للشعوب المحلّيّة!... أين هذا، مما هو من شؤون بيت المقدس؟!... وأين هو من معنى التقديس؟!... وكيف يعرف القداسةَ أقوامٌ تدنست قلوبهم بالمعاصي، وظهرت على ظواهرهم بعد بواطنهم علامات البُعد عن الحق؟!... إن بقاء بيت المقدس في هذه الوضعية الحاطّة من قدر الأمة في عمومها، وبعد أن دامت عقودا طويلة، تسير نحو اكتمال القرن من الزمان؛ لن يقوم للتعديل منه سفهاء الناس، ولا أراذلهم؛ من أولئك الذين يحسبون أنهم على شيء، عندما يتكلمون عن الحقوق والقوانين بالمعاني الدجّاليّة؛ بل يتطلب الأمر جيلا ربانيا، يؤمّه ربانيون، يتقربون إلى الله بتخليص الأماكن المقدّسة من الدناسات المعنوية قبل الحسّيّة؛ وما أكثرها!... لتنجلي الغُمّة عن البشرية كلها، ويعمّ سلام الإسلام الأرض ومن عليها، في خضوع لله وذلة لعظمته، بعد أن كاد الناس ينسَوْن أن لهم ربّا يوشكون أن يعودوا إليه قهرا، ليجزيهم بحسب أعمالهم بما هو داخل في المنطق الديني، الذي غاب إلى حدّ ما، حتى عند المتديّنين. إن الأمة الإسلامية مقبلة على منعطف تاريخي، تخرج به من جهة التربية أولا، من مـُخلّفات الانقلاب الكبير الذي أحدثه معاوية في الدين؛ ليعود الناس إلى صافي العقائد وإلى صحيح المعاملات، جماعات جماعات، وتحت إمامة من يخلفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مجال التزكية، قبل حلول أوان الخلافة التي هي النظام السياسي المـُظِل للمسلمين، في زمن المهدي عليه السلام. لذلك، فلا يُتعب أحدٌ نفسه الآن، في "مقاومة" إسرائيل، بالمعنى المعهود عند المـتأخرين؛ لأن ذلك كله بالمقارنة إلى ما سيلحقه، لا يُعدّ إلا كلعب الأطفال بجنب جِدّ حكماء الكهول... وفي الختام، نسأل الله أن يتقبل منا هذا العمل الذي نبتغي به رضوانه سبحانه، وأن يجعل فيه النفع للمسلمين وللناس أجمعين، وأن يكتبنا سبحانه من أنصار المهدي بالكلمة الموطّئة لمقدَمه الشريف. وصلى الله وسلم على خاتم رسله، سيدنا محمد نور الأنوار، وسيد المصطفيْن والأخيار، وعلى آله الأفذاذ المشرّفين الأطهار، وصحابته الأكارم الذين يشهد بفضلهم الليل والنهار. والحمد لله رب العالمين... وفُرغ منه فجر يوم الجمعة: 30 جمادى الآخرة 1445 هـ/ الموافق لـ: 12 يناير 2024م [1] .أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه. |