انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2023/10/29
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (5)
الفصل الرابع: بين عقلانية وأخرى
إن الناس رغم اختلاف آرائهم، لا يشك الواحد منهم أنه يعمل بعقلانية في أموره؛ سواء وافق بالعمل ما يُمليه عليه عقله، أم خالفه لسبب من الأسباب. وهذه العقلانية ليست هي في الحقيقة "العقلانية" المجمع عليها بالاصطلاح، لأن هذه تكون وفق معايير عقلية صارمة، قلما يضبطها الناس، وقلما يُطيقون الاحتكام إليها؛ ولكنها عقلانية تضيق حتى تُصبح في النهاية عقلانية شخصية... ولنبدأ بالكلام عن العقلانية المعتبرة، لنعرف ما ينشأ عنها؛ ولنلاحظ أولا أن العقل ينبغي عليه أن يكون قادرا على الانفصال عن نفسه إدراكيا، حتى يتمكّن من تقييم نفسه ومعرفة مدى عقلانيته بالاحتكام إلى المعايير العامة، وهذا بعد أن يضبطها؛ وإلا فإنه لن يتمكن من ذلك التقييم، وسيحكم لنفسه كما يحكم جلّ الناس، وسيخرج عن دائرة العقلاء حقيقة. وهذا الانفصال الذي ذكرنا، أمر يكاد لا يخطر على بال المفكرين؛ وإن خطر، فإنه لا يكاد ينضبط. والناس قد اعتادوا عند دراستهم للأفكار، أن ينظروا بعقولهم في مختلفها، ليقارنوا فيما بينها، وبالتالي ليخرجوا بمستخلَصات يظنون أنه يمكنهم الاعتماد عليها بحسب ما يُغلّبون. وأما إن طالبنا العقل بالنظر إلى نفسه، ولو ليقارن ما هو عليه بما استخلصه ضمن عملية المقارنة سالفة الذكر، فإنه لن يتمكن من ذلك، كما لا يتمكن الشخص من النظر بعينه إلى وجهه إلا بواسطة المرآة أو ما شابهها. وإن أقررنا بأن العقل لا يتمكن من النظر إلى نفسه، فإن هذا سيُبقيه في نظره مجهولا؛ وإن بقي مجهولا ولو بقدر ما، فإنه لن يستطيع القطع بالقول في المسائل بسهولة. وهنا يُحتاج في الغالب إلى الناتج العقلي المشترك، الذي يُعين العقل الناظر على تبيّن بعض معالم المسائل التي قد تستعصي عليه بنظره وحده. ومن علم ما نقول، فإن ثقته بعقله ستتناقص، بقدر علمه ذاك؛ وهو ما لا يسرّ الناس في الغالب، ما دامت المـُقرَّرات العقلية هي التي تعطي العاقل الحد الأدنى من الطمأنينة اللازمة لعيشه... ولا شك أننا سنلاحظ بعد الذي ذكرنا، أن أقل الناس تمحيصا لآرائهم هم: العوام. فهم وإن كانوا كغيرهم محتاجين إلى الطمأنينة التي يُعطيها العقل لصاحبه (نفسه) حتى يتمكنوا من أداء وظائفهم الاجتماعية بسلاسة، فهم لا يتمكنون من تمحيص عملية التعقُّل لديهم لقصورهم. فلا يجدون أمامهم من مخرج إلا العقل الجمعي الذي يكون عليه المجتمع كله، والذي يتلقون مبادئه عن طريق التربية والتلقين بدرجة أساس، ومن دون اشتغال بالنقد المعتبر. وانخراط العقل الفردي داخل العقل الجمعي، يرفع عن الناس ثقل الحقائق التي تخالف ما هم عليه من تواطؤ، ويعطيهم شعورا بالحماية من الأخطار "المعرفية" داخل مجتمعاتهم، والتي في رأسها الحيرة. وهذا هو السبب الأكبر في استكانة الأفراد إلى الحياة الاجتماعية، مع تحمّل تبعات ذلك مما قد يخالف النوازع الفردية ويكبحها. وكأن الأمر اتفاق بين الفرد ومجتمعه وصفقة تتم بينهما، ليأخذ كل طرف بحسبها حاجته منها... مما سبق، يتضح أننا عندما نخاطب العقول، فإننا نخاطب في الغالب العقول الجمعية لا الفردية؛ لأن العقول الفردية المعتبرة، هي العقول المجرّدة، والتي نعني بها هنا المجرّدة عن الأهواء وعن الدين، مع القدرة على التفكير السليم؛ وهي نادرة بسبب علوّ مرتبتها. ولسنا نعني بها إلا العقول الفلسفية في أصالتها، لا كل ما يُطلق الدارسون عليه صفة فيلسوف. وأما العقول الفردية، فإنها وإن سمعت الخطاب بسمعها الخاص، فإنها -ومن دون أن تُدرك- تسمع بواسطة العقل الجمعي، حماية لنفسها من الهلاك المحذور. ولا بأس هنا من التذكير بأن العقل المجرّد عقل مغامر، بخلاف العقل العامي الجبان؛ وهو (أي العقل المجرد) لا يقطع بالخروج سالما، من أي عملية عقلية يدخلها. ونعني من هذا، أن كثيرا ممن جُنّوا، قد وقع لهم ذلك بالدخول في الأمور، مع عدم التمكن من الخروج بطائل؛ وأن كثيرا أيضا ممن عارضوا مجتمعاتهم فيما هي عليه من ثوابت ثقافية (رغم حرصهم على الموافقة مبدئيا، طلبا للراحة الناتجة عن الانسجام)، قد فعلوا ذلك عند انهزامهم أمام ثقافات أخرى غلبتهم لسبب من الأسباب لم يكونوا يحسبون حسابه، أو لدخول شبهة عليهم لم يتبيّنوها. وإن تجرد العقل المجرّد، يحرمه من كثير من الطمأنينة الخادعة، ويجعله بحّاثا باستمرار على ما يعطيه اليقين، وإن كان هذا الطريق لا يعطيه. فهو في النهاية عقل قلق، قد يبلغ به القلق درجة الاضطراب؛ ولكن يُحسب له أنه حاول أن يعرف الأمور على حقيقتها، حين تخفّى العقل العامي خلف اليقينيات المجتمعية الموهومة... فإن عدنا إلى طبقة المفكّرين، والتي هي أعلى من طبقة العوام، وأدنى من طبقة الفلاسفة، فإننا سنجدهم مخالفين في كثير من الأمور لعموم مجتمعاتهم، ونجدهم ينفرون من التقليد الأعمى الذي تقع فيه العامة، ويأنفون منه؛ ولكنهم مع ذلك، لا يبلغون مرتبة العقول المجرّدة. وهذا يعني أن المفكرين لا يسلمون من الأهواء المحرّفة لعملية التفكر، وقد يلجأون في أحيان كثيرة إلى الاحتيال على أنفسهم، حتى يصلوا في النهاية إلى ما رجّحوه بالهوى عند الانطلاق. وهذا يعني أن إتقان التفكّر جزئيا، قد يعود على صاحبه بالهلاك معرفيا، ما دام لا ينصح نفسه بما ينفعه في كل أموره. وأغلب القيادات المجتمعية، يكونون من هذه الفئة؛ لأن أهواءهم توافق أهواء من هم أقل منهم من حيث المرتبة العقلية، فيجتمعون معهم على ذلك. وقد يجهل التابع والمتبوع هنا السبب الجامع بينهما، ويظنون أن ذلك لإقناع من جانب القادة، أو لاقتناع من جانب الأتباع، وأن الأمر كان عائدا بالأساس إلى العقل من الطرفيْن؛ وهو وهم فحسب. وهذا يعني أن الناس لو أوتوا من المقدرة العقلية ما به يتمكنون من تمحيص آرائهم، لقل اجتماعهم، وكثر اختلافهم؛ وهذا، لأن لكل عقل نظرته الخاصة إلى الأمور في الحقيقة؛ مما يجعل طبقة المفكرين وطبقة العوام، تقلّ احتمالات التقائهم على ما يُعطيه العقل وحده. وهذه مسألة معقّدة، لا خبر لهذه الطبقة عنها، بل قد يظنون أن اتباع العامة لهم، هو من علامات إمامتهم في الفكر، وهو ما لا يصح. وحتى إن سمعت هذه الطبقة بما ذكرنا، فإنها لن تستطيع تصور حقيقة الصلة بينها وبين التي تحتها؛ لذلك فهي تتجاوزه وكأنه من غوامض النظريات التي يصعب تمحيصها. وقد يوجد من المفكّرين من يُبدي قدرة على التحليل العقلي الصرف، ولكنه سرعان ما ينهزم في مجال العمل الواقعي. ولو عدنا إلى بعض المقولات الفلسفية التي أراد أصحابها أن يثبتوا لكل عقل تصوره الخاص للأمور، أو التي أرادوا منها أن يُثبتوا للعقل إنتاج تلك الصورة المخصوصة، في عبارات بسيطة تُشير إلى حقيقة كبرى تؤكد أن الأمور المنوطة بالعقول لا اشتراك فيها، وأن الاشتراك يقع في الألفاظ الدالة على معانٍ مخصوصة فحسب، هي كالمعاني الكلية بالنظر إلى المعاني الجزئية المتعلّقة بكل عقل على حدة، لوجدناها غير ممحّصة وإن أوهمت ألفاظها بأنها موافقة لما نقوله. ومن هذه المقولات ما تعلّق بالعالم وإدراكه، ومنها ما تعلّق بالله؛ حتى إن من الفلاسفة من قال بخلق العقل لله؛ وهو قول بعيد، تعالى الله عما يقولون علُوّا كبيرا. وهذه النتيجة التي خلصنا إليها من عدم اتفاق العقول، وإن كنّا نخالف في تفاصيلها الفلاسفة، كفيلة بأن تجعل كل واحد يتريّث فيما يرى، فلعله يكون قريبا من ذاك الذي يرى خلافه، أو لعل المخالف يكون على أصوب من رأيه هو، وهو لا يدري... وأما العقول الربّانية، فإنها عقول غير مصنّفة لدى الدارسين، لمخالفتها لكل العقول التي أسبقنا الكلام عنها، ولعدم دخولها في دائرة إدراكها. وهذا يعني أن تلك العقول على ما بينها من تفاوت كبير، لديها من المشتركات في المقابل ما يجعل بعضها يعرف بعضا ولو إجمالا؛ أما العقول الربانية فلا يتمكن الناس من إدراك خصوصيتها التي بها يقع الامتياز؛ وأما ما هو مشترك عام كالحس، فإن الأمر فيما يعود إليه: قد يبدو مشتركا من وجه، وقد يبدو غير مشترك إن نظرنا إلى ما يفهمه الربّانيّون منه. وعلى كل حال، فالاختلاف أقوى احتمالا من الاشتراك في هذا المجال الأقرب، فما الظن بالإيغال في العقلانية، أو بتجاوزها إلى ما فوقها. وهكذا فلن يبقى للناس مع الربانيين من سبيل إلا الإيمان والتصديق، وهما أمران خارجان عن إرادة العقول. ومسألة التصديق لو تفطّن إليها الناس، لجعلتهم يتوقفون كثيرا قبل الانتصار لآرائهم، لأنها تُشبه المسلّمات بالنظر إلى البرهنة. ونعني من هذا، لو أن المبرهنين، نظروا في مـُسلّماتهم، لعلموا أن كل عملهم العقلي لا عبرة به، ما دام لا يتأسس من البداية على ما هو من نتاج العقل. أما وقد كانت البداية من المسلّمات، فإن كل شيء بعدها يلحق بها، وينسِف الفكر من أصله. وفي هذا إشارة ولو خفية، إلى أن الأصل في الأشياء ليس هو الإنسان، وإن بدا في مرحلة من مراحل تعقّله أن الأمر كذلك، ليقضي الله أمرا كان مفعولا... وأصحاب العقول الربانية، والتي سبق أن وصفناها في غير هذا الكتاب بأنها عقول مطلقة، هم الأنبياء عليهم السلام والورثة. وإذا شاء الله بقوم خيرا، جعلهم يتبعون هؤلاء الربّانيّين من أهل زمانهم؛ لأنهم باتباعهم ذاك، سيُدركون من الخير ما لا يبلغونه بعقولهم؛ بل إنهم سيدركون ما لم يكن يخطر على بالهم وجوده. أما إن شاء الله بالقوم غير ذلك، فإنه سيجعلهم يتبعون ذوي النفوذ فيهم، من أهل المال والسلطة، فينزلون إلى مكابدة الشرور الناشئة عن هذا الاتباع. يقول الله تعالى: {وَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ إِنَّاۤ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاۤءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِیلَا۠} [الأحزاب: 67]. ولو أن الدارسين كانوا على مرتبة عقلية تمكّنهم من تتبع آثار الاتِّباع بنوعيْه في الحقب التاريخية، لعرفوا ما ذكرنا معرفة جليّة؛ ولكن أغلبهم، وفي أحسن الأحوال، لا يتجاوزون مرتبة العقل المفكّر، لذلك فهم يخلطون، وربما قد ينشغلون بمعايير ثانوية عن معايير أصلية كان ينبغي اعتبارها... وإن أصعب شيء على العقول ما دون الربّانيّة، هو تمثّل ما تُنتجه العقول المخالفة لها؛ لأن ذلك يُعدّ في نظرها هدما لها وإفناء. وقد عبّر عن هذا الأمر فرعون بأصدق عبارة عندما قال: {قَالَ فِرۡعَوۡنُ مَاۤ أُرِیكُمۡ إِلَّا مَاۤ أَرَىٰ وَمَاۤ أَهۡدِیكُمۡ إِلَّا سَبِیلَ ٱلرَّشَادِ} [غافر: 29]؛ وهذا لأنه يثق بعقله، ولا يثق بعقول قومه. وهذا يقع من جُلّ الناس، ولكنهم لا يشعرون. فلو طالبنا مسلما من عامة المسلمين، أن يعتبر نظرة يهودي إلى الأمور، لما أطاق ذلك، ولَسارع إلى الحكم عليها بأنها كاذبة وظالمة، موافَقةً للعقل الجمعي، ومن دون تمحيص؛ وعلى العكس من ذلك، لو طالبنا يهوديا بأن يعتبر نظرة المسلم إلى الأمور، لانتهى إلى مثل ما انتهى إليه الأول. ووحدة النتيجة، مع اختلاف الطريقيْن إليها، لا تدل إلا على كون العقليْن من المرتبة ذاتها، أو هما متقاربان جدا. ونحن قد بيّنّا سابقا أن اليهود اليوم كافرون، بسبب عدم اتباعهم لعيسى ثم لمحمد عليهما السلام؛ وبهذا الكفر، فإنهم سيفقدون نور الهداية الرّبّانيّة الذي يجعل العقل يُدرك ما لا يُدركه العقل المجرّد عن الدين، وإن كان في أعلى مراتب العقلانية. وإن اتفاق المسلم مع اليهودي في صورة النتيجة لا فيها، يجعلهما معا مطالبيْن بالتدبّر في حاليْهما، ولو قليلا. وهذه المجاورة التي أثبتناها، سنعود إليها في كثير من الوقائع والأقوال، حتى نرد كل حق إلى حقيقته بإذن الله... وأما من جهة أخرى، فإن المؤمنين يعقلون ما لا يعقله كبار الفلاسفة، لكن من طريق غير طريقهم، وبصورة إجمالية، مع عدم القدرة في الغالب على التعبير عنه. وأما عوام المسلمين اليوم، والذين هم على إيمان مجمل، فإنهم قد نزلوا عن مرتبة الإيمان، إلى إسلام مخلوط بتأثيرات فلسفية أو أيديولوجية، جعلتهم يكادون ينزلون إلى مرتبة الكفر، لولا أن الله شاء للزمن التشريعي المحمديّ أن يُظلّهم من غير اختيارهم، وهو ما جعل بركته تشملهم وتبقيهم في طرف دائرة الإيمان؛ هذا مع كونهم وقتيا قد يكفرون ثم يعودون. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصفا سِنِي الفتنة وناصحا من لم يبلغها: «بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمـُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا.»[1]. فأين العقل ممن يتغير حاله بين الصباح والمساء؟!... بل أين الإيمان؟!... وقبل أن نمضي في الحديث، ينبغي أن نبيّن الأسباب التي تحول دون ارتقاء العقول المفكرة إلى مصاف العقول الفلسفية، وهو ما يجعلنا نقرّ للعقل الفلسفي بمكانته، ويجعلنا لا نخلط بينه وبين العقل المفكّر. وهذا، وكما سبقت الإشارة إليه، لأن الناس صاروا في زماننا يصفون كل مفكّر بالفيلسوف. ونحن هنا نعني الدارسين الغربيّين قبل العرب، وهو ما يستدعي منهم إعادة النظر فيما يقولون... والأسباب المقيّدة للعقل المفكر هي: 1. الدين في مرتبته الأولى: وهذا لأن المؤمن (عند نفسه) من هذه المرتبة، لا طاقة له بمخالفة تعاليم دينه، ولا حتى بالنظر فيها؛ لأن مجرّد النظر، قد يستثمره الشيطان ليُشكّكه فيها، وبالتالي قد يستدرجه بالفكر الشيطاني إلى الكفر. والمفكّرون من داخل الدّين، هم الفقهاء والأحبار والرهبان، الذين يعملون بالمنطق الدّيني في تفكرهم، فيُخالفون بذلك العقل المفكّر المجرّد، من دون أن يعلموا هم، أو يعلم مخالفوهم من المفكّرين محلّ النزاع فيما بينهم. ومن هنا تكون صعوبة التقريب بين اليهود والمسلمين في زماننا خصوصا؛ ونقصد من هذا أن اليهودي -وإن كان كافرا- فإنه يتبع تعاليم دينية منسوخة، هو لا يراها كذلك، وبالتالي هو على إيمان بها، في مقابل إيمان المسلم بتعاليم شريعته. وقد عدلنا عن لفظ الدين هنا، لندلّ على أن الدين واحد، لو أن أتباعه كانوا يُميّزون منه ما هو تشريعيّ مقيّد بالزمان، وما هو مستمر دائما. وعلى هذا، فإن اليهودي سيرى المسلم كافرا بمنطقه، وسيتشبث بما يظنه حقا لديه؛ والمسلم سيكون على مثل ما هو عليه اليهودي، من دون أن يميّزا موطن الخلاف، والدين واحد!... وهذا سيجعل التقريب بين الطرفيْن مـُحالا، لأن الاختلاف منوط بالأمر ذاته وهو الدين في شموله؛ وهذا الصنف من الاختلاف هو أشده. وفي هذا الاختلاف يقول الله تعالى: {وَكَیۡفَ یُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوۡرَىٰةُ فِیهَا حُكۡمُ ٱللَّهِ ثُمَّ یَتَوَلَّوۡنَ مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَۚ وَمَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ} [المائدة: 43]؛ والله هنا يدلّ اليهود على تناقضهم في أنفسهم، لا على الحكم الذي عندهم في التوراة، والمتعلّق بمسألة الزاني المحصن، وقد نُسخت شريعتهم. وهذا يعني أن المنطلِق بحسب زعمه من الدين، ينبغي عليه قبل أن يعمل بما يظن أنه ملتزم فيه به، أن يمحّص ما يتعلّق بذلك العمل خاصة؛ وإلا فإن الدعوى خفيفة على اللسان إن كان صاحبها أحمق!... وهذا الذي وقع فيه اليهود في مسألة بعينها، يقعون فيه هم ومن كان على دين مثلهم من عوام المسلمين، في مسائل عديدة؛ لأن إدراكهم للدين قد انحرف من دون أن يشعروا به، في غياب إمامة الربّانيّين. وعند انحراف التديّن، فإن "الدين" يُصبح عائقا عن إدراك الواقع كما هو على حقيقته، وبالتالي يُصبح ضارا، بخلاف ما يتوهمه القاصرون. وأما ما قد يظهر من تقارب بين بعض اليهود وبعض المسلمين، يوهم بأنهم على أصل صحيح مشترك، فإنه لا يكون أبدا من جهة الدين، وإنما من جهة أخرى، هي التي سنذكرها الآن... 2. الأيديولوجيا: وهي قالب فكري يُنتجه العقل، ليجعله منطلقا له في كلّ تصوراته. والأيديولوجيا بهذا، تكون حالَّة محل الدين، من كونها مـُنطلقا في عملية التفكر في المراحل التي دونها. ومن هنا كان أهل الأيديولوجيا، لا يتمكنون من تصنيف الدين بدقة، ولا يرونه إلا أيديولوجيا مخالفة؛ وهذا في حال بقاء الدين على أصله، لا عندما يُصبح هو نفسه أيديولوجيا دينية؛ مع أن أصحاب الأيديولوجيا العقلانية، يكونون في الغالب أكثر ضبطا لعملية التفكر في الجزئيات العقلية، من كثير من أهل الدين؛ وهو ما يجعلهم يصنفون الدين أيديولوجيا خرافية. والأمر ليس على ما يرى المتأدلجون، وإن كنّا لن نناقشهم الآن في أصل منطلقاتهم، حفاظا على وحدة موضوع الفصل... والأيديولوجيا إما أن تكون أصلا مشتركا كما هي عند الشيوعيّين من اليهود ومن المسلمين (والنسبة هنا ثقافية كما هو معلوم لا دينية حقيقية)، فتكون سببا في تقارب فاتن بين الطرفيْن. ولقد وصفناه بالفاتن، لأنه يوهم من لا خبرة له بالأمور بالتلاقي الذي قد يؤسس عليه الناظر، وهو لا يصح أن يؤسَّس عليه. أو قد تكون الأيديولوجيا جزئية، كما هي الأيديولوجيات المستندة إلى النظريّات السياسية-الاقتصادية المختلفة كالديمقراطية والليبرالية والاشتراكية وغيرها... فهذه الأيديولوجيات، قد تُحدث تقاربا جزئيا بين اليهود والمسلمين في الأذهان على الأقل، يتوهم معه الطرفان أنه من الممكن البناء عليها من الجانبيْن... وأما أن يُدرك عقلٌ من جهة الباطن، ما هو العقل المخالف له عليه، وكما أسلفنا الإشارة، فهو أمر صعب التّصور، بسبب الأنانية المركزية التي تجعل كل عقل عقلا مستقلا بنفسه. لأجل هذا، فإن الحوار الذي ينبغي أن يكون بين اليهود والمسلمين (أو بين كل طرفيْن مختلفين بعد ذلك)، لا ينبغي أن يقوده المتديّنون منهم، ولا المتأدلجون. فأما المتديّنون، ولو من خلف الأيديولوجيا، فسيعودون كل من جهته إلى ما هم عليه من "دين"، وبالتالي سينقضون كل ما كان محلا للاتفاق، ولو بعد حين. وهذا السبب، هو ما يجعل الناظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا يمكنه إلا أن ينحاز إلى أحدهما دون الآخر؛ كما تفعل الولايات المتحدة في انحيازها إلى إسرائيل، أو يفعل عموم فقهاء المسلمين في انحيازهم إلى حماس. وهو ما يدلّ على أن المنحازين من الجانبيْن، لا يبلغون مرتبة المفكّرين حقيقة. وأما إن نزل المنحازون إلى ما دون ذلك مما يكون من شؤون عوام العوام، فإن انحيازهم رغم تشدّده، لن يجلب عليهم إلا السوء، بسبب التماهي الذي يكون بين العقول الفردية والعقول الجمعية المـُنتسَب إليها، والتي يقع بها التلاعب من قِبل المغرضين الذين يحوزون المقدرة العقلية، ولو بقدر ضئيل، وبحسب ما يرومون. وهذا مما ينبغي أن يُدركه السياسيون من جهة العلوم السياسية، حتى يتمكنوا من تفكيك الوضعية ولو قليلا؛ لأن هذا التفكيك، ضروري لكل حلّ سياسيّ مفترض؛ بغض النظر عن كونه داخلا في المدى المنظور الآن، أم خارجا عنه... وإن كل ما مرّ ذكره من تفاصيل، يُنبّه إلى ضرورة الاستنارة بالعقل الرباني، سواء داخل أمة الإسلام، لأنه لا بد أن يكون منها، وهو ما يجعلها معنية أكثر من غيرها؛ أو من خارجها، ومِن قِبل كل الأطراف المعنية على اختلاف درجة انخراطها في النزاع ودرجة تأثرها؛ لأنه وحده من يتمكن من بلوغ ما لا تبلغه العقول الأخرى، ووحده من يتمكن من الخروج عن المؤثرات الجانبية، مما يجعله أقدر على الإنصاف من غيره. ونعني من الإنصاف هنا، تحكيم الحقائق الربانية في المسألة من دون اعتبار لطرف على حساب الآخر، وبالتالي من دون انحياز؛ وهو ما يقوّي احتمال قبول الأطراف المتنازعة لرأيه. وهذه الدائرة التي يتحرك ضمنها العقل الرّبّانيّ، هي غير مـُدركة لكل أصناف العقول الأخرى؛ لذلك، فنحن لا ننتظر من تلك العقول أن ترى صوابية ما يحكم به العقل الربّانيّ ولا بد، بل قد يسبق إليها المعيار الدينيّ الذي لديها، أو قد تسبق الأيديولوجيا ولو بقدر ما، أو قد يحول العقل الجمعي دونها، فتعتبر أن الحلّ المقترح فيه تحايل على أحد الأطراف، وبالتالي فيه انحياز إلى أحد الخصميْن؛ خصوصا عندما يُنظر إلى دين الحَكَم بحسب الظاهر، أو إلى عرقه ولغته. ونحن نقول هذا كله، لا لنجعله معتبرا، وقد رُمنا منذ البداية الخروج عن تأثيراته التي لا تكون إلا تأثيرات جانبية، مهما زعم الزاعمون؛ ولكن لنجعل الناظر إلى مختلف الأطراف يتفهم ما يصلون إليه من نتائج، وإلى مدى صوابيتها بعد ذلك، ولو بالتقريب والتغليب ما دامت المطابقة نادرة الحصول. وهو صنف من النظر يؤدّي إلى إيجاد الأعذار بحسب الطاقة، لكل طرف من الأطراف؛ لأن جميع الأطراف في النهاية مـُحتاجة إلى من ينظر إليها بعين الرحمة، لا بعين العدل وحدها... وقد جاء الآن أوان توضيح: لمَ كانت العقول تنصرف عن الحلول النافعة للخصميْن؟ لا من داخل الصّفّيْن وحدهما، ولكن حتى من دائرة البشرية الكبرى؟... فنقول: إن العقل المفكر على الخصوص، يكون قد أسس لنفسه صورة افتراضية للعالم ولكل ما يتصل به. وتلك الصورة لها منطق محكم نسبيا، لا يتمكن المفكر من مخالفته، وإلا انهارت عقلانيته عند نفسه، وهو أمر لا يُطيقه. فإذا عُرض عليه أمر من الأمور، كالحل الذي أشرنا إليه عن بعد، فإنه يعرضه على تلك الصورة الذهنية وعلى منطقها الناظم لها، فإن هو وجد له مساغا، فإنه سيقبله في الغالب جزئيا بسبب عدم إدراكه للصورة الربانية الواقعية في مقابل الافتراضية التي لديه؛ وإن لم يجد له مساغا، إما لعدم وجوده وإما لعدم إدراك وجوده، بسبب ضعف أو بسبب آخر مما ذكرنا آنفا أصوله، فإنه سيردّه مضطرّا. وهذا يعوق مسألة إيجاد الحلول وإيجاد نقاط الالتقاء بين الخصوم، كما لا يخفى. والسؤال هنا: فمن يمكن أن يكون وسيطا بين العقل المفكّر والعقل الربّانيّ إن عُرف، حتى تسهل مخاطبة المخاطَبين من جميع الأطراف؟... والجواب يكون: - هو العقل المؤمن، الذي يستنير بنور الله في إدراك ما يُعرض عليه. وأصحاب هذا العقل في الغالب بسطاء لا يقبل العقل المفكّر الإنصات إليهم، وهو يتوهم أنهم أقل إدراكا منه. وهذا كما يظهر، لم نذكره إلا من باب استكمال التحليل، لصعوبة الاحتكام إليه؛ وإن كانت توجد في الواقع وجوه تؤدّي إلى اعتباره، لكن لا من جهة العقلانية، وإنما من جهة وجدانية؛ كما يستمع الابن العالم -مثلا- إلى رأي والدته الأمية، ويتأثر به، وربما قد يطمئنّ إليه أكثر من اطمئنانه إلى رأيه. لكنّ هذه النماذج الوجدانية تبقى قليلة في الاعتبار، إن قورنت بغيرها... - هو العقل الفلسفي: وهذا، لأن الفيلسوف قد بلغ النهايات في المعاني التي يعود إليها العقل المفكّر، إلى جانب كونه ضابطا لعمليّة التفكّر من جهة أصولها ومبادئها؛ مما يجعله ناقدا لكل فكر بسهولة. لكن بقي علينا أن نعلم: لم يكون الفيلسوف وسيطا بين الربّانيّ والمفكّر، وهو نفسه لا مدخل له في دائرة الربّانيّ؛ ونحن نعلم أن المرء لا يقبل إلا ما استقرّ عنده أولا، ولو من باب التصوّر دون التجربة؟... وهنا ينبغي أن نقول: إن الفيلسوف الحق، لا يُميَّز عند نفسه بما توصل إليه من مستخلَصات، هي عند غيره من الفلاسفة والدارسين، معالم فلسفته من كونهم ينظرون إليه من عقولهم لا من عقله؛ ولكن يُميَّز بالأسئلة التي بقيت عنده من دون إجابات!... وهذا لا يكون إلا للفيسلوف الحق. ونعني من هذا، أن كل العقول المترتبة تحت العقول المجرّدة (الفلسفية) تُعرف بالإثبات؛ أي بما بلغته من معارف أو نظريّات؛ أما الفيلسوف، فهو يُعرف بالنفي (السلب)؛ أي بما لم يصل إليه بعد. وهذا الذي ندلّ عليه إما قد يُميّزه فيلسوف آخر من نظراء الفيلسوف المنظور في فلسفته لقرينة ما، أو يميّزه الربانيّ من خارج دائرة العقل بما هو عقل؛ أي من خارج الفلسفة. وهذا لأن الفيلسوف لا يمكنه أن يعرف نفسه بنفسه من هذا الوجه؛ وهو من أعجب الأمور، التي لا نجد لها شارحا بالأسلوب العقلي (الفكري) إلا نادرا، ومن قِبل أشخاص معدودين على رؤوس الأصابع في تاريخ البشرية كله. وذلك، لأن كثيرا ممن يعلمون هذه المسائل، ليس من عادتهم أن يُعبّروا عنها بأسلوب عقلي؛ وعلى رأس هؤلاء العالمين الأنبياء عليهم السلام وكثير من الأولياء. وما ذكرناه يدل على أن أهل الكشف وأهل النظر، قد يلتقون على إقرار بعض المسائل، لكن لا من الطريق نفسه. ومخاطبة صنف من العقول، لا بد أن تكون من طريقه، حتى يقبل ما يُخاطب به إن كان مما يُقبل؛ وإلا رفضه، لا لكونه مما ينبغي أن يُرفض؛ ولكن لكون الخطاب لديه مجهولا. ولنعد إلى الواسطة بين الربّانيّ وغيره، التي كنا بصدد التقديم لها في الكلام، لنضيف: إن الفيلسوف المتمكّن إذا سمع كلام الربّانيّ مباشرة أو اطلع عليه، فيما هو خارج علمه، يُصاب أولا بالدهشة؛ لأنه يعلم من دون برهنة وإنما بداهة، أن هذا الكلام الذي سمعه من مستوى أعلى من عقله على الأقل. وبعد الدهشة، ربما قد يتبيّن بعض معالم الجواب عن أسئلته من طريق النظر؛ حتى إذا اكتملت جوانب الجواب عنده بحسب طريقه، فإنه سيُضيف ما توصّل إليه إلى سابق مستخلصاته التي كانت ناقصة من دون هذه الإضافة. وهو على كل حال، سيشهد للربّانيّ بأهلية الكلام فيما يعلم أنّ غيره من الناس ممنوعون من مجرد الاقتراب منه، بحسب ما تقتضيه المنهجية والموضوعية. وهذا يُذكّرني بكلام قرأته منذ مدة، يُنسب إلى الفيلسوف الساخر برنارد شو، مفاده: أن النبي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، لو عُرضت عليه مشاكل عالمنا المعاصر، لحلّها وهو يرتشف فنجان قهوة. وأنا قد ذكرت العبارة كما هي من باب الأمانة، وأستغفر الله مما لا يليق منها بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو بأدنى الدرجات. ولكن يبدو من العبارة، أن برنارد شو قد ميّز من الكلام النبوي، أهلية الربانيّ الذي هو هنا أعلى رباني على الإطلاق، للحسم في المسائل التي هي باقية عنده وهو الفيلسوف، وعند غيره من أفراد البشرية، ضمن المجاهيل. ونحن هنا، نشكر لهذا الفيلسوف إنصافه ونُصحه، ونعرف له مكانته العقلية. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الفلسفة الساخرة، من أرقى صنوف الفلسفة ومن أعقدها؛ كما هو المسرح الساخر من أصعب صنوف المسرح... ولا شك أن القارئ المتمرس، سيعلم من كلامنا أننا قد عرضنا لمسألة العقلانية في مستوياتها التي يغلب عليها التوصيف بأنها عقلية بقدر ما. أما ما قد يخرج عن العقلانية عند التصنيف لدى المتخصصين على الأقل، بسبب غلبة أمر آخر صارف كالتطرّف في التديّن، أو كالتطرف في التأدلج، اللذيْن أثبتناهما في صورتهما الأولى سابقا، ضمن التحليل العقلي؛ فإنه يخرج إلى ما قد يوصف للناس عموما من قِبل المفكّرين أو من قِبل الإعلاميّين الذين لهم من الأثر ما لا يمكن إنكاره: بالعاطفية، أو بالتبعيّة العمياء المذمومة للغير، أو بالاستجابة لترهيب كترهيب الدولة عند غيابٍ كثيرٍ أو قليلٍ لمبادئ الحرية والعدل والمساواة، أو غير ذلك مما يصعب حصره... وهذا يجعلنا ننظر إلى الشطر الأكبر من اليهود ومن المسلمين الآن، والذي له القوة بالعدد، وبالتالي له التأثير على متخذي القرار من الجانبيْن بقدر ما، على أن فعله غير عقلاني. وهذا الشطر الأكبر الذي وصفناه بعدم العقلانية، لا يتمكّن من إدراك هذا من نفسه؛ بل يرى ما هو عليه، هو العقلانية ذاتها؛ خصوصا مع التوجيه الإعلامي أو ما يُشابه كالتوجيه السياسي داخل الأحزاب... وإن نحن نظرنا إلى هذا الصنف من اليهود بالتحديد، فإننا سنجد النتيجة لديهم: كراهية للمسلمين عموما، والفلسطينيّين خصوصا، من دون أن يُدركوا أصولها؛ بل إن ذلك يصدر عنهم كما يصدر ردّ الفعل عمّن يتلقّى الفعل من دون تعقّل. ونحن -بخلاف كثيرين من غيرنا من المسلمين- نعتبر رأي هؤلاء من الناحية التحليلية، ونشفق من حالهم، ونعذرهم على قدر استطاعتنا، فيما يتوصّلون إليه؛ لا لأننا على صفة مطابقة لصفاتهم، ولا لأننا على أحوال مشابهة لأحوالهم، ولا لأننا نوافقهم بالرأي؛ ولكن لأننا نستطيع -بحمد الله- أن نستوعبهم، وأن نعلم من أين أُتوا، وكأننا هم. وهذا الصنف من الإدراك العقلي، لا يستطيع تصوّره أكبر الفلاسفة؛ وإن هم سمعوا به، فإنهم سيغبطون أهله لعلمهم أنه أعلى ما يكون من الإدراك. وهذا الذي نذكره، هو ما يجعلنا حريصين على اليهود، كما يحرصون على أنفسهم في الشطر العقلاني لديهم، لا مطلقا؛ لأنهم في الشطر غير العقلاني، قد يسعون إلى الإضرار بأنفسهم وهم لا يشعرون؛ وهو ما يجعلنا أيضا، نرفض كل رأي فيه إقصاء لهم أو إرادة لإبادتهم؛ مجرد إرادة... وكما ندرك ونتفهم ما عليه اليهود، فإننا ندرك ونتفهم ما هي عليه أغلبية المسلمين؛ لا لأننا منهم فحسب، كما قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، ولكن لأننا نتمكن من الانفصال عنهم وجدانيا عند نظرنا إلى أمورهم؛ وهو السبب الذي يجعلنا، لا نوافقهم في كثير مما هو عليه عقلهم الجمعي؛ رغم ما يجلبه ذلك علينا من ردود أفعال، أقل ما يمكن أن يُقال عنها إنها مضيّقة علينا في أحوال معيشتنا. بل إن وقوفنا من الناحية العقلية على التجرّد التام، يُعطينا من الأهلية بفضل الله، ما يجعلنا نرى المشتركات لدى الطرفيْن، والتي يظنّان أنها أحيانا من المحال أن توجد. فإن فُهم عنّا بعض الذي قلنا، فنرجو من اليهود أن يُحسنوا الإنصات إلينا، وأن لا يتسرعوا في تصنيفنا من أعدائهم، لأننا -على الأقل من أحد الوجوه- لسنا كذلك. وفي المقابل، نرجو من إخواننا في الإسلام، أن لا يتسّرعوا بتصنيفنا متخاذلين أو متساهلين في أمور الدين، كما قد يُفهِمهم ذلك المغرضون من المسلمين، الذين لا يأبهون إلا لغايات دنيوية عاجلة، ما كان ينبغي لهم أن يقصدوها من البداية. وسيأتي الكلام -إن شاء الله- في الفصول القادمة على الكراهية المؤسَّسة على الدين جهلا، لنتبيّن مدى جهل الفقهاء والأحبار بالأحكام الدينية التي يدعون غيرهم إليها، فتنشأ عنها كوارث لا حصر لها... نعم، نحن على وعي بصعوبة الكلام الآن، والمعاركُ العسكرية على أشدها؛ والمنافخُ المتوجِّهة من كل حدب وصوب، على المنطقة الجغرافية المعنية، لا تترك أحدا من الأطراف يستعيد أنفاسه، بله أن يسعى إلى تقييم الوضع بالبرودة التي يتطلبها توخّي الاستنتاجات العقلية السليمة، التي لا تجر أذيال الندم وراءها... ولكننا نراهن على عقلاء اليهود وعقلاء المسلمين، وهم موجودون؛ لكي يُعملوا عقولهم، لعلهم يحدّون من هذا الشرّ العظيم. ولقد سمعنا من بعض المفكرين اليهود المرموقين في العالم، في الآونة الأخيرة، ما جعلنا نُسرّ بالمستوى العقلي الذي بلغوه عند تناولهم للأمر مع صعوبته. كما سمعنا من بعض الشخصيات العربية، ما يجعلنا نستبشر خيرا، على المدى المتوسط على الأقل. وهذا الذي نتطلع إليه من الجانبيْن، نراه أمرا ضروريا للأجيال الناشئة من البشرية جمعاء، يُعينها على النظر إلى المستقبل بتفاؤل، رغم كل هذه الغيوم السوداء المتراكمة في سماء العالم!... وهو من حق هذه الناشئة علينا، إن كان لدينا حد أدنى من صفة الإنسانية!... وبعد هذه الاستراحة القصيرة ضمن سير الكتاب، مع مسألة منهجيةٍ تُساعد على تبيّن ما سيأتي من الفصول، وتُسهّل تلاقي الكاتب والقارئ على فهم واحد، فإننا لا نستغني بقصد تفكيك عناصر الصراع العربي الإسرائيلي، عن العودة إلى حقب تاريخية لا بدّ من إبراز بعض تفاصيلها، من أجل بلوغ الزمن الذي نحن فيه بالتحليل ونحن على أتم الاستعداد لقراءته قراءة سليمة. ولنعُد إلى ما حدث لليهود في أزمنة الشتات، لنرى تبعات الأحداث على ما سيميّز معاملتهم لغيرهم من أحكام، منها ما كان خاصا بذلك الزمان، ومنها ما سينسحب عليهم إلى الآن... [1] . أخرجه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه. |