انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2022/08/17
حتى لا تكرر جماعة العدل والإحسان أخطاءها -5-
(تابع...) 5. ما للجماعة وما عليها: 1. ما يُحسب للجماعة: ا. التصدّي للمد الوهابي: يُحسب لجماعة العدل والإحسان وقوفها سدا منيعا في وجه المد الوهابي الذي عرف نشاطا غير مسبوق في تاريخ المغرب، بسبب التمويل السعودي، وقيام بعض فقهاء المغرب الوهابية لذلك. ورغم أن الجماعة نفسها، ظلت تحتضن بعض المتسلفة، بسبب قصد المرشد عدمَ التشديد في البحث خلف العقائد الفردية، والذي أدى في النهاية إلى تصدعات كبيرة؛ فإنه لا يُنكِر فضل الجماعة في القيام للمد الوهابي إلا جاحد. وقد ظل المرشد نفسه، يدل على التوجه السنّي العامي الأصيل -لولا ما شابَهُ من أدلجة إخوانية وشخصية- بكلامه وبمواقفه المعلنة. ولو لم يكن للمرشد إلا هذا الفضل لكفاه، باعتبار المتاح!... ب. بعث التديُن في شباب المرحلة: ونقصد بالتديُن هنا التدين الظاهري. فلقد كانت جماعة العدل والإحسان خلف عودة كثير من الشباب إلى التديّن، وإلى ملازمة المساجد، وإلى التشبث بالمظاهر الإسلامية في اللباس وفي العادات. وهذا العمل جيد، لو أنه لقي متابعة تربوية حقيقية. والذي حدث في الواقع، هو اكتفاء الجماعة بالمظاهر وحدها، وتغليب العناية بالجانب السياسي في المقابل. وهو ما أدى إلى انهيار التدين الحديث انهيارا كبيرا، وصل مع كثير من اليائسين إلى الإلحاد وإعلان الكفر. بل إن أفرادا ممن انتسبوا إلى جماعة العدل والإحسان، قد صاروا من أعيان الملحدين في المغرب وفي العالم. وهو أمر كنا نحذر منه الجماعات الإخوانية والسلفية في العالم العربي، قبل أن يحدث؛ لكن العرب في الغالب لا يُدركون الأحداث إلا بعد وقوعها. ولو أن تلك الجماعات كانت تربي أتباعها على الدين الأصيل، ما سقطوا في الكفر بعد ذلك، وهو الذي يُفترض أن يكون على النقيض. وهذا لأن كفر مَن كفر من الأتباع، جاء في الغالب رد فعل "نفسيا"، بعد اكتشاف الخديعة لهم من قِبل "قيادات" لم تكن تختلف عن سواها من أصحاب النفوس الضعيفة من المسلمين. وبدل أن يكون النفور من جماعات بعينها، صار النفور من الدين كله، بسبب التماهي المقيت، الذي يعمل عليه أصحاب الأهواء من المتديّنين عموما. ج. الحد من غلواء المخزن: بما أن التدافع في المجتمعات سنة إلهية دائمة، فإن المخزن المغربي الذي لا يحسب إلا حساب الدنيا، كان لا بد له من قوى معارضة، تجعله يتريث أو يعيد النظر في أفعاله. كما أن الحسن الثاني كان من أوعى الناس بوظيفة المعارضة، وكان يسعى إلى قطف ثمارها بما يُناسب رؤيته هو، في كل مرحلة. ولقد كان يراهِن في هذا المضمار على سلمية جماعة العدل والإحسان، وعلى اعتمادها النسخة المغربية في التديّن، رغم الخلاف البادي. ولقد كان مرشد الجماعة -وهو من سبقت له معرفة الحسن الثاني عن قرب- يُشارك الملك هذه الرؤية نسبيا، لكن من غير إعلان. وهذا، لأنه كان يعلم أن المخزن سيعتبر أي إعلان للتوافق، انتصارا له ولهمجيته. والأستاذ عبد السلام رحمه الله، لم يكن ساذجا بهذا القدر، ولا كان يخفى عنه ما يُحيط به محليا. ولا بد هنا من أن نشيد بشخصية المرشد وببعد نظره في الأمور السياسية المرحلية. بل لولا هذه الفرادة الشخصية وبعد النظر، لطوى المخزن الجماعة، كما يطوي غيرها من مكونات المجتمع المغربي، منذ أمد طويل. والذي كان يزيد المرشد رفعة، مع تحقيقه لغايات لم يُقاربها أحد من جيل الحركة الوطنية والاستقلال، هو تواضعه لله عند مزاحمته للمخزن. فقد حافظ رحمه الله، على توازنه الشخصي، وكان يحسب حساب المتغيرات القدرية، قبل المتغيرات السياسية؛ ولكن جماعته (النخبة منها أولا)، لم تكن على القدر ذاته من إدراك الأمور، بسبب استنادها كليا إلى الأيديولوجيا. والمرشد، لم يكن أمامه من خيار وقتئذ، إلا أن يقبل بما توافر لديه من استعدادات، وإن كانت في الغالب ضعيفة. ولا بد من أن نبيّن أن عدم تعدد الخيارات الذي أشرنا إليه، قد اقتضاه تورط المرشد في العمل التنظيمي، الذي لا يسمح لأصحابه بالتراجع!... د. إعادة المرأة إلى مكانتها الأصلية في العمل الديني: لا شك في أن المرشد كان واعيا بالانحراف الذي طال التصورات الدينية، وبالإقصاء الممنهج الذي جمّد فاعلية المرأة داخل المجتمعات الإسلامية. وهو قد أراد أن يُعيد الأمور إلى نصابها في هذا الميدان عمليا، أكثر منه علميا. وقد كان يجدر به أو بغيره، أن يعودوا إلى المستوى العلمي أولا، وبالقدر الكافي. ولسنا نعني بكلمة "علمي" هنا، إلا التأصيل، ضمن التجديد الفقهي. ورغم ما قد يتوهمه الأتباع لمرشدهم من مرتبة تجديدية، بسبب العصبية وحدها، وبسبب جهلهم بالمعايير العلمية؛ فإنه يبقى دون ما أشرنا إليه من مكانة، وإن دخل في كثير من جوانب المسائل فكريا... ولقد كان دفْع المرشد بابنته إلى الواجهة، إبان حياته، توجيها عاما يدل على حفظ مكانة المرأة فيما يعود إلى الرأي والمشورة؛ بل وإلى القيادة، إن كانت تستحق ذلك. ولقد برهنت الأستاذة ندية ياسين على كعب عال في الخطاب السياسي وفي القيادة. ولقد بلغ بها الأمر، أن كان لها وحدها في الجماعة من المكانة، ما لم تبلغه القيادة الذكورية كلها، باستثناء والدها. ورغم أن الأستاذة كان ينقصها من جهة العلم الديني الكثير، فإنها استطاعت بحنكتها أن تكون "الناطقة" غير الرسمية، باسم الجماعة فيما يتعلق بالجانب السياسي. وهذا التقديم للمرأة من قِبل المرشد، كنا نراه إنجازا هاما يجدر بالمسلمين التوسيع له وترسيخه... ه. عدم الدخول في الخصومات الداخلية للأمة: وهو أمر ضروري، قد عمل المرشد على إثباته عمليا، وإن لم يؤسس له علميا بالقدر الكافي أيضا. وإنّ خُلق المرشد من غير شك، كان يتسع لجميع المسلمين، وكان في مقابل ذلك على إلمام كبير بما طرأ في التاريخ الإسلامي من طمس لأصول الدين، مما يستوجب معذرة جل المنحرفين. بل إن انفتاحه على يساريي المغرب، لا يُمكن إلا أن يُحسب له، لو أنه وصل فيه إلى تلاقٍ حقيقي على الفطرة وعلى أصول الدين. ولعل الزمان لم يمهله، حتى يحقق غاياته على عدة واجهات، وهو من كان المفكّر الوحيد (بالمعنى الصحيح) في جماعته؛ بما أنه لا أحد من أتباعه قد بلغ مبلغه أو داناه... 2. ما يُحسب على الجماعة: ا. تغليب الجانب السياسي المنحرف: إن تغليب الجماعة للعمل ضد المخزن، قد أخذ من طاقتها الكثير، وقد حصر من مردوديتها الدينية كثيرا؛ خصوصا عندما صار في وقت من الأوقات، المعيار الوحيد للانخراط في الجماعة. وهذا قد طعن في مزعم الجماعة للتزكية الشرعية، وهي التي تُصلح صلة العبد بربه أولا وقبل أي شيء آخر. وقد مكّن تغليب الاعتبار السياسي على عمل الجماعة، كثيرا من المعارضين اليساريين أو من أصحاب الفكر الخارجي الإسلامي، من قيادة الجماعة أو من أن يصيروا فيها أغلبية عددية مرجِّحة. وهذا، هو ما أدى في النهاية، إلى نبذ منهج المرشد، وإلى الدخول في نمط جديد من العمل، مع صعود القيادة الجديدة فيما بعد. ب. انغلاق الجماعة: على الرغم من اعتماد المرشد لخطاب الانفتاح نظريا، فإنه لم يستطع بلوغ انفتاح عملي بعيد المدى، يؤسس لعمل مشترك بين الجماعة وباقي الأفرقاء الإسلاميين وغير الإسلاميين. وعلى العكس من ذلك، فقد سقطت الجماعة في آفة قديمة لدى المسلمين، وهي التعصب للقائد وللرأي، إلى حد يُلغي عقل الفرد بصفة شبه كلية. فأنا -مثلا- قد حاورت العدليين كثيرا، ومنهم من كان من أقرب معارفي؛ ولكنني لم ألاحظ أنهم كانوا يتمكنون من الإعراب عن آرائهم الفردية، مخافة أن يشهدوا على جماعتهم بما يرون أنه قد يُستثمر من قِبل المغرضين من المخالفين؛ وهذا نهج غير إسلامي بالتأكيد. وذلك، لأن الإسلام يعلّمنا أن نكون أنصارا للحق ولو على أنفسنا؛ يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. وهذا الانحياز التام إلى الحق، من دون اعتبار لشيء آخر، لا يوجد إلا في الإسلام الذي هو دين الحق؛ ولا يتصف به إلا من كان مسلما لله حقا، وهم قلة في الأمة. وهكذا، لن تلبث الجماعة أن تصير جماعة تقليدية، تُعمّق من الآفات الموجودة في الأمة، بدل أن تعمل على الحد منها، رغم المزاعم العريضة... ج. خطورة الانتكاسة النسوية: إن الجماعة ممثلة في قيادتها بعد رحيل المرشد، قد نزلت كثيرا عن المستوى الذي نظّر له المرشد نفسه: نزلت إلى المستوى الفقهي العام، الذي تهيمن عليه العقلية الذكورية المستمرة قرونا. ولو أن الجماعة أعطت القيادة العامة (منصب الأمين العام)، للأستاذة ندية، لكنا نراها سائرة في الاتجاه الصحيح ولو لوقت ما. وكنا نرى الأستاذة ندية، جديرة بتلك القيادة، ولو لمرحلة انتقالية، تتبيّن فيها الجماعة طريقها ضمن الواقع المغربي المعقّد. وعلى العكس من هذا، خرجت القيادة الجديدة، بإقصاء للأستاذة ندية، وبعودة عن المكاسب النسوية بصفة شبه كلية؛ وهذا يجعل الجماعة على غير ما نظّر المرشد، وعلى غير ما تحقق واقعيا في البداية. وحيث إن الجماعة لم تحتفظ للأستاذة بمكانة القيادة، فإنه كان يجدر بها -على الأقل- أن تحتفظ لها بمقعدها ضمن مجلس الإرشاد الجديد. وبما أن الأمر قد جرى بعكس ذلك، فإنه صار جليا أن القيادة الجديدة قد تنكرت عمليا لما تركها عليه مرشدها. وأما إدخال زوج الأستاذة ندية إلى مجلس الإرشاد، فإنه كان تغطية على الانحراف الكبير الذي قد حصل؛ مع أنه لم يُضف جديدا يُذكر إلى عمل الجماعة... د. الاكتفاء بالريع: إن الجماعة بسبب ضعفها العام، ما عاد لها من داع إلى الوجود في المجتمع المغربي. ويتأكد هذا القول ببُدُوّ عُقمها في الجانبيْن: العلمي والسياسي. فمن الناحية العلمية، فهي قد صارت إلى مرتبة أدنى من مرتبة التقليد التي كان عليها المرشد؛ أي هي قد صارت إلى الجمود الفقهي العام، محليا وعلى صعيد الأمة بأسرها. وأما من الناحية السياسية، فإن الجماعة قد انضوت تحت قبضة المخزن، كسائر مكونات المجتمع المغربي الأخرى؛ وإن كان ذلك الانضواء غير معلن. وحتى تخدم الجماعة الغايات الكبرى للمخزن، فإنه كان عليها عدم إعلان انسلاخها عن طريق "المعارضة الإسلامية"؛ حتى يمكنها تحقيق غايات، لا تتحقق بغير ذلك. والدليل على ما نقول، هو اكتفاء قيادة الجماعة بالاستفادة من الريع المالي الصاعد لها من القواعد؛ وكأنه مكسب دنيوي، ارتضت أن تقنع به. وهذه الاستفادة الريعية، لم تكن لتتم بعيدا عن أنظار المخزن ذاته، لو أراد أن يحول دون ذلك كله؛ وهو الذي لو شاء أن يُحاسب أحدا لحاسبه بسهولة، كما نعلم بالتجربة!... وأما من الناحية السياسية، فأنا قد ذكرت للأمين العام للجماعة في زيارته الأخيرة لبيتي -وكانت قد سبقتها ندوة صحافية للدائرة السياسية بخصوص إغلاق بعض البيوت والمقرات- أن الأخويْن اللذيْن عقدا الندوة، قد بالغا في التأدب في الخطاب مع المخزن، ولم يكن ينبغي لهما ذلك (ونحن هنا لا نريد إبراز موقفنا من إغلاق المقرات، بقدر ما نريد تقييم الخطاب). وإن صارت الجماعة تنافس خدم المخزن من السياسيين المغاربة على عبارات الأدب غير الضرورية، فماذا سيبقى لها من رصيد بعدُ؟!... وقد أعدت الكلام على الأمين العام مرّتيْن، فلم يحر جوابا. ولقد كان عليه أن يكون حر الرأي، غير ملتزم بالرأي الجماعي للقيادة، على الأقل ليُبقي على مكانة شخصية له، قد تعمل على التقليل من النتائج السيئة التي صارت الجماعة تحصدها تباعا... ورغم أن جماعة العدل والإحسان تزعم لنفسها أنها لم تسقط فيما سقط فيه حزب العدالة والتنمية الإسلامي من خدمة سافرة للمخزن، فإننا نراها في خطابها هذا، تتستر على عيوبها، ولا تخدم الدين في شيء. وهذا، لأن خدمة الدين كانت تقتضي منها التعاون مع حزب العدالة والتنمية فيما هو مشترك إسلامي عام؛ ما دام الافتراق أمرا مخالفا لأصول ديننا!... ولقد كان يمكن أن يبقى مستوى التعاون بين الفريقين، فيما يجب من النصيحة الإسلامية الواجبة، لا أن ينزل إلى النصيحة الإعلامية التي تُستخدم في النيل من الخصوم بطريقة ملتوية!... وحتى نؤكد ما ذهبنا إليه، يجدر بنا هنا أن نذكر تجربتنا مع جميع الأفرقاء الإسلاميين الذين أُتيح لنا خطابهم مباشرة. ولقد كنا دائما حريصين على توحيد العمل الإسلامي في حده الأدنى المشترك، فلم نجد من جميع الأطراف استجابة حقيقية لدعوتنا، كما هي العادة. ومع أن جماعة العدل والإحسان قد أبدت استجابة أولية ظاهرية، إلا أنها كانت لا تستطيع قبول خطابنا المتحرر، ولا قبول إعادة النظر فيما تراه عندها من الثوابت، وهو ليس كذلك. أما حزب العدالة والتنمية المنبثق عن حركة التوحيد والإصلاح، فإن قيادته المحلية التي عرفناها، كانت أكثر تشددا من العدليين، وأكثر جهلا؛ بسبب اعتناقهم للعقيدة الوهابية التي لا يرونها إلا الإسلام ذاته!... ومع استمرار محاورتي لبعض أتباعهم بصفة شخصية، فإن التصلب الذي لهم، لم يمكّنهم من قبول آرائي... هذا بالإضافة إلى أنني لم أكن ذا صفة رسمية أو شبه رسمية، تجعلهم ينصاعون لها، وهم الذين يخضعون خضوعا تاما لما هو في الحقيقة من آفات الشعب المغربي كله. وهذا يقودنا إلى الكلام عن العقل المغربي العام، وعن مرتبته، وما الذي يصوغ معالمه من تربية ومن خطابات... وعلى كل حال، فإنني قد وجدت من رفض الإسلاميين لشخصي، ما وجدته عينه من رفض اليساريين، أو من رُتب المخزن السفلية؛ ولم تكن جماعة العدل والإحسان -بحسب تجربتي- تختلف عن سائر مكونات المجتمع المغربي، إلا قليلا جدا؛ وضمن ما قد يُعد لديها من المرونة التاكتيكية، التي لا يُرجى من ورائها إلا انضمام محاورها إليها. أما غير هذا، فلا تطيقه البتة!... ه. منع تحقيق توحُّد الصف الإسلامي: إن انغلاق جماعة العدل والإحسان على نفسها في مجتمع محلي، قد زاد من افتراق الأمة وتمزقها. وإن اشتراط الجماعة على مخالفيها أن يعودوا إلى طريقها وحده، هو دليل ضعف عقلي كبير؛ من كان عليه، يُمنع منعا كليا من أن يشتغل بما هو من الشؤون العامة للمسلمين. وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عوام الأمة عن أن يتكلموا فيما هو من الشأن العام للأمة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ.»، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يا رسول الله؟ قَالَ: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ!» [أخرجه بن ماجة وأحمد عن أبي هريرة]. ولقد شاع في زماننا صنف الرويبضة، خصوصا من صنف الإسلاميين. والسبب هو أن الإسلاميين ظنوا بما أنهم يتكلمون في الدين، فإنهم يخرجون بذلك من هذا الوصف؛ والحقيقة هي أن وصف الرويبضة قد قيّده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمرتبة المتكلم العقلية، لا بمجال الكلام وحده. وهكذا، فإن كل عامي يتكلم في شؤون الأمة أو شؤون البلد، بحسب ما يُدرك هو، لا شك هو رويبضة. وجماعة العدل والإحسان، لو أتينا نحصي الرويبضة فيها، لوجدناهم يقاربون 99% من مجموع أفرادها. وللإنسان أن يتصور الآن ما سينتج عن خطاب العوام في الدين وفي الدنيا. وإن ما يظهر للعامة اليوم من خلل لدى الجماعة، إنما هو غيض من فيض ما عملت له بغير قصد. وهذا هو في الحقيقة ما دعانا إلى كتابة هذه الأوراق، برجاء الحد من الآثار السيئة على الجماعة وعلى البلاد كافة، إن شاء الله... 3. استدراكات علمية هامة: 1. البحث عن الرجل الحي: عندما أراد بعض مريدي الإصلاح من منتسبي الجماعة أن يعودوا إلى وصايا المرشد، وعندما فهموا منه أن خليفته لا بد أن يكون مرشدا بعده، على الدرجة نفسها، فإنهم صاروا يتكلمون عن "الرجل الحي"؛ ولكنهم وقعوا في أغلاط فادحة سنذكر أبرزها هنا: أولا: إن المقصود من الرجل الحي، هو الرجل الكامل المؤهل لتربية غيره، والذي يكون من أهل الدنيا؛ حتى يباشر تربية مريديه مباشرة حقيقية؛ وهذا الأمر فيه خلط، للأتباع الذين كانوا يتبعون توجيهات مجلس الإرشاد. وقد رأيت منهم مَن يعتقد بأن عبد السلام ياسين ما يزال مربيا لهم من البرزخ حيث هو الآن. وهو ما وقع فيه كثير من المتصوفة قبلهم بجهلهم، والذين يزعمون بذلك الوفاء لشيوخهم الذين انتقلوا عن الدنيا؛ بينما ينسون الوفاء الذي كان ينبغي أن يكون لهم مع الحق. وذلك لأن مطلوب المريد ينبغي أن يكون الحق، لا الشيخ؛ والشيخ إنما هو وسيلة إلى الحق ليس غير. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]، فالوسيلة العظمى هي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم من ارتضاهم من بعده من المظاهر الوراثية. وإن هذا المعنى هو أول ما كان ينبغي أن يسبق إلى الأذهان، لو كان الناس على الصراط المستقيم؛ لأن وسيلة الأعمال التي لا يعرف الفقهاء سواها، تُعتبر بعد الدال على الله من الربانيين، لا قبله؛ ما دامت صور الأعمال قد تكون ميتة. وهو ما يجعلها محل المؤاخذة الإلهية، إلا أن يعفو الله!... والمسألة تحتمل تفصيلا أكثر من هذا، ليس هذا محله... ثانيا: عندما نستمع إلى مريدي الإصلاح من العدليين، ونراهم يبحثون عن خليفة للمرشد من داخل الجماعة، فهذا يجعلنا نتساءل: هل صارت الجماعة بديلا عن الأمة، بحيث يُعتبر المرشد نبيا مؤسسا (وإن لم يُصرَّح بنبوته)، ويُعتبر الحق محصورا في الجماعة دون غيرها من المسلمين؟... ولا بد هنا من أن نذكر أن المتصوفة، قد سبقوا إلى هذه الضلالة أيضا، عندما اشترط أهل كل طريقة أن يكون الشيوخ الجدد من ضمن طريقتهم ذاتها. واتخذوا إلى ذلك ذرائع، ولفقوا أقوالا، وكأن الأمر منوط بأهواء الناس، لا بالعلم الصحيح. وحتى يَبين الحكمُ، فإنه ينبغي أن نعلم أن السر الذي يكون للشيخ، لا أحد يعلم إلى حيث سينتقل بعد وفاته إلا الله؛ لأن الله هو الوارث له، وهو واضعه حيث يعلم فيما بعد. يقول الله تعالى (من باب الإشارة): {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. لهذا فعلى من كان مع شيخ رباني، أن يبحث بعده عن شيخ رباني آخر، قد يجده قريبا وقد يكون بعيدا. وهو ما كان يدعو السابقين إلى السياحة في البلدان، لعلهم يعثرون على من يأخذ بأيديهم إلى ربهم. أما من يشترط من المتصوفة أن يكون الأقطاب منهم إلى يوم القيامة، فإنهم يتألَّون على الله، ويجرّون على أنفسهم البلاء بكلامهم هذا، فحسب. وهذا الفعل لا يصدر عن عامة الفقهاء، فكيف بمن يزعم أنه من الخواص!... وليس لمن مات شيخه، إلا أن يتعلم كيفية الانفصال عنه بباطنه للضرورة، وأن يتسلح بالصدق في طلب شيخ جديد. فإن وجده، فليعلم أن الله قد فتح له ما لم يفتح لغيره؛ وليقابله بقلب نقي وكأنه لم يعرف أحدا قبله؛ لأنه حتما سيكون مخالفا للشيخ الأول فيما يعود إلى الحال والمقام. أما إن بقيت باقية من الشيخ الأول في القلب، فإنه لن يتمكن من قبول الشيخ الثاني، وهكذا سيخسر الخسران المبين... وهذه المسألة أيضا ذات ذيول كثيرة، ونحن إنما نومئ إلى مفاصلها فحسب؛ إذ هي تدخل في علوم التربية والتزكية؛ وهي علوم نادرة، وأصحابها على قلتهم، منتشرون في العالم انتشارا يحول دون تمييزهم في الغالب. وأما إن عدنا إلى أتباع الجماعة، فإننا سنجدهم من أجهل الناس بهذه العلوم، رغم ادعائهم لها باللسان... ثالثا: سمعت من أحد أفراد الجماعة البارزين، شرحا لمسألة ضرورة اتباع الشيخ "الحي"، وسمعته يدخل في تنظير خفت عليه من أن ينزلق منه إلى ما لا يصح. فما كان منه إلا أن وقع فيما خفته عليه!... كان يبرهن على وجوب اتباع الشيخ الحي ويدلل له بأن القدماء لو بقوا مع أشياخهم الأُول، ما ظهر شيخ بعد ذلك، لعدم الحاجة إليه. وهذا الكلام صحيح، لو توقف عنده؛ ولكنه أوصل الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائلا: ولو جاز أن نبقى مع ميت، لبقينا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! وهذا القول كفر!... ولا نظن المتكلم، أو من سينطلي عليه كلامه، يقصدون أن يخرجوا إلى الكفر؛ ولكنه الجهل يدفع صاحبه إلى الكلام فيما لا علم له به. وقلنا عن هذا الكلام بأنه كفر، لسببيْن: الأول: هو قياس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على الشيوخ؛ وهذا لا يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الأصل الذي لا ينقطع مدده للعالم ولو بعد وفاته. ومن يسميهم هذا الشخص شيوخا أحياء، ما حيوا إلا بمدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبنظرته الشريفة إليهم. ونعني أن حياتهم حسا ومعنى، هي بسبب حياته صلى الله عليه وآله وسلم، وتجليها فيهم. ولولا هذا، ما صح لأحد أن يكون شيخا مزكيا لغيره أبدا!... والسبب الثاني، هو إيحاؤه بأن المدد النبوي قد انقطع بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا القول هو قول ابن تيمية المخذول وابن عبد الوهاب المرذول، لا قول أهل الحق من هذه الأمة. والسؤال هنا هو: إن كنت يا أيها المتكلم تفوه بهذا الكفر وهذا الجهل، فما الذي استفدته من المرشد الذي ما تفتأ تعظمه تعظيما؟!... إن كنت لا تعلم الجواب، فاسمعه مني: أنت لم تذق رشفة من التربية الربانية، وإنما تلقيت حليبا اصطناعيا نسميه نحن الأيديولوجيا، فكنت تشربه ظنا منك أنه سيجعلك تنمو في الطريق، فما نموْت ولا زكوْت. وإن لم تتدارك نفسك بتوبة شاملة نصوح، فاعلم أنك سائر في طريق الضلال المبين. ولن يزيدك الوفاء لمرشدك بعد انتقاله إلا ضلالا، كما لن يزيده هو إلا وزرا. فسابِق الموت لعلك تسبقه!... ولقد أضربنا عن ذكر اسم المتكلم، حتى لا نشهّر به، وحتى نسهل عليه التوبة... ب. اعتقاد خلافة المرشد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، خلافة استثنائية: أولا: نسمع كثيرا أتباع العدل والإحسان يصفون مرشدهم بخليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع إيرادهم للفظ آخر هو: مجدد الخلافة الثانية. ونحن لا نشك أن عندهم خلطا في معنى الخلافة، بحيث يعتقدون أن عبد السلام ياسين خليفة بالمعنى الكامل. وهذا يعني أنهم يرونه كالخلفاء الراشدين، مع كونه لم يُمكّن من الحكم كما هو معلوم. ولم يعلم هؤلاء المساكين، أن التمكين يكون من الله، وأن الخليفة بالمعنى الكامل لا بد من أن يتولى الحكم في الأمة، لا في قطر من الأقطار، كما قد يُظنّ. ومن شدة أثر الأيديولوجيا على الأتباع، فإنهم لا يرون مرشدهم خليفة كالخلفاء، وإن لم يندرج ضمنهم بالقطع؛ بل يرونه خليفة استثنائيا. ويُفهم من كلامهم بجهلهم، أنه قد يكون أعلى مرتبة من الأربعة الأُول. وهذا ضلال كبير، لا يُقبل منهم لا تصريحا ولا تلميحا. وهم قد خالفوا بهذا القول جمهور الأمة!... وأما وصف المرشد بمجدد الخلافة، فلا يصح؛ لأن تجديد الخلافة لا يكون إلا لمن ذاقها؛ كما هو الشأن في التجديد المتعلق بالمجالات الأخرى. وعبد السلام ياسين، لم ينل شيئا من ذلك إلا في الرؤى والمنامات. ونحن لا نظن أن من يتكلم في هذه المسائل، يكتفي بعالم الخيال، من أجل إثبات الصفة؛ إلا إن كان من ذوي العقول السقيمة. فيظهر من كل هذا، أن التنظير الذي انبنت عليه جماعة العدل والإحسان، والذي تخلط فيه بين الأصول العلمية، وبعض معالم التربية الصورية، وكثير من الإغراق في سياسة لا تنبثق عن الشرع الحكيم؛ لا يُعتبر البتة!.. يقول الله تعالى لمن هذه حاله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123، 124]. فالأمر لا يُنال بالتواطؤ، ولا بالاتفاق، ولا بالرغبة الجامحة فيه؛ ولكن يُنال بتوفيق من الله، وبموافقة لأحكام شريعته، من دون تحريف ولا تأوُّل (التأوُّل غير التأويل). وإن اعتبار الأستاذ عبد السلام، جديرا بكل ما سبق من الصفات العظيمة، هو من القول على الله بغير علم. يقول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]. وقد ورد هذا الوعيد، فيمن حرم من الأنعام بهواه، مع نسبة تحريمه إلى الله؛ فما الظن بمن تكلم في أمر عظيم كالخلافة، بغير علم، ثم نسب قوله إلى الله!... أليس هذا دليلا على انطماس البصيرة، وانعكاس المعايير؟!... ثانيا: إن عبد السلام ياسين قلد التنظير الإخواني في مسألة الخلافة، فضلّ وأضلّ. والإخوان بما أنهم يبنون آراءهم على أقوال مقلدة الفقهاء، فقد توهموا أن الخلافة تُقام بإقامة جماعة المسلمين لها. وقالوا -ضمن تنظير سقيم طويل عريض- إن الخلافة من شأن الأمة، وهي وحدها التي لها سلطة إقامتها. وهي -أي الأمة- تُنيب عنها من يُسمونه عندهم خليفة. وما علموا أن هذا المعنى مخالف لتعاليم الإسلام في الأصول وفي الفروع. وذلك لأن باطن الخلافة يقول الله فيه: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]. وهذا يعني أن الخلافة بالجعل الإلهي، لا بإقامة العباد لها. ثم يقول سبحانه في ظاهر الخلافة: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26]؛ وهذا يعني أن من يُنصب الخليفة حاكما هو الله. وهذا التنصيب الإلهي، سابق في المرتبة وفي الزمان، على بيعة الناس للحاكم (خليفة كان أم ملكا). وأما البيعة المعلومة، والتي جعلها الإخوان أساس الحكم جهلا، فهي تأتي من باب الحكمة الإلهية فحسب، لتغطي على الفعل الإلهي؛ ليهدي بها الله من يشاء، ويُضل من يشاء. ومن تتبع أثر البيعة في تاريخ المسلمين، فإنه سيجده ممتدا عبر القرون إلى الآن؛ مع أنه في الغالب مبني على جهل بالمسألة، لا على علم بها. وهذا أمر، ربما نفصله عندما نصل في كتابنا "الحوار الغائب"، إلى مرحلة الخلافة الراشدة، إن شاء الله... وهكذا فإن كل كلام يقوله العدليون بخصوص الخلافة، لا يكون إلا تخرصات بغير علم، يفضح الناطقون بها أنفسهم، ويُبينون عن مدى قصر باعهم. ولولا أن الزمن الذي ظهرت فيه هذه الجماعة زمن غزو ثقافي، وانحراف ديني، وإلحاد هاجم على ضعاف المسلمين من كل صوب، ما كان ليلتفت إلى كلامهم أحد من ذوي العلم الديني. وعندما نطقوا سفها، في بيئة جاهلية، ظنهم الهلكى من الناس، فريق الإنقاذ الرباني؛ وكأن الأمر موكول إليهم فيما بينهم، ليقبلوا من شاءوا، ويردوا من شاءوا؛ وهيهات!... يا عباد الله، إن كنتم مؤمنين، فإن الأمر لله يضعه حيث يشاء، مما هو من شؤون الظاهر، أو مما هو من شؤون الباطن. فليتب إلى ربه من كان سائرا في طريق الوهم، وليعد إلى القرآن يستفتيه بافتقار إلى المتكلم به. والعجيب -ولا عجب في الحقيقة- هو دلالة جماعة العدل والإحسان على القرآن، لكن من دون فهم لآياته، ولا تحكيم لأحكامه؛ بل هي دعوة عامية، تنحصر في الحفظ والتلاوة!... فهل هذا هو حظ المؤمنين من القرآن؟... إن كان الأمر كذلك، فإن الناس لمغبونون أشد الغبن فيه!... ج. الاستهانة بالأحكام الشرعية في سبيل الدعوة إلى الجماعة: وهذا قد وقعت فيه جميع الجماعات، على تفاوت فيما بينها. والسبب هو اعتبار الجماعة، قبل اعتبار الشريعة. ومن هنا نجد بعض الإسلاميين قد يقعون في الكذب والتدليس، أو يسكتون عليه؛ وقد يوالون أصحابهم على الباطل، مع علمهم بأن الحق مع الخصوم؛ إلى غير ذلك من الأفعال المردودة شرعا... وعندما تصل الجماعة في معاملاتها إلى هذا الحد، فإنها تصير ضارة للمجتمع لا نافعة... ومما يدخل في هذا الصنف من الأعمال، والذي يغلب على الحركيين حتى لا يكاد يوجد غيره؛ هو حساب الحسابات السياسية والتنظيمية، قبل الحسابات الشرعية. وهذا قد يقلب كل الأمور لديها، ويجعلها لا تختلف كثيرا عن الأحزاب السياسية الدنيوية. وأما الشريعة فتوجب على العبد أن يُعلن موقفه بحسب الحكم الشرعي، في كل ما يظهر في المجتمع من أحداث؛ من دون مراعاة للمصالح الفردية ولا الجماعية. مع أن توظيف مصطلح "مصلحة"، ينبغي أن يُعاد فيه النظر لدى الإسلاميين؛ لأن المصلحة لا تكون مصلحة إلا بالمعايير الشرعية هي أيضا؛ لأن ما يُسميه الناس عرفا بالمصلحة، هو "الأغراض"، لا غيرها. والخلط في الاستعمال بين المصطلحيْن مقصود للشياطين، حتى لا يشعر العامة بسوء ما يأتون. وهذا مبدأ عام (مبدأ تغيير الاسم إلى ما يكون محمودا في العادة) تعمل عليه الشياطين دائما. ولنعد إلى ما كنا بصدده لنقول: ما كان ينبغي أن يكون للإسلاميين مصالح غير الأحكام الشرعية، لو كانوا يريدون حقيقة نصرة الدين في مجتمعاتهم. ولقد ذكرنا تجربتنا معهم، وكيف أنهم لم يتمكنوا في مراحل تعرضنا للبلاء الشديد، من مساندتنا، كما يقتضي ذلك الشرع؛ خوفا من أن نصير لهم منافسين في الساحة، بحسب توهُّمهم. ولن نطيل الكلام في هذه المسألة، حتى لا نجعل نفسنا محورا لآرائنا، ونحن من اعتدنا -بحمد الله- التنكر لها... د. معنى الغيب: لقد جرى على ألسنة أتباع جماعة العدل والإحسان كثيرا مصطلحُ الغيب، مع إخراجهم له عن حدّه المعلوم من الشرع؛ حتى إننا سمعنا من يقول (والكلام في الأصل بالعامية): "الإتيان بالغيب"، ولا يقصد منه إلا العمل بمقتضى الرؤى. وهذا تحريف لمعنى الغيب من غير شك، يدل على أن الخائضين في هذه المعاني من العوام فحسب. وأما الغيب في أصله، فهو عالم في مقابل عالم الشهادة. وعلم الغيب يؤتيه الله من يشاء من عباده، بخلاف ما يعتقده المتسلفة وأمثالهم، الذين لا يُعربون إلا عن مكانتهم العقلية والعلمية. يقول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا . إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]. وما كان استثناء للرسل، فإنه بالتبع استثناء للورثة؛ وإلا فكيف يستمر الدين في الناس بعد انتقال الرسل عليهم السلام!... وحتى ندل على كذب المتسلفة ومن تابعهم، فإننا نحيل إلى عقيدتهم في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، التي سنجدها تمنع من اعتقادهم علمه صلى الله عليه وآله وسلم بالغيب. ولهذا فهم يعاملونه، كما يعاملون أفراد الناس من أهل المراتب الدنيا من الدين. ولو كانوا كما يزعمون، على الحق، لأثبتوا علما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يتجاوز علم الشريعة الذي أُمر بتبليغه؛ والذي لا يُشاركه فيه أحد -من أهل الغيب بله غيرهم-، إلا كما يشارك البعض الكل، إن تحقق الاستمداد لصاحبه. ويدخل في هذا الباب أيضا، فهم الجاهلين لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]؛ فيتوهمون أن لا أحد من عباد الله يعلم ما في الأرحام وما تكسب الأنفس في مستقبلها (ما يكون مآلها)، ووقت ومكان موتها. مع أن أبا بكر رضي الله عنه، قد علم ما في رحم زوجه، عندما أوصى السيدة عائشة عليها السلام. تقول عليها السلام، بحسب ما جاء في الموطأ: "إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: "وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةُ، مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ غِنًى بَعْدِي مِنْكِ، وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا بَعْدِي مِنْكِ؛ وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ كَانَ لَكِ؛ وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاكِ وَأُخْتَاكِ؛ فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ!". قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا أَبَتِ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ، إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاءُ فَمَنِ الْأُخْرَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: "ذُو بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ أُرَاهَا جَارِيَةً!. فها هو أبو بكر يعلم ما في الأرحام!... ولو شئنا لأتينا بمَن يعلم كل ما ذُكر في الآية من صنوف الغيوب من رجال هذه الأمة؛ ولكن مقصودنا هنا، كسر القاعدة المعمول بها لدى العامة فحسب، لا التفصيل. فإذا كان الله يُطلع من شاء من عباده على ما يشاء، فالسؤال هو: هل أبو بكر هو الأوحد في هذا الشأن؟ أم إن الأمر أوسع؟... وحتى نجيب، سنذكر بعض حالنا وقت إرادتنا مع شيخنا رضي الله عنه: عندما بدأ يظهر على العبد الضعيف فضل الله زمن الإرادة، وبما أننا كنا لم نخبُر بعد تفاصيل المعاملات، فإننا كنا عُرضة لحسد الحاسدين من رفاقنا. وبما أن مقدم الزاوية التي كنا ننتسب إليها، كان كارها لنا، فقد تولى أمر حياكة المؤامرات لنا، والتخطيط لما قد يسيء إلينا؛ وأنا كنت على عادتي سليم الباطن حسن الظن بالآخرين. فوالله، لقد بلغ بنا الأمر أن كنا نرى في المنام المـَشاهد، ونُبقيها مع التسليم في الغيب، ولا يتغير باطننا ورعا وخشية لله. فكنا نُفاجأ عند اجتماعنا مع جماعتنا، بالمشهد وهو يتكرر بتفاصيله الدقيقة في عالم الشهادة، كما رأيناه غيبا، من دون زيادة ولا نقصان. فكنا نعلم عندئذ أن الله أراد أن يقينا السوء الذي كان يُدبَّر لنا. ووالله لقد بلغ الأمر أنه عندما كان يتكلم أحد الحضور، كنت ألتفت إلى غيره وأنتظر خروج الكلام منه، على ما علَّمنيه الله، فكان يخرج كما عُلِّمناه. وكان القوم في ذلك الوقت، يريدون إلباسي تهمة سياسية، يتولى المخزن فيها عنهم أذيتي؛ حتى إنهم كانوا (المقدم على التخصيص) يشبِّهونني كثيرا بالأستاذ عبد السلام ياسين، مع أنني مستقل في شخصيتي، وأتحرى الصدق في معاملة ربي. وعلى كل حال، فعلى أتباع العدل والإحسان أن يعلموا أن علم الغيب لا ينحصر في الوقائع والأحداث المستقبلية؛ بل إن أجل علم من علوم الغيب العلم بالله، ذاتا وصفات وأفعالا. وهو علم عزيز جدا، لا يخوض ساحله إلا العارفون بالله. وأما وسطه وعمقه، فإنه يخرج أحيانا عن العلوم المتكلم فيها من الأصل. وهذا من العلم الذي يخرج حتى عن علم الملائكة، بحيث لا يكونون فيه إلا عالة على الفرد من بني آدم. ولهذا السبب تجد كبار الملائكة، يحضرون مجالس المتحققين منا، بأدب جم وتعظيم. فعلى العدليين أن يوسّعوا من فهمهم للغيب، وأن يتفطنوا إلى أن مقولاتهم فيه، لا تليق عندنا بالمريدين المبتدئين!... وأما النزول بعلوم الدين إلى مرتبة المتكلم العامي، فهو فعل قد ارتكبته الفرق المختلفة، واتصف به المقلدة من كل زمان. والتميُّز (في مجال التزكية والعلوم الدينية) لا يكون بما هو مشترك بين العموم، ولكن بما هو خاص ممتنع عن غالبية المسلمين!... ه. وجوب التفريق بين الدين والأيديولوجيا: وآفة الخلط بين الدين والأيديولوجيا تكاد تكون عامة، بسبب غياب التزكية التي تجعل الناس يذوقون الدين، ولا يبقون أسارى التصورات العقلية. ولقد سمعنا من مفكري العدالة والتنمية أيضا، ما يدل على خلطهم الخطير بين المعنييْن؛ وكأنهم بهذا قد صاروا على مثل ما هم عليه العلمانيون الملحدون. وإن المرء يعرف هؤلاء المنحرفين بعبارات مخصوصة من مثل: "فكرة الدين"، "فكرة الإيمان"، وغيرها... أما العلمانيون فيزيدون عليهم بـ "فكرة الله"، لأنهم يظنون أن الله قد ولدته عقول العباد بدواعٍ "نفسية" و"اجتماعية"؛ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا... وعلى أتباع الجماعة، لكي يتخلصوا من خلطهم بين الدين والأيديولوجيا، أن يسكتوا أولا عما هو من الدين؛ لأنهم باعتماد التنظيرات والتفسيرات العقلية له، فإنهم يدخلون في الأيديولوجيا من غير أن يشعروا. وهم بسبب عدم ذوقهم للإيمان (بله الإحسان الذي يتشدقون به)، سيبقون متوهمين أن الدين هو ما يعلمون!... وهيهات!... ولا شك أن تنظير المرشد الذي غلبهم فكريا، كان السبب الأول في هذا الانحراف الخطير لديهم؛ لأنه قد سبقهم إلى التفسيرات العقلية للتاريخ وللدين، من جهة العقائد على الخصوص. وأما السبب الذي أوقع المرشد في هذا، فهو عدم اكتمال تربيته على يد شيخه، وتعجله قطف ثمار تديُّنه. فجعله ذلك، يُكمل نقصه المعرفي بالفكر؛ توهما منه أن الأمر لا يعدو أن يكون معلومات ممحصة على طريقة المتفلسفة، مع الإبقاء على سياج ديني يفرق بينها وبين سواها من بنات أفكار العالمين. والأتباع إن هم استطاعوا السكوت، فعليهم أن يبحثوا بعد ذلك عمن يربيهم تربية شرعية غير أيديولوجية. وهذا أمر شاق، على من اعتاد الأيديولوجيا، وما فيها من تعمُّل، يجعل صاحبها يلتذ بها ويستمتع؛ خلافا لطريق الإيمان الذي لا تعمل فيه غالبا إلا بالبدن والجوارح، مع خرس العقل وسكوته بين يدي ربه. ولو شئنا أن ندلل على كلامنا من كتابات العدليين وكلامهم، لاتسع الأمر علينا، بسبب غلبة الجهل عليهم؛ ولكننا نهمل ذلك لكونه لا يرقى إلى ما يستحق الرد. ونحن إن كنا قد توقفنا عن ردنا على المرشد نفسه، في كتابه "الإحسان"، بسبب تكرار الكلام، وبسبب نزوله في الإدراك عما يجدر أن يُتناول؛ فكيف بمن هم دونه بكثير!... 6. خاتمة: (يتبع...) |