انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني Translated
Sheikh's Books |
2018/12/06
العمل الإسلامي ... - 13 -
أثر التوجه في العمل السياسي التوجه هو قصد القلب عند كل عمل؛ وهو مأخوذ من الوجه. والعبد يكون متوجها إلى الشيء إذا قابله بوجهه وقَصَده. وقد نبه الله إلى خطورة التوجه، في مثل قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]. وأما إسلام الوجه، فهو للواصلين الذين استغنوا عن التوجه المقيد؛ يقول الله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، ويقول سبحانه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115]. ومن فروع التوجه النية، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى؛ فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.»[1]. وبما أن العمل الإسلامي يُفترض فيه أن يكون لله، فإنه كان يجدر بأصحابه أن يقصدوا الله به، وأن تكون نيتهم مما هو معتبر في الشرع، ومما هو مقرب إلى الله. لكن الذي نجده في الواقع، يخرج عما ذكرنا في أحيان كثيرة، ويدخل فيما هو انحراف عن التوجه الشرعي، ويكون توجها إلى ما نهى الله عنه. ولقد دخل هذا الانحراف على المسلمين عموما، وعلى الإسلاميين خصوصا، من الفكر الغربي الكفري، الذي لا يعلم متوَجَّها إليه غير الدنيا. ولما كان نظر أصحابنا إلى الظواهر وحدها، بسبب طغيان فقه الظاهر منذ القرن الأول كما ذكرنا مرات؛ وبسبب دخول المسلمين في غفلة عامة، أصبح الناس معها لا يفقهون من الباطن شيئا؛ فقد وجد الفكر الكفري الداخل إلى بلداننا مع الاستعمار، موضعا إلى جانب الموروث الذي لم يقوَ على صده لضعفه ولإيغاله في التفكر مع الزمان دون تحصيل التنوُّر. بل إن المسلمين عندما رأوا الدول الكافرة تسبقهم صناعيا وعسكريا، توهموا أن الدنيا لا تُحصّل بالدين كالآخرة؛ وإنما لا بد في ذلك من التأسي بالكافرين، الذين قد توجهوا إليها بالكلية؛ خصوصا وأنهم لا يعلمون حقيقة قول الله تعالى عن الكافرين في حالهم مع الدنيا: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7]. فلقد فاتهم أن علم ظاهر الدنيا، ليس هو علم الدنيا؛ وفاتهم أن الكافرين لا يتمكنون من بلوغ العلم بالدنيا أبدا، وإن جهدوا جهدهم. ذلك لأن العلم بالدنيا لا يصح إلا لمن علم الآخرة، لكون العلم بإحداهما منوطا بالعلم بالأخرى؛ وعلم الآخرة لا يكون إلا للمؤمنين. ولما تأسى المسلمون بالكافرين في تصورهم للدولة وللمجتمع، انعكس منهم التوجه مما هو شرعي، إلى المقولات الفكرية الفلسفية السياسية، التي ما علموا منها إلا ظاهرها هي أيضا. وعند انعكاس التوجه، ستصير الأمة أرضية بعد أن كانت سماوية؛ ويصير حالها مطابقا لما حذر الله منه، في مثل قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22]. عندما غيرت الأمة توجهها جزئيا منذ الدولة الأموية، عند توجه حكامها إلى الدنيا واتباع فقهائها لهم في ذلك؛ وعندما أكملت انحرافها بصورة شبه كلية مع نهاية الدولة العثمانية ما بعد الاستعمار، فإنها قد أصبح حكمها حكم الدول الكافرة من جهة الظاهر. وإن كان بعض الناس سيستعظم ما نقول، فإننا نؤكد على أننا قلنا: "أصبح حكمها حكم الدول الكافرة"، وقلنا: "من جهة الظاهر"؛ وهو غير الحكم عليها بالكفر. فإن لم يقنع البعض بما ذكرنا، فليعتبر حكم الكفر الذي نذكره، من صنف كفران النعم؛ بما أن الأمة قد آثرت الفكر الكفري السياسي في عملها، على الشرع الإلهي الحكيم. ومن يَعُدْ إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ!»[2]، يعلمْ هذا الكفر العملي الذي تكلمنا عنه. وأما الكفر التام، فإن الله قد عصم الأمة منه ببركة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يعني أن الأمة -كما نرى- باقية على الإسلام، رغم كل الانحرافات العقدية والعملية لديها؛ لكنها في المقابل، ليست على كامل قواها الإيمانية ولا على كامل ثمارها. فهي أمة مريضة، لن تستعيد عافيتها إلا مع الخلافة الخاتمة، التي لا ندخر وسعا في التذكير بها. وهذا المرض العام، لا ينفي أيضا بقاء طائفة منها على الصحة الإيمانية المستتبِعة لصواب العمل، وإن كان ذلك لا يبدو ظاهرا لكل أحد. هذه الطائفة، هي طائفة الخواص الذين يقل عددهم بالمقارنة إلى الزمن الأول. يقول الله تعالى عنهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ . وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14]. إن المتأخرين من المسلمين، لا يعلمون من الإسلام إلا ما وجدوا آباءهم عليه؛ ولو علموا الإسلام في صورته الأولى، لتمكنوا من مقارنة حالهم إلى حال الصحابة والتابعين حقيقة، من جهة الباطن قبل الظاهر، ليعلموا بعد ذلك حتما أنهم على دين محرف في كثير من جوانبه. وإن أول ما كان ينبغي أن يجدوه من الفوارق بين المتقدمين والمتأخرين، ما يتعلق بالتوجه الذي نتكلم عنه. وإن عدنا إلى التربية التي يتلقاها الناس في بيوتهم اليوم، لوجدناها تكاد تكون دنيوية في معظمها، بسبب توجه الوالدِين إلى الدنيا، وحض أبنائهم من بعدهم عليها. ولقد بلغ الأمر أشده، عندما صارت العلوم "الدينية" دنيوية هي الأخرى، لا يكاد يرجو أصحابها من ورائها إلا المناصب والجاه عند أرباب الدنيا والجاه. ولقد لمسنا هذا لمسا من علماء "متخصصين"، صار همهم بعد التخرج لا يجاوز طرائق اقتناص الدراهم والجنيهات. وإن هذا التوجه بسبب شيوعه ورسوخه في الأجيال، يكاد يقتل الدين قتلا، لتبقى الساحة فارغة أمام كل التنظيرات الفلسفية والسياسية العالمية، التي لا خبر لأصحابها عن الآخرة... عند اتباع الأمة لسَنَن من قبلها، فلا بد أن تصيبها الآفات التي أصابت الأمم الأخرى، والتي في أولها ترسيم الدين وحصره في "الطقوس" الجماعية بحسب المناسبات. وعندما تصير أمة ما متمسكة بطقوسها كما تفعل جل الأمم اليوم، فإن ذلك يعني أن الدين لديها قد مات أو يكاد. ذلك لأن الدين الحي، يعمل في النفوس لا خارجها؛ ويُعظّم في القلوب لا بالاحتفاء الظاهري المحصور في أماكن مخصوصة، أو في أوقات مخصوصة. وهذه الآفة، هي أخص ما كان يواجهه الأنبياء عليهم السلام في أزمنتهم؛ لكونها المانعة دائما عن إدراك روح التشريع لدى الأقوام المختلفة. وجدلية الظاهر-الباطن، لا تخطئ إن كان الناظر إليها من أولي الألباب، وكان نظره بعينين لا بعين واحدة. نعني أن ما زاد في الظاهر، فهو من نقصان الباطن، والعكس. وبما أن التوجه له هذه القيمة المحورية في الدين، فإن أثره سيكون على الجانب السياسي بالغا. ومن ذلك ما وقع للإسلاميين عندما أرادوا التصدي للإصلاح في أمتهم بحسب ما يزعمون. وإن أول ما يدل على انحراف توجههم وانقلاب وجهتهم، ظنهم أن الإصلاح السياسي شرط (يكاد يكون الأوحد) في الإصلاح العام. ولولا انحصار إدراكهم في الدنيا، ما كان لهم ظن ذلك، ولا أغفلوا معه ما لسلامة القلب لدى الأفراد من قيمة قصوى. ولما انخرط الإسلاميون في العمل السياسي الذي جعلوا همهم فيه الوصول إلى الحكم، فإنهم قد صاروا عرضا من أعراض مرض الأمة، لا سببا من أسباب شفائها، من دون أن يشعروا. ذلك لأن إدراكهم للدين لم يتجاوزوا فيه الدنيا صحة وبطلانا، وإن زعموا غير ذلك. وقد يلتبس الأمر على كثير من الناس عندما يجدوننا نؤكد على عدم تجاوز إدراك الإسلاميين في الدين للدنيا، مع ما يسمعونه في خطابهم عن الآخرة... ولا بد هنا من أن نفرق بين الكلام والإدراك؛ ولو عدنا إلى معنى "الآخرة"، لوجدناه مرتبطا بالدنيا؛ ولولا أنه لا دار بعد الآخرة، لكان اسمها الثانية؛ والثاني لا يكون ثانيا إلا باعتبار الأول. نعني من هذا أن إدراك الآخرة يكون من الدنيا، ويأتي في المرتبة الثانية منها من حيث الترتيب العقلي. نقول هذا، لأن كثيرا من الناس، يظن أن إدراك الآخرة لا يكون إلا بعد الموت. نعم إن كان المقصود بالموت الموت المعنوي، فالأمر صحيح؛ لكن الإدراك يبدأ من هنا. وأما ما هو من شأن الآخرة خاصة، فهو ذوقها ومشاهدتها بالعين. وهذا زيادة وضوح في الإدراك الأول، لا إدراك جديد. ولولا أن الأمر على ما ذكرنا، ما كان الله ليصف لنا مشاهد الآخرة ونحن في الدنيا. إذ كيف سنعقل الخطاب لو كانت الآخرة مستقلة على التمام عن الدنيا!... ولا وُجد فرق بين المؤمن والكافر، عند استواء الإدراك منهما في الدنيا!... هذا لا يكون!... وقد يكمل إدراك الآخرة لكبار الأولياء في دنياهم، بحيث لا يبقى لهم بعد ذلك، إلا معاينة ما أدركوا. وفي هذا المعنى قال عليّ عليه السلام: "لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا". ولم يتنبه من الإسلاميين أحد لهذه الآفة الخطيرة، بسبب إهمالهم جانب التزكية إهمالا تاما. وحتى الأعمال التي يُراد منها في الأصل وجه الله، لم تعد مع قوة الحجاب لديهم، إلا طقوسا جوفاء؛ وإن حرصوا على الإتيان بها حرصا شديدا، يظن معه الجاهل أنهم أعبد الناس لله؛ وهم في الحقيقة يكادون يخرجون منها بإفلاس نوري شبه تام. وبهذا صارت العبادات لدى الإسلاميين أعمالا تثبت أيديولوجيتهم، كما تتخذ الأحزاب والمنظمات الأيديولوجية لنفسها حركات وأناشيد توظفها للغرض ذاته. إن هذا الأمر في الحقيقة قد زاد من قلة المتدينين، وإن كثر معه عدد المتأدلجين؛ والمظاهر لا تطابق دائما المخابر، كما هو معلوم... إن الإسلاميين عندما رأوا أعدادهم تفوق في بلدانهم أعداد العلمانيين وأعداد السياسيين المتحزبين، ظنوا أنهم قد بلغوا النصاب المشروط في المغالبة السياسية الداخلية؛ وظنوا أن بإمكانهم فرض شروطهم على أنظمة الحكم وعلى الشعوب. ولقد أبانوا عن هذا الاقتناع بأجلى صورة، عندما اجترأوا على الحكام بغير الحق، وعندما احتقروا الشعوب حين نظروا إليها نظرة المتبوع إلى التابع، الذي ليس له إلا أن يسمع ويطيع. والحقيقة في هذا كله، هي أن الإسلاميين الذين هم على باطل في علمهم وفي عملهم، قد دخلوا -في أحسن الأحوال- في صراع مع الباطل الذي لدى الحكام ولدى الشعوب. ومغالبة الباطل للباطل، لا يتمخض عنها شيء، وإن رام أصحابها إلباسها لبوس ما هو معظّم في الدين، كالجهاد والإصلاح وغير ذلك... ولم يكن حال الإسلاميين في عملهم بأفضل مما كان المسلمون عليه يوم أن قال الله عنهم: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]. ورغم الهزائم المتتالية للإسلاميين (الإدبار)، على أصعدة عدة، فإنهم لم يعتبروا إلى الآن، ولا تابوا، ولا أعادوا النظر في مقدماتهم!... وهذا هو الذي نعيبه عليهم؛ لأن الخطأ متوقع من كل أحد، وأما الاستمرار عليه فهو الطامة التي لا تليق بأهل الدين البتة. عندما تعمى القلوب، ويعود أصحابها غير مدركين إلا لما هو محسوس، فإن الدين وقتها سيصبح ماديا، وإن زعم أصحابه أنه باق على أصله. وهذا الدين المادي، لا معاملة فيه لله حقيقة؛ وإنما هي أعمال تُحسب حسابا شبيها بما يكون عليه عمال المصانع والشركات مع أربابها. وهذا يجعل العمل الديني المادي، لا تُعتبر فيه الأحوال القلبية ولا البواعث، على ما لها من أهمية دل عليها الوحي صراحة. وهو ما يجعل الجماعات الدينية التي تصر على الإتيان بنوافل الصلاة والصيام والصدقة (إتيانا ممنهجا قابلا للعد بحسبها) غير آبهة لما لا يدخل تحت القياس المادي من نيات وأحوال قلبية، تحكم على الأعمال وترجح بعضها على بعض. ولولا هذا الذي نشير إليه، ما وجد كثير من الناس يوم القيامة عكس ما كانوا يتوقعون؛ كما حكى الله عن قوم يختصمون في النار: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ . أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 62، 63]. والأمر ليس محصورا في هذا الفريق وحده؛ بل يقابله من كان من المؤمنين مسيئا للظن ببعض إخوانه في الدنيا، عندما يجده أفضل منه في الآخرة. والعكس أيضا صحيح، عندما يجد بعض الناس من كانوا يظنونهم على شيء في الدنيا، على عكس المظنون بهم في الآخرة... إن الأمر ليس اعتباطا، ولا هو منوط بأحكام الناس بعضهم على بعض في الدنيا، كما يتوهم الغافلون؛ وإنما هو الميزان الحق، الذي لا يحابي أحدا، ولا يتقصد أحدا... وبما أن المتأخرين لم يعلموا الصورة الأولى للدين، التي كان عليها الصحابة الكرام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم سينقطعون عن التأسي بمعناه الصحيح، ليدخلوا في ابتداع طرق خاصة بهم، لا يعلمون من نتائجها إلا ما يتعلق بدنياهم حصرا. ومع هذه الحال، فإن الدين سيفقد حقيقته، ويبقى صورة جوفاء تملأها الأيديولوجيا، من دون أن يشعر الناظر بذلك. ولو شعر الناس بالانقلاب الحاصل في التدين، لما انخدعوا بجل الإسلاميين؛ ولدعوهم إلى تصحيح تدينهم بدل الدخول فيما لا يُدركون من أحوال الأمة، ظاهرا أو باطنا. وحتى الحكام لو علموا ما نقول، لسهل عليهم الرد على الإسلاميين بإلزامهم لوازم كلامهم في أنفسهم؛ ولكنهم أسوأ منهم في أحيان كثيرة، من جهة إدراكهم للدين، ولما هو متعلق بالآخرة. فكأن الصراع الناشئ بين الحكام والإسلاميين، والذي اشتد في بعض البلدان حتى بلغ المواجهة المسلحة، لم يكن في حقيقته إلا عراكا بين عميان من الجانبين. وبما أن الفقه الرسمي أو شبه الرسمي، قد انقطع عن النور منذ الزمن الأول، فإن المحكَّمين (الفقهاء) في هذه المعارك أيضا، كانوا مع هذه الحال عميانا منضمين إلى الأولين. وهذا هو سبب عدم خروج الناس بشيء من العلم، حيال ما تعيشه الأمة من أحداث ووقائع، ينضاف فيها الجديد إلى الموروث القديم. مع الغفلة العامة، توهم مريدو الإصلاح أن قصد الآخرة يكون بالتمثل الفكري، الذي لا يعلمون طريقا غيره. فصار الخطاب الديني مع الفكر أيديولوجيا، لا يميّزها أصحابها؛ وإن كان خصومهم ممن يُعادون الدين، يكادون يجزمون أن هذا الدين لا يختلف عن كثير مما هم عليه من حيث الوسائل والغايات. وهم على حق في ذلك!... ولعل هذا هو السبب الرئيس وراء التطرف العلماني الذي تعرفه البلدان العربية على الخصوص، والذي يتعجب منه الإسلاميون ويظنون أنه من شدة كراهية الدين؛ في الوقت الذي هو فضح للتدين الزائف من المتدينين، وإدراك للجانب الوضعي فيه، بأكثر مما لأصحابه ذاتهم. ورغم أننا لا نقر العلمانيين على شيء مما يقولون بخصوص الدين، إلا أننا نرى أنه من الإنصاف الدلالة على طريقتهم في تعرّف الدين، وعلى إصابتهم الحق في بعض ما يستنتجون. ولو أن الإسلاميين تفطنوا لما نقول، لعادوا على تديّنهم بالتمحيص، بدل تنزيه أنفسهم وتزكيتها، مع إساءة الظن بالآخرين ورميهم بأقذع النعوت. لكن الإنصاف خلق يعطيه التدين السليم، لا الأيديولوجيا الإسلامية!... لهذا كانت هذه المواجهة الداخلية في بلداننا، تكاد لا تنتهي إلى غاية؛ مما سيجعل الأمة كلها مرهونة لسياسات خارجية تعبث بها وتنصر طرفا على آخر بين الحين والحين، لتبقى نار الفتنة موقدة وعاملة فينا بما لا تستطيعه جيوش الأعداء مجتمعة... إن بداية التدين الصحيح، لا تتأتّى إلا بعد تحقق يقظة القلب؛ وهذا أمر بعيد المنال عمن هو غارق في غفلة مطبقة، وإن كان يزعم أنه من أهل الدين. فعندما نجد الله يقول -مثلا- في كلامه العزيز: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37]، فهذا يعني أن من العباد من لا قلب لهم حكما. ومن لا قلب له، كيف يعرف الدين أو كيف يعلم تفاصيل معاملاته؟!... إن غالبية المسلمين في عصرنا محتاجون إلى يقظة قلبية تعود بهم إلى حقيقتهم الآدمية، التي هم حتما لا يذكرونها. إن ما يجده بعض المتدينين من انفعالات عاطفية إزاء بعض الكلام أو بعض المواقف، ويظنون معها أنهم على قدم الأولين من جهة المعاملات القلبية، ليس هو ما نتكلم عنه، ولا هو حقيقة ما سميناه يقظة قلبية؛ لأنه لا يختلف عما يجده الكافرون أيضا، فيما هم عليه. بل إن بعض الكافرين من أصحاب القلوب الرقيقة، أشد انفعالا من جل المسلمين. فكيف يكون المشترك معيارا يمتاز به أهل الدين عن غيرهم؟!... هذا لا يكون!... إن يقظة القلب لا يعلمها المرء عن طريق التصور، وإنما هي حال يعرض لمن شاء الله له أن يسلك طريقه المستقيم، الذي ليس إلا الدين عينه؛ لكن بإدراك مختلف عن الإدراك الحسي المشترك. لولا هذه الميزة الفارقة، ما كان الدين ربانيا حقيقة، ولا كان طريقا إلى العلم بما لا يُحصّل إلا منه. إن هذه الحقيقة وحدها، لو ظهرت للناس على صورتها من غير تحريف ولا قصور، لكفت في دلالة غير المتدينين على الدين، وفي دلالة المتدينين على التحقق بالدين، بدل التوهم والظن اللذين لا يغنيان من الحق شيئا، وإن احتيل لهما بالتنظير الأيديولوجي ما أمكن!... يتساءل المسلمون كثيرا، خصوصا عند الشدائد والأزمات: لمَ نعيش الهزائم تلو الهزائم، على جميع الأصعدة، ونحن على الدين الحق، الذي هو السبب الأول في تحقيق الانتصارات، بحسب ما ورد به الوحي؟!... ولم نسمع أحدا يجيب عن هذا التساؤل بما يرضي المتسائلين، ولا بما ينبئ عن علم معياري صحيح، يمكن أن يُتخذ طريقا إلى تغيير الحال. والحقيقة هي أن المسلمين ينهزمون، لأنهم ليسوا على الإسلام حقيقة (من دون أن نكفرهم). هم على أيديولوجيا إسلامية، لا على دين!... وهذا لم يتبيّنه حتى فقهاؤهم، ليدلّوهم عليه إن هم أرادوا؛ فكيف بمن لا فقه له ولا علم!... إن المسلمين في حاجة اليوم إلى أن يُدعَوا إلى دينهم من جديد، بدعوتهم إلى التدين الصحيح. وفي المقدمة من هذا، عليهم أن يختاروا الإسلام كما اختاره الأولون، بدل الاكتفاء بوراثة صورته عن الأجداد والآباء!... لن يجد المتأخرون ما وجد الأولون، إلا إن هم سلكوا طريقهم، وعانوا معاناتهم؛ وأما إن اختلف الطريقان، فإن النهايتين لا شك ستختلفان أيضا. وهذا سيظهر جليا في مشاهد الآخرة، كما حكى الله عن أحدها، في حوار بين الأصلاء والمبدّلين، إذ يقول سبحانه: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}، أي: ألم نكن على طريقكم ذاته؟... {قَالُوا بَلَى}، أي كنتم عليه صورة وظاهرا، ونحن شاهدنا ذلك منكم؛ {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ}، أي: بتوجهكم ظاهرا إلى الحق وباطنا إلى الباطل، بحسب ما نرى الآن. وهذا هو ما يكون عليه جل المسلمين، عندما يتبعون سنن اليهود والنصارى وفارس والروم. {وَتَرَبَّصْتُمْ}، أي: بتشبثكم ظاهرا بالدين، كما يفعل المؤمنون الأحقاء. {وَارْتَبْتُمْ}، أي: شككتم في أعماق أنفسكم، بسبب ازدواجية توجهكم. {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ}، أي: وسعتم على أنفسكم بإفساحكم لها في التّأوُّل، بما لم تُخوَّلوه من قِبل الشارع، وإنما ابتدعتموه من عند أنفسكم. {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ}، أي: الموت وما بعده؛ حيث لا مجال للخداع. {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}، أي أمدكم الشيطان بما جعلكم تتمادون في ضلالكم، على ما تزعمون في أنفسكم من إصابة الحق بحسبكم، لا كما جاء به الوحي من عند الله. {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 14، 15]. فكانت النتيجة مخالفة لأماني المنافقين، وكانت صدمتهم شديدة عند إفاقتهم على الواقع الذي كان ينبغي أن يحتاطوا له في دنياهم، بما كانوا يرونه ربما تشددا، أو انغلاقا، أو تخلفا، أو غير ذلك مما يُستهوى به ضعفاء العقول من إرهاب نفسي عالمي غير خفي... وقد يعترض معترض فيقول: إن ما أوردته، ينطبق على المنافقين؛ فكيف تنزله على المؤمنين؟... أليس هذا مما تنكره على المكفّرين في أحيان كثيرة؟!... فنرد: إن النفاق منه الأكبر ومنه الأصغر (الجزئي). فأما الأكبر، فنحن ننزه الأمة عنه، وننكر على من يرميها به من غير تردد؛ وأما الأصغر، فلا سبيل إلى تنزيه بعض المسلمين عنه، وقد دل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجوده من بعضهم في قوله: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا؛ وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.»[3]. والآن فلينظر الناس إلى هذه الصفات، وليتتبعوها في المجتمعات، ليعلموا مدى انتشار النفاق بين المسلمين اليوم؛ بل ليقيسوا بها الإسلاميين، وليشهدوا منهم العجب!... ولقد سمعت مرة من يُنكر النفاق بسبب غياب سببه الذي كان موجودا لدى الأولين، والذي هو الخشية على النفس من إعلان الكفر بين المسلمين. والحقيقة هي أن ذاك نفاق الاضطرار، وأما نفاق الاختيار فهو سار في الناس إلى يوم القيامة؛ لأنه يعود إلى الاستعدادات، وإلى أمراض القلوب الناجمة عن المخالفات. إن ما يراه الإسلاميون ضروريا للإصلاح العام، من تغيير سياسي واجتماعي، ليس هو البداية الحقيقية كما يظنون؛ لأن شعوبنا لن يتغير لديها شيء معتبر، مما يكون عودة حقيقية إلى أصل الدين، وهي على حالها من هذا الخلط في المقدمات، ومن هذا التنافر بين المقدمات والنتائج المرجوة؛ إلا أن يكونوا قاصدين من وراء التغيير، لِما تعطيه الديمقراطية من مساواة صورية ومن توزيع مقبول للثروات، كما نسمع كثيرا. فإن كان هذا، فهو من الدنيا لا من الدين؛ ومن يقصده يكون قاصدا للدنيا لا للآخرة!... ولا ينفع هنا ما يُتوسل به من قول بتحقيق العدل المأمور به شرعا، أو غير ذلك من المقولات المكرورة الممجوجة... إن تغييرا كهذا، ليس من الإصلاح بالمعنى الشرعي؛ لأن هذا الأخير يُعنى أولا بالتوجه القلبي الذي ينبغي أن يكون لله واليوم الآخر. ومع تصحيح التوجه، فإن المسلم لا يأبه كثيرا بما يحصّل من الدنيا، لعلمه بأنه مأجور في كل مصائبه فيها، ولعلمه بالفراغ من الأرزاق والأقدار أزلا؛ بخلاف الإسلامي المتأدلج الذي يفر من هذا ويراه تحريفا للدين؛ دينه الذي هو عليه، لا الدين الأصلي!... إن المسلمين اليوم أمام اختيار حقيقي: هل يريدون الإسلام كما هو؟ أم يريدون إسلاما يخترعونه اختراعا؟... ولا فائدة من الاستدلال لما يريدون ببعض النصوص؛ لأن التحريف الذي طال الدين من جهة توظيف النصوص، هو السبب الأول لما نحن فيه. والاستدلال المعتبر في الدين، هو ما يكون على نور، لا على هوى وتغليب ظن... ولا نظن أن كثيرا من المسلمين سيختارون الدين في نسخته الأصلية، بحسب ما نرى؛ لأنهم لا يريدون آخرة إلا إن كانت مقرونة بالدنيا، في أحسن الأحوال؛ لشدة ميل قلوبهم إلى شهواتهم ومرغوباتهم العاجلة. فحتى عندما يوهمون أنفسهم بالعمل للآخرة، هم في الحقيقة مريدون لدنيا عاجلة يطمعون أن تكون متبوعة بما هو من جنسها؛ وكأنها دنيا مستمرة، لا آخرة... هذا هو مفهوم الآخرة لدى كثيرين!... وهو مفهوم لا شك شائه، ومخالف للحد الأدنى من التصور الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم. ولو تأملنا في لفظ "الآخرة"، لوجدناه يدل من الوهلة الأولى على كونها بديلا عن الدنيا؛ يرجوه من جاوز إدراكه المحسوس والعاجل. فالأمر مقابَلة من البداية بين أمرين، واختيار بين متقابلين؛ لا أمانٍ قائمة على التوهم ومحاولة للجمع بين ما لا ينجمع إلا في الخيالات المريضة ولدى العقول المنتكسة. لن نقارن هنا، بين أحوال الصحابة المرضيين، وما عليه المتأخرون، للدلالة على ما نقول؛ لأن الأمر سيبدو وكأننا نتكلم عن دينين مختلفين، لا عن دين واحد!... ولقد صدق من قال: "لو رأوكم لقالوا عنكم كافرين، ولو رأيتموهم لقلتم عنهم مجانين!". من شدة ضعف التدين لدى المتأخرين، أصبحوا لا تنفعل قلوبهم حتى لما هو من قبيل الخوارق المحسوسة، التي كان يهتدي بأقل شيء منها الأولون. ولقد رأينا من الناس في هذا الباب العجب!... وهذا تطرف في المادية، لم نسمع به حتى عند الماديين من أهل الكفر. وكأن الله بما ذكرنا، يدلنا على سوء عاقبة من يتدين تدينا معكوسا، يبغي به صاحبه الدنيا لا الآخرة. وبهذا المعيار العام، الذي هو التوجه، نخلص إلى أن الأمة في حال تتطلب الإسراع بالعلاج الشرعي الناجع، إن كنا نريد تغيير ما بأنفسنا من سوء. وعلى هذا، فإن حصر الداء في الشق السياسي وحده، كما يفعل الإسلاميون، ليس توصيفا صادقا يُبنى عليه في اتخاذ الخطوات العلاجية الملائمة، بقدر ما هو استثمار للمرض العام، من أجل بلوغ غايات بعيدة عن الآخرة وما يتعلق بها. إن الدخول في الصراعات الداخلية، وإن كنا نسلّم لها من الجهة القدَرية، لا يمكن أن يكون مما يأمر به الدين؛ وإن احتال المغالون فيه لإقصاء من يشاؤون، كما يفعلون عند تكفير بعض الحكام. ولو لم نسمع ذلك بآذاننا، ما كنا نصدق أن من المسلمين من يجرؤ على تكفير أحد من المسلمين. إنها مصيبة عظمى حلت بنا، لو كان الناس يعلمون!... إن لم يكن المسلمون الآن مستعدين للإقبال على الله وما يقرب إليه من عمل، فلا أقل من أن يكفوا عما هو خالص للدنيا مبعد عن الآخرة؛ ولا أقل من أن يمسكوا ألسنتهم وأيديهم عن عموم المسلمين؛ حتى لا نزيد من تسعير الفتن وتأجيجها. إن عدم الفعل وإن كان ذنبا، أفضل من فعل الذنب؛ وإنّ ترك الذنب الذي يعم أثره، أفضل من ترك الذنب الذي يخص، من غير شك. ولقد أمدنا الله بميزان لا يختل من أجل معرفة النفع من الضرر، بما لا يقارن. لا نحتاج لذلك إلا نورا نميّز به التفاصيل والمناطات، على عكس ما يفعل فقهاء السوء الذين لا ينظرون إلا بهواهم، ولا يحكمون إلا بما يخدم أغراضهم. قد يختلط على الناس ما ذكرنا من التوجه إلى الآخرة مع الإيمان بها، فيظنون أننا نتجنى عليهم في هذا التوصيف. والحقيقة هي أن الإيمان الذي للناس بالآخرة، ليس هو ما نتكلم عنه؛ وإنما نتكلم عن العمل لها، وعن التوجه إليها في هذا العمل. وهذا التوجه ذاته، لا يكون من الناس على درجة واحدة؛ ولا هو من الشخص الواحد في مختلف أوقاته على الدرجة ذاتها؛ بل هو يقوى ويضعف بحسب الحال. وإن الاكتفاء بالعمل على المعلوم لدى الناس من فقه مرتبة الإسلام حصرا، لا يبلغ بهم من القوة القلبية ما يجعلهم ينهضون من هذه الكبوة التاريخية، التي أعيت المنظرين والدارسين؛ بل لا بد في هذا من مدد خاص يقفز بالعباد في المراتب قفزا، ويقتحم بهم أهوال الدنيا اقتحاما. هذا المدد لا يُحصّل من الحد الأدنى في العلم والعمل، الذي يكتفي الناس به في العادة، وإن اجتهدوا في الإتيان بالنوافل. ذلك لأن الظلمة التي هم عليها بسبب التنشئة المنحرفة، على العقائد المخلوطة والأعمال المنقوصة، لا ينفع معه النور العام الذي يكون عليه عوام المسلمين؛ وإنما يتطلب نورا أقوى، يتمكن معه العبد من الخروج عن عاداته ومألوفاته، ليدخل في طور مجاهدة نفسه. وإن كل عمل إسلامي يدخل فيه الناس بدعوى النفع العام للأمة، لا يسبقه إعداد شخصي تكون عمدته مجاهدة النفس وتحصيل المدد الخاص، لا يكون إلا من جنس ما سبقه، مما لا يكاد يكفي الفرد في خصوصياته، بله أن يمكّنه من إعانة غيره على تبيّن طريقه والأخذ بيده. إن هذا المدد الخاص موجود كما هو المدد العام وإلى جانبه؛ لكن الناس عندما استهدوا بالفقهاء من عوام المتدينين، انحجبوا عنه واتهموا من يقول به، وكأنه مبتدع مضل. ولقد كان هذا الانعكاس في تعريف الأعمال ووارداتها من أهم ما أفلح فيه إبليس وأعوانه؛ إذ قد كُفوا به كثير المشقة والتعب في الإضلال الفردي. وإن كان الناس مع تيقنهم بفساد طريقهم عن طريق التجربة، لا يسارعون إلى تصحيح مفاهيمهم وبالتبع أعمالهم، فمتى يفعلون؟!... إن ما ندعو إليه هنا، هو مما يعقله الصبيان ويميّزه الكافرون؛ فكيف بالمؤمنين الذين ينبغي أن يشعروا به من أنفسهم وبأدنى سبب!... فإن سأل سائل: فكيف يصوّب الإسلاميون نهجهم؟ وكيف للمسلمين عامة أن يقصدوا الله بأعمالهم؟ فإننا نقول: لا يكون ذلك كله من جميع أصناف الناس، ومن جميع فئات الأمة، إلا مع الربانيين الذين قد خلُصوا لله، فما عاد لإبليس سلطان عليهم من دون الناس. يقول الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. فمع هؤلاء يَبين الطريق، وتُنار البصائر، وتتحقق الغايات، بأيسر مما يُظن. إن إدخال مسألة التوجه في الاعتبارات، سيغيّر لدى الإسلاميين ولدى المتأثرين بتوجيههم، كل الصورة التي تنبني عليها نظرتهم إلى الدين وإلى التدين؛ وربما ستُصوّب المسارات وتُعدّل الاتجاهات. إن وصول الإسلاميين في تجاربهم إلى السدود، كفيل بأن يجعلهم يراجعون تفاصيل تنظيراتهم وأعمالهم، إن كانوا مستقلين في ذلك عن القوى الدجالية العالمية، التي لا تترك طرفا من الأطراف خارج هيمنتها، بما هو معلوم من الوسائل، وبما هو غير معلوم. إن على الإسلاميين أن يبرهنوا للأمة على أنهم منها وإليها. ولا يكون هذا، إلا إن هم شاركوها في سرائها وفي ضرائها؛ عندما يُبينون عن استقلال حقيقي، يجعلهم يشركون غيرهم من أبناء الأمة في الرأي وفي اتخاذ القرارات ذات الطابع العام. يكفي من اعتبار الناس قطعانا، يكون المتبوع معه دائما أعلم من التابع بما ينفعه في نفسه. إن هذه الطريقة في المعاملة، هي ذاتها التي يُنكرونها على الحكام. فكيف يكونون عليها وهم ينكرونها على سواهم؟... ألِأنهم يريدون لتدينهم أن يمنحهم المزية على غيرهم ذاتيا ومن غير تمحيص؟!... كيف؟ وقد كان أهل الورع من السابقين، يخافون أن يُسهّل عليهم في المعاملات التجارية بسبب تدينهم، ويرون ذلك من السحت!... أليس التقدم على الناس بغير الحق، والسبق إلى نيل الدنيا العريضة بالدين، سحتا أكبر؟!... [1] . أخرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. [2] . متفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [3] . متفق عليه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. |