انتهاء الاعتصام بعد 1255 يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني Translated
Sheikh's Books |
2018/12/18
العمل الإسلامي ... - 15 -
حال الحاكم مع الحكم نذكر هذا الفصل، تتمة لما قبله؛ حتى ينتفع من ولاّه الله على الناس به إن شاء الله، كما ينتفع العاملون للإسلام بكل الكتاب. ونفعل هذا لاعتبارين: الأول، لأن الحاكم ينبغي أن يكون عاملا للإسلام أكثر من غيره، بسبب عموم أثر سلطانه، ولكونه الأقدر على الفعل من غيره في غالب الأحيان؛ والثاني، ليعلم غير الحكام، مقدار البلاء الذي يكون فيه من ملّكه الله على قومه؛ فيشكروا الله على نعمة المعافاة، التي يُحجبون عن شهودها كثيرا؛ وليعينوا الحكام بما يستطيعون، على ما فيه خيرهم وخير الناس أجمعين. وأقل الإعانة -وهي كثيرة- الدعاء للحكام بالتوفيق والتسديد. فوالله لو علم الناس حقيقة المـُلك وعُرض عليهم، لفروا منه فرارهم من النار. ولولا الغفلة وعمى البصائر، لانقلبت الأحوال في الدنيا بخصوص ما يتعلق بالحكم قبل الآخرة؛ ولكنها حكمة العلي الحكيم سبحانه. ولقد كنا في بعض مجالسنا نخبر السامع بحالنا قائلين: "لو عُرض علينا الملك لرفضناه!"؛ فكنا نرى التكذيب في الأعين، وكأن السامع يقول بالحال: "تقول هذا، لأنك بعيد عن ذلك! ولو قُدّر وعُرض عليك فلن تستطيع رفضه. وكل هذا الكلام، هو من قبيل تزهد الفاقد لا زهد الواجد، فحسب!". فكنا نعذر السامعين لجهلهم بحالنا، ولغلبة شهود الدنيا على بصائرهم؛ أما نحن فما زلنا عند قولنا، لعلمنا بحقيقة الأمر؛ والحمد لله. إن الحاكم عبد من العباد، اختاره الله ليجعله مظهرا ربانيا، يسوس به قومه. وليس ذلك لسابقة له عند الله، أو لمنزلة من دون الناس، كما يتوهم كثير من أهل السلطان؛ وإنما هي المشيئة وحدها. وقد ذكر الله من آتاهم ملكا أو مالا فتوهموا أنه لأهلية لديهم، فقال سبحانه عنهم: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ . قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ . أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر: 49 - 52]. وقد خص الله بالذكر العلم، لأن كل مجال له علمه؛ وكل مدع لأمر يزعم أنه أعلم بغيره منه فيه؛ فالعلم أشرف الصفات إن كان صحيحا ونافعا. وليتأمل العبد كيف جعل الله بسط الرزق منوطا بالمشيئة التي نبهنا إليها ليصحح علمه في هذه المسألة. وفرارا من تصديق دعوى التأله لدى الكاذبين من الحكام، كان المسلمون لا يؤلهون حكامهم، ولا يرون لهم إطلاق الفعل والترك؛ بل إنهم من جهة التكليف الشرعي، لا يفرّقون بين حاكم ومحكوم، بما أنهما معا يشتركان في العبودية لله، رب كل شيء ومليكه؛ بخلاف الأمم الأخرى التي كانت ترى الحاكم غير مشابه للناس إلا في الصورة. وهذا فرق أساس بين أهل الحق وأهل الباطل، يمكن روْز الناس به في كل زمان ومكان، فلا يتخلف. ومن هنا قلنا إن شعوبنا خالطها الشرك عندما بدأت تعظم الملوك تعظيم الأعاجم. نقول هذا، مع حضنا على تمييز ما للمراتب من حقوق في المعاملات، وإلا عاد الأمر فوضى لا تليق نسبتها إلى الدين الحق هي أيضا. لا شك أن الحكام الذين مروا على الأمة الإسلامية، لم يكونوا كلهم ملتزمين للأصل الذي ذكرنا من الناحية العملية؛ وإن لم يكن لهم بد من الإقرار به من الناحية العقدية. والخلفاء الاثنا عشر، الذين يتولون الحكم في مدد متتالية حينا (كما هو شأن الخلفاء الخمسة الأُول)، ومدد متباعدة أحيانا أخرى، هم وحدهم من يكونون على صفة العدل التامة، من جهتي الظاهر والباطن معا. وأما غيرهم من الملوك (وإن سموا خلفاء)، فهم كسائر الناس في أعمالهم. وعلى هذا فقد يصيبون وقد يخطئون؛ وقد يُقلّون أو يُكثرون من الصواب أو من الخطأ. والحكم في هذا دائما للشرع وحده، الذي جعله الله ميزانا توزن به أعمال العباد في الدنيا والآخرة. يقول الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7 - 9]. لقد عاد الحكام بعد انقضاء الخلافة الراشدة، إلى بعض مظاهر الجاهلية في مسألة الحكم، وكان ذلك من أثر الضعف الإيماني العام الذي ما فتئنا نشير إليه، ومن شيوع الغفلة المتزايد بين الناس. ولسنا هنا نحمّل الحكام وحدهم ما آلت إليه شؤون الأمة، كما يفعل غيرنا؛ بل إننا نجعل الأمر قسمة بين الحكام والمحكومين جميعا. فالحكام لن يتمكنوا من لزوم العدل، إن كانت الرعية متبعة لهواها، أو اختارت في بعض شؤونها ما كان عليه الكافرون من أمور الجاهلية. بل إن الرعية لو أرادت التوسع في المباح وحده، لما سهل انقيادها لأحد!... ومن أقوال شارل ديغول -زعيم فرنسا- المشهورة: "كيف يمكنك أن تحكم بلداً فيه 246 نوع من الجبنة؟!". وعلى كل حال، فإن النتيجة كانت مع الملوك (بالمعنى الشرعي) أن عادت أمتنا إلى بعض المظاهر الشركية جزئيا، ومن دون أن يتواطأ الناس على الشرك التام بحمد الله. وحديث اتباع من قبلنا، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ! فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَفَارِسَ، وَالرُّومِ؟ فَقَالَ: وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ!» [1]، يبيّن صراحة أن بعض عادات العجم ستتسرب إلينا؛ وقد وقع!... وبما أن أمر الحكم، أكثر عرضة من غيره للتشبه بالأقوام الآخرين -في مظاهر الأبهة والعظمة التي تستهوي النفوس الضعيفة وتكون مجال التنافس فيما بينها- فإننا سنجد المـُلك يتقمص بعض مظاهر التشبه منذ الزمان الأول، ويتدرج فيها إلى أن يصل إلى ما وصل إليه اليوم، حيث تكاد المظاهر السلطانية تكون واحدة في العالم بأسره. ولو نظرنا إلى ما يسمى "البروتوكول" في الأعراف الديبلوماسية الدولية، لرأيناه قد ألغى الخصوصيات كلها، وكأن الأقوام المختلفة قد أصبحت شعبا واحدا؛ خصوصا فيما يتعلق بالمسلمين الذين لا ينبغي أن يشذ شيء لديهم عن أحكام الشرع، بعد إدراك روح التشريع لا قبله. ولو عدنا إلى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بخصوص الائتمام في الصلاة: «إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ: يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ. فَلَا تَفْعَلُوا! ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ؛ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا.» [2]، لوجدناه يذم مظاهر التعظيم التي كان عليها الفرس والروم تجاه ملوكهم. ولو تحرينا مناط الذم، لوجدناه الشرك الذي كان لديهم عند اعتقادهم الألوهية في ملوكهم إما كليا وإما جزئيا. نعني أن الملوك لدى الأمم الكافرة كانوا إما آلهة مزعومة، وإما على صلة بالآلهة ليست لغيرهم؛ كأن يكونوا أبناء للآلهة أو غير ذلك مما لا داعي إلى تفصيله... لهذا السبب جعلنا المظاهر الجاهلية التي عاد إليها المسلمون في أزمنة الضعف، متعلقة بالشرك الذي خالط النفوس ولو قليلا. والحاكم إن أراد الخروج من تبعات تعظيم الجاهلين، فعليه أن يفر من مظاهر التعظيم التي ذكرنا. فإن وجد العمل جاريا بها، ولا سبيل له إلى إلغائها -بسبب تمسك الناس بها من باب العادة كما هو الحال في زماننا- فلا أقل من أن يكره ذلك بقلبه، ليكون ممن يغيّر المنكر بقلبه، عند عدم استطاعته ذلك بيده. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ.» [3]. يظهر من هذا، أن الحاكم لا يستطيع تغيير كل المنكرات بيده دائما، وإن تعلق الأمر به شخصيا. وهذا مما يجهله جل الناس، بسبب توهمهم القدرة المطلقة له. والتفسير الفقهي للحديث، والذي يجعل التغيير باليد منوطا بالحاكم دائما، ليس صحيحا للعلة ذاتها. والصحيح في المسألة، هو أن وسيلة التغيير للمنكر يُنظر فيها إلى كل مكلف على حدة. والوسائل الثلاث المذكورة في الحديث، كلها معتبرة في التكاليف الفردية والجماعية بحسب الأحوال والظروف المختلفة. فلا مجال إلى القول بالتمييز المسبق المنمط الجامد!... إن بلاء الحاكم، هو كونه مظهرا للربوبية، مع ثبوت عبوديته. ولولا هذا الأصل من التربب، ما عُبد الحكام من دون الله لدى المشركين. فالمشركون كحال جميع الضالين، لا يؤسسون أقوالهم على عدم محض؛ وإنما يقع الغلط منهم في تفسير ما يشهدون من شؤون وجودية فحسب. وهذا باب من العلم واسع، نشير إليه ولا نتمادى فيه هنا. ولا بد للحاكم -من منطلق مكانته- من شهود تلك الربوبية من نفسه هو أيضا؛ ولا بد لمن حوله من الأعوان والخدم وعموم الرعية، من إشعاره بذلك وإن لم يقصدوا. فإن كان الحاكم خليفة، فإن حكم النفس لديه يكون قد انتفى بالتزكية التي تلقاها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مباشرة إن كان من الصحابة الراشدين، وعن طريق الواسطة الوراثية فيما يعود إلى الخلفاء المتأخرين. فهؤلاء جميعا، قد كفاهم الله تبعات الحكم في الدنيا والآخرة، وجعل عملهم كله له سبحانه، وإن لم يظهر ذلك لكل الناس. فإن نظرنا -مثلا- إلى ما وقع لبعض الضالين مع عثمان رضي الله عنه، عندما اتهموه بالميل إلى أقاربه في المعاملات المالية، فإننا سنحكم ببطلان دعاواهم حتى من دون النظر فيها؛ لمجرد كون عثمان من الخلفاء. نعم قد يخفى هذا الاعتبار عمن لا يعلمون حقيقة الخلافة، فيحتاجون معه إلى تعضيد ببرهان ثانوي يجعلهم يُحسنون الظن بالخليفة؛ لكننا نحن وأمثالنا، لا نحتاج إليه بحمد الله. وهذا القصور في الحقيقة، هو ما كان يدعو الأنبياء عليهم السلام والورثة من بعدهم، إلى التنزل للناس وإفهامهم ما يحفظ عليهم اعتقادهم فيهم عند الضرورة، بالطرائق المقبولة لديهم. لكن الأمر في أصله، كما ذكرنا من كون الخلافة عن الله نافية بذاتها لكل الشبهات. والسبب هو أن الخليفة بحكم مستخلفه؛ فكما أن الله لا يُسأل عما يفعل سبحانه، فكذلك الخليفة في كل ما أتاه بالله. وهذا قول بالعصمة المنوطة بالخلافة، لو كان الناس يعقلون. ولو أن الرافضة من الشيعة تنبهوا إلى ما نذكر هنا، لأذعنوا لله بالتسليم لجميع الخلفاء، بدل أن يتعصبوا لعليّ عليه السلام وحده، بغير علم. ومن باب التنزل الذي ذكرنا، كان كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابييْن اللذين رأياه رفقة زوجه صفية رضي الله عنها ليلا. تخبر أم المؤمنين صفية رضي الله عنها: «أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ؛ فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهَا يَقْلِبُهَا؛ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ، عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ، مَرَّ رَجُلَانِ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلِكُمَا! إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ! فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا.» [4]. فمثل هذا التنزل، لا يحتاج إليه من يعلم حقيقة خلافة النبي الكبرى، صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا هو شأن كل الخلفاء مع من لا يعلم حقيقتهم. وأما الحاكم الذي ليس خليفة (المـَلك)، فهو على نبأ عظيم؛ لأنه سيشهد الربوبية من نفسه، مع بقاء السوء الأصلي الذي لها. فهنا قد يُحجب عن عبوديته على قدر ظلمته، ويضل عن حقيقته. وهذا هو سبب ما حكاه الله عن نمرود وفرعون عندما ادعيا الربوبية؛ وهو ما وقع فيه غيرهما من الحكام... وقد يغلط كثير من الناس، عندما يظنون أن ذلك كان من كل من ظهر منهم، لخصوصية شر لديهم؛ كلا!... وإنما لأن الحكام من هذا الصنف ما حكموا إلا بما شهدوه من أنفسهم وذاقوه ذوقا. فهم صادقون فيما حكموا به، مخطئون في نسبته إليهم فحسب. وهذا أمر لا يعلمه إلا الحكام أنفسهم، أو من آتاهم الله علم الحقائق. ولو نظر المتدبرون للقرآن إلى قول نمرود لإبراهيم عليه السلام: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]، مع عدم إنكار إبراهيم لذلك، لعلم ما نرمي إليه؛ ولعلم مقدار البلاء الذي يكون فيه الملوك. ولو نظروا إلى قول فرعون: {يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]، لوجدوه مطابقا للواقع. والنسبة التي أخطأ فيها الحكام، هي شأن إدراكي لا وجودي، بعكس ما يظن المتوهمون. والحكام الذين لم يتطهروا من النسبة النفسية، لا يتمكنون من التغافل عما يشهدون من تصرف لديهم، ولا عن مظاهر التملك لما لا يُتاح بعضه لغيرهم. فإذا نظروا إلى هذا، بالمقارنة إلى الرعية، فإنهم قلما يملكون أمرهم ولا يترببون. هذا يعطيه ذوقهم من دون اعتبار لمكانتهم العقلية. فإن وُجد من المـُلوك من له عقل راجح، فإنه يعلم -بمقارنة ما يجد من مظاهر الربوبية إلى أحوال افتقاره الأخرى التي يُشارك فيها سائر الناس- أنه عبد مبتلى، فيعظم إشفاقه وتقوى خشيته؛ خصوصا عندما يرى أنه لا أحد ممن يحيطون به، يعلم حقيقة توزُّعه بين ما هو سماوي وما هو أرضي. وكل من يعلم ما نذكر هنا، لا يتمكن إلا أن ينظر إلى الحكام نظر رحمة وإشفاق، وإن ظلموه أو جاروا عليه. وكل من يكون على هذه الحال معهم، لا يكون إلا من خواص العباد في زمانه. ولولا هذا الإشفاق الذي يتبع العلم، ما أوصى الله موسى وهارون عليهما السلام عند بعثهما إلى فرعون بقوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. ومن تدبر هذا واستقرأ التاريخ، فإنه لا يجد من كان يعرف حق الملوك إلا من كبار الصحابة أو من الأئمة من أهل البيت على جميعهم السلام. وأما ما صار يشيع في زماننا من الجرأة على الحكام، ومن محاسبتهم مِن قِبل السفهاء، فهو مما دخل علينا من الفكر الكفري، الذي يبدو في ظاهره من العدل الذي ينبغي أن لا يخلو عنه الدين. والحقيقة هي أن هذا من العدل العقلي لا الشرعي؛ لأنه يعتبر الصور وحدها، ولا يعتبر الحقائق التي خلفها. ومن كان لا يعلم الفرق بين الأمرين، فالأسلم له أن يسكت ويشتغل بما ينفعه في نفسه، ويترك الكلام في شؤون الحكم وما يتعلق بها. ومن كان عاقلا من الملوك، فإنه يتخذ لنفسه صاحبا يدله على عبودية نفسه، إن رأى منه ظهورا بالربوبية في غير محلها. ومن وجد مثل هذا الشخص من الملوك، فليحرص عليه كما يحرص على حياة بدنه، بل أشد؛ لأن هذا الشخص يحفظ على الملِك حياة قلبه، التي هي أغلى من حياة بدنه بما لا يقارن. وعلى الملك عندما يرى من نفسه خروجا عن طور العبودية، أن يداويها بما يناسب من إظهار للافتقار وللذل، وإن كان ذلك مما يشق عليه مشقة لا يعلمها إلا من كان مثله. ولهذا السبب كان بعض من ابتلاه الله بالخلافة والملك يلجأ إلى ما ذكرنا من علاجات مع خلصائه أو مع الصالحين من أهل زمانه. وسيَر الأولين زاخرة بما يزكي كلامنا، لمن شاء أن يستزيد. فإن لم يجد المرء من يُظهر ذلك بين يديه من العباد، فليكتف بإظهاره في خلوته بين يدي ربه، فإنه نِعم الشهيد سبحانه. وقبل أن نمضي في الكلام، نرى لزاما علينا رفع اللبس فيما يتعلق بمصطلح "الرعية" الذي نورده في كلامنا. فلقد سمعنا بعض المتأثرين بالفكر الغربي من أبنائنا، يزعم أن لفظ "الرعية" ينطوي على تنقيص يكاد الشعب معه يكون قطيعا من الدواب؛ ويرون أن ذلك كان لائقا بالأزمنة الماضية مع التخلف، دون الحاضر الذي -بزعمهم- أصبح الناس فيه أكثر تطورا وإدراكا لما ينظّم المعاملات بين الحكام والمحكومين. والحقيقة هي أن لفظ الرعية (بصيغة المفعول المؤنث)، هو في مقابل الراعي (اسم فاعل). وهما لفظان عامان لا يُختص بهما الحاكم والمحكوم وحدهما، بل يتعديانهما إلى كل المظاهر الرعوية؛ فيدخل فيهما الأب وأبناؤه، وصاحب العمل (المصنع أو الشركة) وعماله، والطبيب ومرضاه، إلى غير ذلك من المظاهر... وفي هذا المعنى ورد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ!» [5]؛ وعلى هذا، فإن من رفض إطلاق الرعية، ينبغي أن يتخلى عن رعايته لرعيته هو نفسه؛ وهو أمر لا يطيقه أحد؛ وبالتالي فلا يرجوه أحد. ولولا عموم الجهل، ما كنا نسمع مثل هذا الكلام، مع عدم وجود من يرد عليه. وكون الراعي يُطلق على راعي الدواب أيضا، هو من عموم الإطلاق. وكون الفارين من الإطلاق يتجنبون الاشتراك، لا يدل إلا على جهلهم؛ لأن هذا المظهر الربوبي يعم الوجود كله، بسبب التوحيد الساري فيه. فهو يدل على توحيد الله دلالة قوية، تقوّض كل مذهب المعطلة الملحدين. والمسلمون ينبغي في إطلاقاتهم مراعاة تذكيرها لهم بالله، بدل أن ينساقوا إلى استعمال الألفاظ التي تحمل في طيها معاني الإلحاد والكفر. ولفظ "المواطنون" الذي يختاره بعض أبنائنا بديلا عن "الرعية"، لا شك هو يحمل دلالة إلحادية جلية، لقطعه الصلة بين العباد وربهم الذي هو راعيهم الأعلى؛ بالإضافة إلى ارتفاع المسؤولية، المنجر عن ارتفاع النسبة إلى الراعي. والنسبة إلى الوطن، التي يرضاها أولئك بديلة عن النسبة الربانية، لا تدل إلا على انقلاب حقيقتهم التي كانت سماوية في الأصل، إلى نسبة أرضية توافق حالهم. فليُعتبر هذا، وليُعمل فيه على العودة إلى الأصل السوي، وعلى تصحيح لغة التداول لدى شعوبنا، بما يجعلها تستعيد عزتها الأولى ومكانتها السامقة. ولنعد إلى ما كنا بصدده... ولعل سائلا يسأل: ولمَ لا يتخلى الحكام عن ربوبيتهم، ليرتاح الناس من آثارها عليهم، ويسلموا هم من تبعاتها وأتعابها؟... فنقول: ليس هذا لهم، ولا لغيرهم؛ لأن الله أقامهم فيما هم فيه، وأراد منهم أن يكونوا مظهر ربوبيته هو سبحانه؛ وربوبيته لا تتعطل أبدا!... ولهذا السبب كان الحكام بعد استلامهم الحكم يتغيرون على التمام. فقبل الحكم يكونون كسائر الناس، وربما كان منهم من هو أضعف من غيره وأقل شأنا؛ فإذا صار حاكما يكاد ينكره أقرب الناس إليه، من شدة انقلاب صفاته. وإن أغلب الناس يتوهمون أن صفات الصرامة والحزم والشدة التي تظهر على الحاكم بعد أن لم تكن، هي من الشر الكامن في نفسه، أو من سكرته بقوة السلطان وحدها. والحقيقة هي أن المسكين قد انفتح باب الربوبية لديه، بما لا يتمكن غيره حتى من تصوره. وأول من يراه غريبا عنه بعد طول إلف، هي نفسه التي لم يبق منها إلا بعض معالم من سابق عهدها، كبدنها الذي تعلم حتما أن صورته الطينية هي ذاتها. وهذا الانقلاب الذي يطرأ على الحاكم، لا أحد من العامة يطيقه، أو يتمكن من الحد من غلوائه، عندما يصير حاكما؛ إلا من كان فانيا عن نفسه، قائما بربه؛ وهذا هو الخليفة في الاصطلاح الشرعي، كما ذكرنا آنفا. أما الملوك (وهم كل من عدا الخلفاء) فإنهم يصيرون كمن تخبطه الشيطان من المس، أو كمن ركب مركبة قوية، تفلت منه زمامها وعاد لا يقدر على إيقافها، فلم يبق له إلا توجيهها مع قوة سرعتها، في انتظار ارتطامها بما لا يتمكن من تجنبه من حواجز أمامها. وليس ذلك إلا ما يكون سببا في نهاية ملك الملك، من موت أو غيره. إن بعض حكام أمتنا من المتأخرين، يكاد الناس يجزمون بجنونهم، مع كونهم من أعقل الناس عندما يحللون الواقع السياسي العالمي. وهذا الاختلال الكبير -الذي لا شك ستكون له آثاره على حيواتهم الشخصية وعلى شعوبهم التي لا يبقى لها من حيّز اهتمامهم إلا ما يناسب وجودها التكميلي ضمن الصورة العامة التي يسمونها هم "الوطن"- ليس غريبا عمن تنازعته الربوبية والعبودية بقوة. يتوهم الحاكم المتربب -إن لم يتداركه الله برحمته- أنه الأصل، وأن الشعب إنما خُلق له؛ لذلك هو لا يرى ظلمه -إن كان ظالما- إلا تصرفا لمالك في ملكه. ويرى أن ذلك من حقه، وأن العكس ظلم له هو حقيقة. ويرى الناصحين له بالعودة عن غيّه إن وُجدوا، أشرارا ينغصون عليه هناء ملكه. وكأنه في جنة لم يكتمل في نظره نعيمها، ولا غادرها من ليسوا من أهلها. كل هذا والناس لا يشكون -وهم واهمون- أن الحاكم متعمد لإهانتهم ولعدم اعتبارهم. وباختلاف المعايير لدى الحكام والمحكومين من الجانبين، يبقى أمر الحكم ممزقا يكاد لا يحظى بوصل أو رتق إلا في أحوال نادرة، مع بعض الموفقين ممن غلب عقلهم هواهم، أو ممن كانوا في نظام ديمقراطي مقيَّدي التصرف بالقوانين، تحت نظر المؤسسات متعددة التخصصات والوظائف. ولهذا السبب، كان السطحيون منا لا يرون النجاة في مجال الحكم، إلا باعتماد النظام الديمقراطي؛ وهو قصور من قِبلهم بلا شك!... أما نحن فنرى أن الديمقراطية تشبه القيد في يد الحاكم، ولا تصل به إلى الصحة القلبية (الإدراكية) التي هي وحدها الغاية لدى العقلاء. ويشبه هذا الصنف من الحكام مخمورا يأمن الناس عاقبة سكره بتقييده بحبل، في انتظار أن يعود إلى رشده. نعم، إن هذا أفضل حالا ممن يُترك على هواه يعيث في الأرض فسادا، كما هو شأن حكام البلاد العربية في الجملة، الذين لم تبلغ شعوبهم الحد الأدنى من الوعي الديمقراطي الذي للشعوب الأخرى. هذا لا نكابر فيه!... ولكن هذه الوضعية ليست أصلية حتى يُقاس عليها، وإنما هي استثناء. وإننا بهذه المقارنة، لا نعود عن رأينا في الديمقراطية، أو نقول بضرورتها كما يقول القاصرون؛ وإنما ننبه إلى إمكان وصول شعوبنا وحكامهم إلى ما لا يبلغه الديمقراطيون أنفسهم، إن نحن عدنا إلى صحيح الدين. فنحن لا نقيد المخمور تجنبا لفوضاه، ولكن نمنع عنه الخمر ليبقى له تمييزه دائما. ولا شيء يفعل هذا إلا الدين الحق، الذي يمد الحاكم بالعلاجات القلبية الضرورية للحفاظ على سلامته وسلامة إدراكه. وما نتكلم عنه هنا، يتحقق للخلفاء تلقائيا كما أوضحنا مرارا، بسبب انتفاء حكم النفس -التي هي أصل الشر- لديهم. وأما الملوك (والرؤساء منهم)، فلبقاء نفوسهم على سوئها، لا بد لهم من جهة رقابية تكون على بيّنة من الأحكام الدينية، لتردهم إلى الصواب إن هم أخطأوا، أو تدلهم على ما غاب عن إدراكهم إن جهلوا وعجزوا. وقد تكون هذه الجهة شخصا يحوز ثقة الحاكم، أو مجلسا ينص عليه الدستور، أو غير ذلك مما يقوم بهذه المهمة التي لا غنى لدولة عنها. غير أن ما ندل عليه هنا، ينبغي أن يكون حقيقيا لا صوريا، كما هو شأن بعض بلداننا؛ لأن العمل الصوري لن يزيد استبداد الحاكم وتجاوزه إلا استفحالا، مع كون ذلك الفعل احتيالا على إدراك الشعوب لكي تقبل ما لا ينبغي أن يُقبل. ولقد أثبتت التجارب أن أنظمة الحكم التي تعتمد الاحتيال والاستغفال، لا تلبث أن تستيقظ يوما على دوي الانهيار العام لكل جوانب الدولة، فتبوء بسخط الشعوب بعد سخط الله الذي خالفت أوامره. وعند بلوغ هذه النهاية، لا يُدرى أتبقى بقية من البلد يمكن البناء عليها مرة أخرى؛ أم تكون تلك نهاية الدولة وقيام دولة أخرى على أنقاضها. إن فساد الحكم لدى الدول العربية لم يأت من الحكام وحدهم، وهم من وقعوا -كما بيّنّا- تحت سَوْرة خمر السلطة، فلم يعد لهم سلطان على أنفسهم؛ بل جاء من جهة علماء الدين الذين لم يحوزوا الأهلية حقيقة قبلهم، والذين كان يُرجى منهم إعانة الحكام على بلائهم. وبدل واجبهم الأصلي، انقلبوا يزينون للحاكم طيشه وشطحه، ليأخذوا من دنياه ما طاب لهم، من غير أن يحسبوا حسابا لما سيؤول إليه أمره وأمر شعبه معه. فهؤلاء هم أس الفساد وسبب الهلاك الذي أصاب الشطر الأكبر من أمتنا. فهم كمن يوافق المخمور، ويدله على أماكن الفسق التي ينفق فيها ماله بعد تحقق سكره، فيزداد بعمله ذاك معهم، إثما على إثم وفجورا على فجور. إن أمة الإسلام -وهذا من غريب المفارقات- لن تقوم لها قائمة حتى تتخلص من علماء السوء، الذين باعوا الدين والآخرة بأبخس الأثمان. ولَيْتهم باعوا دينهم وآخرتهم هم وحدهم، فينحصر السوء فيهم؛ ولكنهم باعوا دين الشعوب مع دينهم، وآخرة الشعوب مع آخرتهم، فانتهوا إلى ما لا يبلغه الشيطان ذاته من دون إعانتهم. وكل تباطؤ في التخلص من هذه الطبقة المرتزقة الآثمة، لن يجلب على الأمة إلا مزيدا من الخراب والدمار؛ خراب النفوس ودمارها، قبل خراب الديار ودمارها. ولو تفحصنا قول الله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، الذي جاء استجابة لطلب بني إسرائيل من نبيهم شموئيل عليه السلام، لخرجنا بالفوائد التالية: 1. إن الإمامة الدينية التي تكون للأنبياء والورثة، تكون منفصلة عن الإمامة الدنيوية التي تكون للملوك. هذا فيمن عدا الخلفاء الاثني عشر من الأنبياء عليهم السلام، والخلفاء الاثني عشر من الوارثين المحمديين. وبما أننا في غير زمان الخلافة، ونحن في انتظار الخلافة الخاتمة، فإن الإمامة الدينية ينبغي أن تكون لها وظيفة الإرشاد العام إن كان صاحبها وارثا لا من عوام الفقهاء؛ ولا مطمع لأصحابها في الحكم ولا ينبغي لهم ذلك. نقول هذا حتى يصحح الإسلاميون فهمهم للمسألة، وحتى يتراجعوا عما يبغون من المـُلك بغيا وعدوا. 2. إن الغنى بالمال ليس شرطا في الملك، كما تتوهم العامة؛ ولكن تولية الله له بإذنه هي الأساس المعتبر. وهذا هو معنى البعث والاصطفاء في الآية. فلو فرضنا أن الملِك كان فقيرا وتولى الحكم، لوجبت على الناس طاعته في المعروف. ولا ينبغي لهم رؤية فقره -من حيث هو- نقصا في مرتبته ولا قدحا في صفاته. وعندما غلبت على الناس مخالفتهم للحق، وقالوا مثل ما قال أسلافهم في الحال: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]، فإن ذلك قد دفعهم إلى الفسق مرتين: مرة، لأنهم صاروا ينافسون الحاكم على الحكم لتوهمهم أن الملك يُطلب للأغنياء فيُنال؛ والثانية، عندما دفعوا بالحاكم إلى طلب التفوق في الغنى، بإيهامه أن ذلك من كمال الملك. وهنا قد يدخل الحاكم في سرقة شعبه وفي انتهاب المال العام، طمعا في الوصول إلى تثبيت ملكه بحسب ظنه. وهكذا يُنتج الخطأ في التصور خطأ في الفعل، كما يحدث دائما. 3. إنّ تفوُّق الملك على غيره في العلم (العقل) وفي الجسم (اللياقة البدنية)، يزيد من أهليته للمنصب؛ لكون رجاحة عقله وقوة جسمه تنفعانه وتنفعان غيره؛ وهذا هو المطلوب فيه. يصح هذا على الخصوص في حق القدماء، بسبب مباشرة المـَلِك في ذلك الزمان لحرب الأعداء بنفسه؛ لا كما هو الشأن اليوم، من بعث القواد العسكريين وحدهم؛ والذين هم أيضا ما عادوا ينزلون إلى الميدان، بل يبقون في غرف القيادة المتأخرة. وأما اتساع العقل، فإن الحاكم في الأنظمة الديمقراطية، يمكن أن يسد خلّته بالمجالس الاستشارية المتخصصة، كما هو معلوم. ولا يبقى عرضة للفعل الأهوج، إلا من كان حاكما مطلق اليد، في الأنظمة الفوضوية كالأنظمة العربية الآن. فإن تخلفت صفات الكمال في الملك (أو الرئيس)، كأن يكون ضعيف العقل أو ضعيف الشخصية، فإن مَن حوله من الأعوان والوزراء، سيستولون على الحكم بالفعل، ويبقى هو رمزا للدولة يتخفَّون خلفه خوفا من الملاحقات التي يخشونها إذا هم تصرفوا في الرعية تصرف الملِك، وهو لا يحق لهم. وهذا نراه كثيرا في زماننا، وبلغ مداه مع دول لم يفقد رؤساؤها القوتيْن أو إحداهما فحسب، بل أصبح رئيس إحداها مقعدا فاقدا للوعي، لا يُدرك ما يجري حوله. وأما ناقصو العقل من حكامنا فعددهم أكبر من العقلاء بلا شك. ويكفي النظر إلى اجتماعاتهم في "القمم" العربية، حتى نعلم سوء منقلبنا عندما فرطنا في ديننا. عندما ننظر إلى التاريخ، فإننا نُدرك حتما المكانة المحورية للملوك في سير أحداثه وتقلبات تصاريفه. فإن أراد الله بقوم خيرا، فإنه يبعث لهم ملكا حصيفا متأنيا حليما، وإن أراد بهم غير ذلك فإنه يجعل عليهم المتهورين والسفهاء. وعندما ننظر إلى حال أمتنا اليوم بين الأمم، فإننا نعلم بداهة أننا في عصر انحطاط، صار المـُلك فيه شأنا جانبيا لدى الجميع. فحتى الشعوب، ما عادت تسأل إلا عما يهمها في دوائرها الضيقة؛ وطالما لا تُمَس دنياها، فهي لا تسأل عمن يملكها وإلى أين يقودها. ولا شك أن هذه الحال هي من نتائج صنائع مستعمر الأمس بنا، ومن رغائبه فينا اليوم. ومن جهة الحقيقة، فلا تزال أمتنا تحت حكم المستعمر، من جميع النواحي. وهذا أمر لا يليق بنا ولا يقبله لنا ديننا، ونحن الأمة الوحيدة في العالم الآن التي تعبد الله العبادة الشرعية الطوعية. وعلى شعوبنا قبل الحكام، أن تعي مكانتها، وأن تعمل على الحفاظ عليها... وإلى أمثالنا في زماننا، يتوجه الخطاب الإلهي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ . إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38، 39]. والنَّفْر لا يكون بالمعنى الجهادي العسكري وحده، وإنما يكون بمعنى المسارعة إلى النهوض من الكبوة الحضارية قبل ذلك. إن محنة الحاكم لدينا تشتد عندما لا يجد من يعينه على الإصلاح، أو عندما يجد من يمنعه منعا عن الإصلاح. والعامة من الشعب، لا يرون إلا أنه هو من يحمي الفساد وأهله، بسبب جهلهم بتفاصيل شؤون الحكم في بلداننا، وبسبب بعدهم عن دوائر القرار. ولسنا نعني هنا بالمنع دائما الجهات الخارجية، التي تأبى أن نفرغ لبناء بلداننا، وهي تزخر بشتى صنوف الخيرات؛ ولكننا نقصد في المرتبة الأولى الجهات الداخلية التي ألفت العيش على الريع، وعلى نهب المال العام، وعلى الاستئثار بالمناصب العليا. وليست إلا الأسر العريقة والأحزاب والنقابات وباقي الهيئات، التي تقوم بمهمة الوساطة في الحكم بين الحاكم وعموم الشعب. ولقد انطلى هذا المنطق الاحتيالي على الأجيال المتعاقبة لعقود، عندما أصبح لصيقا لديهم أحيانا بالديمقراطية، التي أصبحت هي أيضا مرادفة للعدل في أذهانهم. لكن هذه المهزلة قد طال استمرارها فينا بما لا يليق!... والمصيبة الكبرى، هي أن الإسلاميين أنفسهم قد وقعوا فيما وقع فيه غيرهم. فصاروا يعقدون الصفقات مع الأنظمة، من أجل الحصول على الثروة والمناصب، لهم ولعائلاتهم ولأتباعهم. ونسوا أن الدين جاء ليحارب مثل هذه المظاهر المنبئة عن أمراض المجتمعات. فكانوا كالطبيب الملوَّث، الذي بدل أن يداوي المرضى، جلب إليهم مزيدا من الجراثيم في بدنه وثوبه. وللأمة الله!... [1] . أخرجه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه. [2] . أخرجه مسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. [3] . أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [4] . أخرجه البخاري عن علي بن الحسين عليهما السلام. [5] . متفق عليه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. |