انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2019/01/05
العمل الإسلامي ... - 17 -
مخالفة الديمقراطية للدين عندما نجد جل الحركات الإسلامية اليوم تدعو إلى الديمقراطية، ونجد معها كبار فقهائنا يجعلونها شورى حتى يسوغوها دينيا، فإنه ينبغي أن نعلم أننا أمام خلل معرفي كبير، لا ينفع معه السكوت بحال من الأحوال. وأول ما علينا إدراكه، هو أن التبعية للغرب في مجال الفكر السياسي، لن تزيد تبعيتنا السياسية الفعلية له إلا رسوخا؛ مع العلم أنه لم يخرج من البلدان التي استعمرها، إلا وقد ترك بذورا لم تزل ثمارها المرة الشائكة تنغص علينا عيشنا إلى الآن. وما تلك إلا توابع الديمقراطية، من تعددية مغرضة، وحزبية شقاقية، وانتخابات صورية؛ مع ما ينتج عنها من انقسام في الرأي، ومن تناحر بين الإخوة. ولقد بلغ الحد من الانحراف أنه لا أحد يخطر بباله إعادة النظر في المنطلقات، وكأن هذه الديمقراطية قد أصبحت -من غير أن نُخبَر- دينا، لا تُقبل الردة عنه ولا عذر للمرتد معها. هذا، بعكس الحال مع الدين الذي لا نشك في ربانيته، حيث أصبحت مخالفته، رأيا ينبغي أن يُحفظ الحق لصاحبه في إبدائه وفي المنافحة عنه؛ وأصبحت الردة عنه -التي كانت كفرا يفر منه الناس- اختيارا قد يُنبئ عن رجاحة في العقل وسبق في الفكر. كل هذا، والإسلاميون -ومِن قَبلهم وزارات الشؤون الإسلامية- لا يكترثون لهذا الانقلاب في الدين وفي الثقافة؛ بل قد يعُدون ذلك دليل انفتاح لا ندري علامَ، وما هو في حقيقته إلا برهان انسلاخ؛ فإلامَ؟... إن دواعي الديمقراطية السابقة على أساسها التنظيري لدينا، هي ما جعلت شطرا من الشعوب يتطلع إلى تكميل نقائصه بما يناسبه منها، لضمان بعض العدل وبعض الكرامة، عندما صار الحكم لدينا فوضى تامة، ومزاجية عامة؛ ونحن من أُكرمنا بالهدي الرباني الذي يُعدّ العيش تحت ظله جنة معجلة، من غير أدنى شك. وبعد الانحراف الذي أصاب أمتنا، والانحطاط الذي طالت صحبتنا له، ما عاد يهم الناس الآن إلا إيجاد آلية لتداول السلطة، وهيكلة المجتمعات بحيث تتوافر الحريات للجميع، من غير مراعاة للدين في المرتبة الأولى. ليس لأن الناس قد ارتضوا بديلا عن الإسلام، ولكن لأنهم يعلمون عن تجربة، أن الاستبداد والظلم اللذين سادا قرونا، لم يكن ليتم لهما ذلك لولا "القراءة" الرسمية للدين التي أبدع في بلورتها فقهاء السوء. وللعامة من الناس في هذا الحذر بعض عذر، ما دام الدين الفقهي قد أصبح داء بعكس ما ينبغي أن يكون. ومع طول المدة، فقد أصبح الفقهاء أجهل من العامة فيما يتعلق بشؤون الحكم؛ وحتى إن علم بعضهم شيئا منها، على تضارب لديه واختلاط، بين ما هو من الأصول وما هو من نتاج العقول، فإننا نجد جلهم قد استدبره، موليا وجهه شطر الحاكم يستفتيه فيما كان ينبغي هو أن يفتيه. لذلك لم يكن الفقهاء في المجتمعات الإسلامية هم من يصوغون معالم الحكم، وإنما الحكام على اختلاف أهوائهم وتفاوت عقولهم وتقواهم. نستثني من هذا، اجتهاد إخوتنا شيعة إيران في العصر الحديث، الذين استنبطوا نظام "ولاية الفقيه"، بما يقارب منهم النظام الشرعي الأصلي، على حسب مستطاعهم وباعتبار خصوصيتهم. وإن هذا الجهد منهم، كان ينبغي أن يُشاد به من قِبل كل المسلمين، بدل التجريح الذي نسمعه من بعض أهل السنة فيهم، وهم أسوأ منهم حالا بلا خلاف. نحن نعجب كيف أن أمر الديمقراطية انطلى على علماء الدين، مع ثبوت مخالفتها للشريعة أصلا وفرعا من غير أدنى شك. فمن حيث الأصل، فإن الديمقراطية تعطي الحكم (التشريع) في الأمور للشعب؛ ونحن الحكم لدينا لله وحده. وأما من يقول (كما سمعنا مرة من أحد كبار الفقهاء): إن شعوبنا مسلمة، ولن تختار إلا الإسلام في النهاية، فردنا عليه هو أن المبدأ غلط من جهة، لكونه يمنح حق التحكّم والتحكيم لمن لا حكم له؛ ومن جهة أخرى فإن الشعوب عند غلبة أشرارها على خيارها عدديا، لا شك أنها ستختار الفسوق والكفران. وأما من جهة الفروع، فالتعددية في المجتمع المسلم هي تعددية رأي داخل حدود الشرع، وليست تعددية كيانات متعارضة تذهب بوحدة المجتمع، كما هو الشأن اليوم عند رفع الحدود المعرفية الحُكمية، وإلغاء العلامات التربوية الإرشادية. وأما الحريات، فينبغي أن نفهم أنها لا يمكن أن تكون بالمعنى المطلق، الذي يهدم الدين ويفتح الباب أمام الموبقات التي هي من أعمال عبدة الشيطان؛ لكون الحرية المطلقة لا تصح للعبد أبدا، من كونه فعلا لله. نعني من هذا، أن المفعول لا يمكن أن تنقلب حقيقته إلى فاعل حر أبدا!... والحرية المطلقة من حيث معناها ومسماها، لا تكون إلا لله وحده؛ وإن امتنعت نسبتها إلى الله من جهة الاسم، بسبب عدم ورود لفظها في الوحي، وبسبب احتمال تصور نقيضها في المقابل ذهنيا؛ وهو ما لا يليق. ومعنى الحرية المطلقة، هو ما يدل عليه قول الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]. ويُسْأَلُونَ، هي لازم العبودية؛ لكون السائل حاكما على المسؤول. وبين أصول الديمقراطية وفروعها، المناقضة للدين، لا بد من المرور على التربية في الأسرة وفي المعاهد الرسمية؛ ولا بد من الوقوف عند الإعلام وغاياته، وعند جمعيات ما يُسمى المجتمع المدني، لنعلم مدى التلف الذي أصاب نسيج مجتمعاتنا... إن كل ما ذكرناه من خصائص الديمقراطية التي يُراد لشعوبنا اعتناقها، ليس إلا تمهيدا للنظام الدجالي العالمي، الذي يهيئ التربة لمقدمه بما يناسب من محوٍ لِمعالم الأنظمة السابقة القائمة، والتي تدور في معظمها حول دين من الأديان. وأمتنا الإسلامية، من كونها صاحبة الدين الحق والشريعة الخاتمة، هي المستهدفة قبل غيرها من قِبل ذلك النظام. وعلى عادة الشياطين، فلا بد أن تُلبس الموبقات المهلكة بلبوس الشعارات المدغدغة لعواطف الجهلة والعامة؛ خصوصا إن كان الاستبداد والظلم الحاطان من قدر الإنسان في بلداننا، لا ينفصلان عن الدين الرسمي (كما أسلفنا)، الذي لا يشك شطر من الناس -من شدة وطأة البروباغاندا الإعلامية لدينا- أنه "الإسلام"؛ في حين أن الإسلام لا يمكن أن يكون سببا في الشرور التي نعاني منها، وهو الذي جاء يستأصل شأفتها كلها. فأصبحت شعوبنا بهذا، بين خيارين أحدهما أسوأ من الآخر: فإما أن تستعبدها الطبقة الحاكمة التي هي في الأصل منها، ثم تبيعها للقوى العالمية يوم يحين الحين لظهور النظام الدجالي بحكومته العالمية كما هو في مخطط أصحابه؛ وإما أن تدخل بمنطق الديمقراطية وأدواتها إلى فوضى تقضي على كل القيم السابقة لديها، لتندمج في النظام الدجالي قبل الإعلان وهي لا تشعر؛ وكلا الأمرين مخالف لما ينبغي أن يكون عليه المسلمون من عيش للإسلام على حقيقته، بدل الاضطرار إلى تدبير الأمر بما يساير واقعا غير متحكم فيه. إن الناس كثيرا ما يقللون من قيمة الواقع وقوته الاعتبارية لدى العقول، حينما يسوقهم سوقا (بمشيئة الله) إلى حيث يريد القدر. وكثير من الناس بسبب ذلك يظنون أن الكلام في تحكيم الإسلام في حياتنا، هو مثالية لا تزيدنا إلا ضعفا ووهنا، عندما نفقد الصلة بالواقع مع عدم إدراك شيء من التصوّر المرجوّ. وإن هذه المقارنة، لو كان الناس يعلمون، لا تصح؛ لكون الأمر ليس منوطا بالحياة الدنيا وحدها، وكأن الدين جاء ليدبرها لنا وحدها؛ وإنما هو منوط بالآخرة أولا وقبلها؛ لأن الحساب الذي سيُحاسَبه الناس يوم القيامة، سيشمل عمل الإنسان للتوفيق بين التشريع والواقع على مدى عمره كله. وهنا يتجلى مدى فقه العبد لدينه، حين يقلل من الهوة في حياته بين الواقع القاهر والعمل الاختياري الذي يستدعيه التكليف؛ وهذا أمر قلما يوجد في الناس من يُحسنه، لتطلُّبه قوة نورية بها يميز العبد مختلف الأمور. يقول الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122]. والديمقراطية بحسب ما ذكرنا من غاياتها، ليست نظاما للحكم بقدر ما هي صيغة يُدبّر بها الشأن العام، ووضع سياسي اجتماعي منفتح، تنبت فيه عبادة الشيطان نباتا ميسرا، ويولد فيه التوجه الدجالي ولادة طبيعية. لهذا يقولون عنها إنها غير مكتملة، وأنها متطورة غير ثابتة؛ ولهذا أيضا نجد أنظمة الحكم الديمقراطية عند النظر، غير متطابقة. قد يبدو هذا التنوع لأول وهلة دليل مرونة كالمرونة التي لأحكامنا الشرعية المتجددة، لكنه في الحقيقة غير ذلك؛ بسبب عدم عودته إلى أصول ثابتة مضبوطة. نعني، أنها مرونة متفلتة؛ والمرونة المتفلتة ضياع وضلال. وإناطة الديمقراطية بمراد الشعب، هو ما يحقق هذه الوضعية من عدم اتضاح المعالم؛ لأن الشعوب لا تثبت على حال، والأجيال لا تشبه الأجيال. وإنّ ترك تحديد معالم الحكم لما هو متغير، لا بد أن يؤدي حتما إلى عدم الاستقرار. نعني من هذا، أن اعتبار الوجه الرباني فيما يتعلق بشؤوننا، هو ما يعطينا الثبات؛ مع كون هذا الاعتبار نفسه لا يغيّر من الواقع شيئا؛ أي إن كل ما ذكرناه حُكمي يعود إلى مدى علم العبد بالأمور، وليس وجوديا كما يظن البعض؛ ونقصد أن الأمر متعلق بقراءة الصورة فحسب، لا بإنشائها. نعم، إن الكافرين الجهلة الذين لا يعلمون من أمر الوجود إلا ما يتصل بحيوانيتهم، لا يرون في عدم الاستقرار الذي نحذر منه، إلا تطورا طبيعيا للمجتمع البشري، ضمن النسق التاريخي الذي لا نهاية له؛ فهي عندهم دنيا بلا آخرة. لكنّ من يزعم الإيمان باليوم الآخر، لا ينبغي أن يكون على هذه الشاكلة؛ إلا إن كان القول منه يكذبه العمل، كما هي الحال عند كثيرين منا. نعني من هذا، أن الديمقراطية ما كانت لتعتمد -أو يُنادى بها- في مجتمع المؤمنين أبدا!... ولولا مخالطة الشرك للنفوس، وتنشُّق هواء الكفر من قِبل البعض، ما كان ليحدث هذا كله!... أما الذين هم منخرطون في خدمة النظام الدجالي من متفقهة عصرنا، بعلم أو بغيره، والذين يجعلون الديمقراطية هي الشورى عينها، فنقول لهم: لم لا تُسمونها "شورى" إذاً؟... نحن نعلم أن المطلوب لديهم، ليس المسمى وحده كما يتوهمون؛ ولكن الأمر ينبغي أن يشمل الاسم أيضا، حتى يستصحب معه سياقه الفلسفي والتاريخي، المساعد على التخلص من السياق الشرعي لدينا، ويربطنا ربطا حتميا بالسياق الغربي لتسهل المتابعة ويسهل بعدها الاندماج. نعني من هذا، أن بعض الأمور قد تحرُم شرعا، لا لأنها حرام في ذاتها؛ وإنما لأنها سُميت باسم لشيء محرّم. وهذا باب من فقه الأحكام، ما رأينا من يعمل عليه من المتأخرين؛ وأما الأئمة الأولون المعروفون، فقد كانوا على بينة منه رضي الله عنهم. عندما نسمع في الخطاب السياسي الغربي "النظام العالمي"، فلا يتصورن أحد أن الكلام يخص نمطا غير النمط الغربي!... وهذا يعني مرة أخرى -إلا إن كان السامع مصرا على البقاء على عماه- أن النموذج الإسلامي، معدود في نظر المتكلمين في عداد الأنماط المحكوم عليها بالزوال. وإن كل خطاب في المقابل من المسلمين والإسلاميين لا يعمل على "ترشيح" النموذج الإسلامي لسيادة العالم، لن يكون إلا موافقا للخطاب الدجالي ولو في حده الأدنى. المواجهة من جهة التصور الغربي صفرية، إما أن ينتصر فيها النموذج الغربي ويسود العالم، وإما أن يفنى فناء سرمديا. نعم، الأمر في شريعتنا ليس كما هو عندهم بهذا التقابل التام؛ لأن شريعتنا تتسع للمخالف وتحمي حقوقه، بحيث لا يكون فناؤه شرطا لبقائنا. ولكن ضعف الخطاب لدينا، لا تبرُز معه مميزات شرعنا، حتى يطمئن إليه السامعون؛ خصوصا عندما يروننا نقلد عميان الغرب في مشيتنا!... لكي نخرج بتصور واضح فيما يتعلق بالشورى والديمقراطية، فلا بد أن نعلم أمرين أساسين، يكون كل الكلام الذي سيأتي بعدهما تفصيلا لهما فحسب؛ وهما: 1. لا تنبت الديمقراطية كما هي لدى منظريها، إلا في بيئة كفرية. 2. لا تكون الشورى إلا في بيئة إسلامية. ولنفصل الآن الكلام قليلا، ليتأكد به ما ذكرنا. فعندما نشترط للديمقراطية الكفر، فلكي يكون الحكم -بحسب الظاهر- للشعب خالصا. يشرع لنفسه ما يراه موافقا لهواه، من دون حساب لآخرة ولا لدين. والديمقراطية بهذا الشرط، لا يمكن أن تنبت في مجتمعاتنا المسلمة أبدا. فلم يبق إلا أن تُتّخذ تمهيدا للنظام الدجالي، يخرج المسلمون بها عن تعاليم إسلامهم شيئا فشيئا، في انتظار إعلان النظام الدجالي العالمي عن نفسه، كما سبق أن ذكرنا. فهي بهذه المثابة خطوة أولى للدجاليين، تخدم أغراضهم، وليست خادمة لمجتمعاتنا في شيء!... وأما من له نظر ثاقب في الديمقراطية، فإنه لا بد من أن يمجها عقله لأسباب منها: 1. تسويتها بين ذي الرأي اللبيب والعامي: فعند التصويت في الانتخابات والاستفتاءات، يستوي الفيلسوف المنظر الحكيم بخادمه. وهذه التسوية هي من أخبث ما دعت إليه الشياطين، لعلمها برجحان كفة العوام على كفة العقلاء في كل المجتمعات، وفي كل الأزمنة. وهي (أي الشياطين) تضمن بهذه التسوية قمع العقل في المجتمعات المختلفة، وإن كان مجردا؛ فما الظن بالعقل المتديّن الذي تراه أكبر عدو لها!... 2. تحايلها على الشعوب: فالديمقراطية باعتمادها لمبدأ التمثيل الناتج عن التصويت، تنزع المبادرة من يد الشعب الذي توهمه بأنها له عاملة، لتضعها في أيدي زمرة من النافذين من أهل السياسة والمال، ليكون استنان القوانين (التشريع) في أيديهم دائما. وهكذا تكون الطبقة الحاكمة (الأوليغارشية) هي المستفيدة من الديمقراطية في النهاية لا الشعب. وحتى تستمر الحال على ما هي عليه من استغفال للجماهير، لا بد في غمار ذلك من إظهار بعض ما يبدو وكأنه استجابة لمطالب شعبية، في عملية تكون في تعقيدها موازية (مساوية) لنباهة الشعب ذاته. وهذا هو السبب الذي لا يُضطر معه حكام الشعوب المتخلفة، إلى كثير عناء، في سبيل الهيمنة على شعوبهم ونهب ثرواتها، بالمقارنة إلى حكام الشعوب المتقدمة. وإذا كانت الديمقراطية مشكوكا في أصولها وفي غاياتها إلى هذا الحد، وعلمنا أن الحركات الإسلامية (فضلا عن غيرها) صارت تلتزمها فكرا وعملا ودعوة، وصارت تفاخر سواها من المنافسين في العمل السياسي بما حققته منها داخل تنظيماتها، بالتأكيد على أن "انتخاب" قياداتها صار يتم على مقتضاها، فإنه يجب علينا حيال هذا أن نتساءل: أين الدين من التأصيل النظري الذي للإسلاميين؟!... وإلى أين يبغون الوصول، إن صاروا يعتمدون وسائل في العمل تخالف أصول الدين التي لمجتمعاتنا؟!... وهل صارت موافقة النظام العالمي لديهم ثابتا لا يمكن الاستغناء عنه؟!... أما تدبير الاختلاف في الرأي، الذي هو ضرورة ينبغي أن تعالج أمرا واقعا لا يرتفع أبدا في الناس، والذي يدل عليه قول الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]، فهو أمر لم يغفله التشريع لدينا؛ وكيف يُغفله وهو الذي أثبته يوم لم يكن العالم يعلم إلا منطق القوة والغلبة. وليس تدبير الاختلاف لدينا إلا الشورى، التي ينبغي أن تعم جميع مستويات اتخاذ القرار؛ بدءا من أدناها وانتهاء إلى أعلاها، في تناسق لا يكون إلا تحت ظل منطق الوحي. وسنرجئ الكلام عن الشورى إلى الفصل الموالي، إن شاء الله. ولنعد إلى الديمقراطية... إن كثيرا من الناس يتوهمون أن الديمقراطية هي السبيل الأمثل لتدبير الاختلاف في المجتمعات، بسبب كثرة الدعوة إليها من قبل الأنظمة الغربية في البداية، ومن قِبل النظام العالمي الآن. والحقيقة هي أن الديمقراطية، لا تهتم لمآل المجتمع أثناء عملية التدبير، بقدر ما تكون غطاء تُخفي تحته النخبة الحاكمة (الأوليغارشيا) من كل بلد، أعمالها القذرة التي تمسك بها المجتمع وتثبته تحت سلطتها، كما يُثبت السبع فريسته تحت قوائمه القوية... لم يسأل الناس أنفسهم: لو كانت العمليات الديمقراطية حقيقية، لمَ لا تتمكن الجماهير بواسطتها من بلوغ الحكم كما تريد؟... ولم نجد الشطر الأكبر من الشعوب في البلدان الديمقراطية، غير راض عن الواقع السياسي في جل الأوقات؟... وإن تمكنت الشعوب -لسبب ما- من إيصال واحد منها يوما إلى الحكم، فلمَ لا يلبث الأمر -باعتماد الديمقراطية دائما- أن ينقلب إلى خلاف ما كان؛ لنجد الاستبداد قد عاد إلى البلد بأشد مما كان، وكأنه يعاقب الشعب الغِرّ على سوء اختياره؟!... نريد أن نقول من وراء هذا كله: إن الديمقراطية من أصلها -نعني في التنظيرات المتأخرة- لم تُجعل قط لإبلاغ صوت الشعوب وإنفاذ رغباتها، كما هو مزعوم؛ بل للتحكم في المعادلة السياسية، بحيث تكون النتيجة النهائية موافقة لرغبة النخبة الحاكمة وحدها؛ لكن مع توظيف جميع الأطراف السياسية، بحيث لا يبقى لأحدها عذر في عدم الإذعان للواقع في النهاية. وإن نحن عدنا إلى البيئة التي ذكرنا سابقا أنها لا بد أن تكون كافرة، فإننا سنعي لمَ ذلك؛ ونقصد أن التحكم في كل الأطراف السياسية، لا يمكن أن يتأتى بالطرق السليمة (الشرعية) دائما، لذلك وجب أن يكون الديمقراطيون من النخبة، ممن لا يراعون في الناس عقلا ولا قانونا ولا دينا. لهذا السبب تنكشف في بعض الأحيان -استثناء- عمليات من الإرهاب والتعنيف والإرشاء والابتزاز، مما لا يكاد المرء يصدق بوجوده معايشا للخطابات الرنانة والمزاعم المطمئنة المظنونة. نعم، إن العملية الديمقراطية في البلدان التي تكون شعوبها على بعض الوعي، تتطلب جهدا لا يحوزه كل أحد. وهذا يجعل المستبدين في النهاية يكونون من الدهاة والمخادعين، لكي يصعب على عموم الناس فضح ما هم عليه بالأدلة الثابتة المعتبرة، وإن هم كانوا جازمين بسوء طويتهم وفعالهم. فهذه هي الصورة الديمقراطية التي تكون عليها البلدان "المتقدمة". وأما بلداننا، حيث الشعوب في معظمها جاهلة ومتخلفة، فإن الممسكين بالحكم لا يرون حاجة إلى إتعاب أنفسهم في إتقان اللعبة وإخفاء معالم الظلم والاستبداد. لهذا السبب يكون الإرهاب عندنا جليا، ويكون العنف باديا، وتكون المساومات على رؤوس الأشهاد. فنحن مع كوننا على استبداد، نبرهن على أننا نستحقه. ولو كانت للديمقراطية خصيصة واحدة، هي القبول بالمساومات والموازنات، من غير مرجعية تُذكر، لكفت لأن تكون مذهبا شيطانيا مجديا؛ وأما وهي على التشعيب الذي ذكرنا بعضه، فإنها تكاد تكون الطريق الأوحد إلى إقامة النظام الدجالي (الخلافة الشيطانية). وإن أشد مبادئ الديمقراطية تعمية لحقيقتها وتمويها لطريقها، ما يُقال عن الأقلية المعارضة فيها. فمن حيث الظاهر، إن الديمقراطية هي النظام الوحيد الذي يقبل بالمعارضة العلنية؛ لكن الأمر من جهة باطنها بخلاف ذلك على التمام. أولا لأن الأقلية في النظام الديمقراطي، لا يُقر لها بالوجود إلا في أضيق الدوائر، وفي المستوى الشعبي الأدنى، حيث يغيب الإدراك لخفايا السياسة المتبعة في البلد؛ وكأن النخبة الحاكمة لا تقبل من مراقب لعملها إلا إن كان أعمى أو -على الأقل- أعشى؛ لأنها بهذا وحده، تضمن أمرين: الأول، أن المراقِب لن يميّز شيئا مما يجري حوله؛ والثاني، هو تعضيد الحكم القائم، بكون المعارض شاهدا له في النهاية، لا عليه. وهذا، من أخبث ما يكون عليه الديمقراطيون. وثانيا، لأن المعارضة تبقى ظاهرة صوتية، لا تُمكَّن من أدوات فعالة قد تؤثر في التوجه العام. وهكذا يكون وجود المعارضة وعدمها سواء. وأما ما يظهر في بعض البلدان من تناوب أحيانا على الحكم بين المعارضة الراهنة ومعارضة المستقبل، فهو صوري لا حقيقة له؛ لأن النخبة الحاكمة الخفية، تكون هي المتحكمة دائما في البلد، وإن اختلف الظاهر بصفة الحكم من وقت إلى وقت. وهذا يكون من أكثر أنظمة الحكم دهاء، وأبعدها عن الرقابة الشعبية الحقيقية. وقد يرى بعض الجهلة أن الإسلام لا يقبل التعدد والاختلاف، أو هكذا يلقَّنون منذ نعومة أظفارهم، فلا يشعرون بانحراف تربيتهم، ويظنون أن كل آرائهم من بعدُ هي من نتاج عقولهم، وأنها جاءت بعد استقرائهم للواقع وكثرة اطلاعهم. والحقيقة هي أن عقولهم قد "غُسلت" من دون أن يشعروا. والدليل على أن الإسلام -من كونه تشريعا إلهيا علويا- لا يمنع الاختلاف، هو تحريم إكراه الناس على اعتقاد ما لا يريدون؛ حتى وإن كان هذا المعتقَد الإسلام نفسه. يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. فالمطلوب في المجتمع المسلم تبيين الحق من الباطل، وترك الناس يختارون لأنفسهم ما يريدون؛ لأن هذا هو ما يناسب التكليف لا غيره. فهل يقبل الديمقراطيون -وهم أكثر مرونة من غيرهم بحسب الزعم- أن يكون شطر من الشعب غير ديمقراطي؟... ألا يفرض الديمقراطيون مذهبهم على الناس فرضا، بجميع الطرائق؟!... غير أنه لا بد من تقرير أمر هنا، حتى لا يحدث تداخل بين ما هو من الدين وما ليس منه، وهو مما يتعلق بالمعارضة: فكما بيّنا أن المعارضة في النظام الديمقراطي هي محدودة وصورية، فكذلك ينبغي أن نؤكد أن الإسلام لا يقبل المعارضة. وقد يظن بعض المغرضين أنه قد عثر على ضالته، ليبيّن أن الاختلاف الذي أثبتناه سابقا مزعوم؛ والحقيقة هي أن الاختلاف لا يعني المعارضة حتما، من البداية؛ لأن الاختلاف الذي يُقره الإسلام، هو إبداء الرأي الذي يكون له سند من الشرع، من أجل بلوغ أفضل الغايات؛ وأما الاختلاف من خارج الإسلام، فلا يمكن أن يكون اختلافا بالمعنى الصحيح، وإنما هو هدم للنظام العام بمعنييه: الديني الأصلي، والسياسي المتعلق بالحفاظ على الدولة والمؤسسات. والمعارضة التي تحرص الديمقراطية على أن تجعلها صورية ومن دون أثر يُذكر، يتنزه الإسلام عن اعتمادها، من كونه مبنيا على الصدق والشفافية، بعكسها هي. نعني من هذا، أن الحكم لدينا، ليس محتاجا إلى اعتماد أساليب الإضلال، وهو يدعو من بدايته إلى الهدى والاستقامة. إن كثيرا من المسلمين اليوم، ما عادوا يميّزون ما ذكرنا من تفاصيل؛ لذلك هم محتارون كثيرا بين ما يشهدونه من استبداد في بلدانهم، وما تعيشه الدول الديمقراطية من عدل ومساواة لا يخفيان. فيظنون أن الأسلم هو الجمع بين الديمقراطية من حيث هي مذهب سياسي، والإسلام من حيث هو عقيدة وعبادات، لعلهم يظفرون بالحسنيين، كما يبدو لأول وهلة؛ والحقيقة هي مخالفة لما يظنون بالقطع. وذلك لأن الشيطان -الذي ينساه الناس ولا يحسبون حسابه- يقبل من الكافرين ما هم عليه من عدل جزئي، لأنه قد نال منهم مبتغاه الذي هو الكفر. وما دام قد أيقن من جعلهم من أهل النار، فإنه لا يكترث للتفاصيل التي قد تبدو معاكسة للأصل لديهم، لسببين: الأول، هو أن ذلك لن يغير من كونهم صائرين إلى النار شيئا؛ والثاني، هو إمكان التشويش بهم على الجهلة من المسلمين الذين سيقولون، لو كان الإسلام حقا والكفر باطلا، ما كان أهل الكفر ملتزمين للحق في تفاصيل حياتهم، ونحن على الظلم البيّن. وهم في هذه المقارنة أجهل من إبليس من غير شك، لأنه -لعنه الله- ينظر إلى النتيجة الكبرى النهائية، وهم لا ينظرون إلا إلى النتائج الإجرائية القريبة. من هنا كنا نقول لإخواننا: إن مواجهة إبليس ليست في متناول كل أحد، وإن كان من كبار الفقهاء!... إن ما يخفيه الديمقراطيون، ويعملون به حيث لا رقيب ولا حسيب من الناس، لا يقبل به الإسلام، من كونه دين الصدق والحق كما سبق أن ذكرنا. وهذا هو عينه ما يجعله لا يقبل المعارضة في وضح النهار، غير مغالط لا لموافق ولا لمخالف. فإن بقي -بعد هذا- من يظن أن عدم القبول بالمعارضة يعني الظلم والاستبداد حتما، فإننا نقول له: ابحث لك عن شيء تشغل نفسك به، مما ينفعك في الدنيا والآخرة؛ واترك البحث في التنظير السياسي، لأنك دونه في الشرط العقلي. وإن عمل الإسلاميين بالديمقراطية داخل تنظيماتهم، والقبول بها في عملهم السياسي الوطني، إن كانوا ممن دخلوا اللعبة مع النظام المحلي، أو إن كانوا ممن يكتفون بالمعارضة للنظام القائم، لا يدلان (العمل والقبول) إلا على عدم إدراكهم لأحكام الإسلام من جهة الأصول ومن جهة الفروع معا. وليسوا هم وحدهم من هم على هذا القصور الخطير، وإنما فقهاء الدين لا يقلون عنهم في ذلك، وهم المعنيون به قبلهم، لكونهم من ينبغي أن يبيّن الدين وأحكامه للناس أجمعين. فجاء الضرر للأمة في الجانب السياسي من هذين الطرفين، قبل أن يأتيها من أنظمة الحكم القائمة؛ لكون الحكام من المسلمين، لم يجدوا من أهل الدين من يرشدهم إلى أحكام الحكم في الدين، حتى يثبت ردهم لها؛ وإنما تُركوا في ساحة التنظير السياسي العالمي وحدهم، يعملون على ترقيع التنظير وتلفيق العمل، بما يجعل شؤون الشعوب لا تتعطل؛ خصوصا وأنهم يعانون من ضغط النظام العالمي، ودول الاستعمار السابق، باستمرار. وهذا الوضع، هو ما يجعل أنظمة الحكم لدينا، لا تجاوز بالنتيجة ما تكون عليه حكومات تسيير الأعمال الوقتية. وهذا أيضا، هو ما يجعل العمل لدينا، يُعوزه البُعد الاستراتيجي الضروري، الذي يلتقي فيه المستقبل والماضي على خط واحد مستقيم... |