انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2019/01/13
العمل الإسلامي ... - 18 -
الشورى إن الشورى التي هي الصيغة المناسبة وحدها للمجتمع الإسلامي، تخالف الديمقراطية من حيث الأصل ومن حيث الوسائل والغايات. فمن حيث الأصل، فإن الشورى قد جاء بها الوحي، بخلاف الديمقراطية التي هي من وضع بشري (اليونان ومن بعدهم). وقد ذكر الله الشورى في كتابه مرتين؛ الأولى في قوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]؛ والثانية في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]. وهذا يجعل الشورى خاصة بمجتمع المؤمنين دون غيرهم؛ وإن كان في مستطاع الكافرين العمل بها من حيث المبدأ هم أيضا إلى حد ما؛ مع كون مجتمع الكفر تحت هيمنة الديمقراطيين المتنفعين، لا يُمكَّن الناس فيه من أن يكونوا سواسية حقا. ولو كانت الشورى هي الديمقراطية -كما يزعم ذلك أقوام- لكانت عامة، ولم يجعلها الله من أعمال المؤمنين المصلّين. نعني من هذا، أن الشورى عبادة جماعية، بخلاف الديمقراطية التي هي ارتضاء لحكم الجاهلية. والعلم بالشورى حقيقتها ووسائلها وغاياتها، علم شرعي مستقل، وإن غاب عن الفقه الرسمي من بداية التدوين إلى عصرنا هذا. وإن التفريط في الاعتناء بهذا العلم، الذي هو شطر من الفقه السياسي العام، هو استثناء في أمتنا وليس الأصل؛ وهو إخلال بالتفقه في الدين الذي ينشأ عنه التبيين. وقد قال الله تعالى في التفريق بين العلماء وغيرهم من الناس، ما يصدق على ما نحن بصدده: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وعلى هذا، فإن الشورى تستصحب معها النور من كونها عبادة مأمورا بها، كما تستصحب الديمقراطية ظلمتها الأصلية لكونها من خارج دائرة الوحي. وهذا هو السبب الذي يجعل الشعوب المسلمة، لا تعمل بالديمقراطية كما يدعو أصحابها إليها، وإن أرادت النخبة الحاكمة فرضها عليها فرضا؛ وهو أيضا ما يجعل الديمقراطية كما يعيشها المسلم المهاجر في بلد غير مسلم، غير كافية ليعيش إسلامه معها كما يريد. نعني من هذا -وكما أوضحنا في الفصل السابق- أن الديمقراطية لا تكون مع الإسلام قط، وأن الجمع بينها وبين الإسلام لم يصل إلى نتيجة مُرضية في كل التجارب التي عرفتها البلدان الإسلامية إلى الآن؛ ولن يصل. وكل ما تعطي الديمقراطية (النسبية) في مجتمعاتنا، لا يعدو أن يكون خلطا يشبه الأعراض المرضية، بالقياس على أمراض بدن الإنسان المعروفة. ولا بد هنا -حتى نخرج من التصور الفقهي القاصر- من أن نتكلم عن معاني الآيتين المذكورتين آنفا بما يتيسر: 1. قول الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]: إن تصدير الآية بقول الله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ}، يدل على أن الأمر ليس من باب الإيجاب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه يمكنه الاستغناء عن المشورة، وهو العبد الرباني الخاص، الذي لا يشاركه في علمه ولا في سداد قوله مخلوق. فيبقى أن مشاورته صلى الله عليه وآله وسلم، هي من باب الرأفة بأصحابه وتقريب أمر الطاعة إليهم، بما تأنس نفوسهم مما اعتادوه في مجتمعاتهم سابقا، وبما يجعل الأفراد كلهم سواسية في الانتماء إلى جماعة المؤمنين. وهذا يعني أن مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنزُّل إلى مستوى الأصحاب، ناتج عن عفوه الذي هو عدم مؤاخذتهم وعدم تحميلهم ما لا يطيقون. فلو عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل الأمور بما يعلم هو وحده، لشق ذلك كثيرا على الأمة كلها، لاستحالة مقاربة (ولا نقول مشاركة) أحد من الناس لمرتبته صلى الله عليه وآله وسلم العلمية. وإذا كان آحاد الصحابة أو أئمة الدين لا يجدون مندوحة عن التنزل للناس، فما القول في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من هو. نقول كل هذا، لنصحح للناس سوء فهمهم في الآية، بظنهم أن الصحابة كان لهم رأي إلى جنب رأيه صلى الله عليه وآله وسلم. وكل ما تدل عليه السيرة المطهرة، مما هو داخل في هذا المعنى، فهو تنزل لا ندية عياذا بالله. وحتى يُفهم عنا ما نريد، فإننا سنشير إلى هذا المعنى من جهة الباطن، التي تجعل الصحابة مرايا، يُظهر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمره ما يشاء. وهو بهذا، عند استشارتهم رضي الله عنهم، يكون كمن يحدث نفسه الشريفة، فيما يشبه ما يفعله الواحد منا عندما يقلّب في نفسه أمرا من الأمور على وجوه عدة، وكأنه متعدد الشخصيات. هذا هو ما يليق فهمه في باب الشورى، من الآية السابقة. ولقد منعنا قصد الاختصار من الإتيان بأمثلة مما كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة في هذا الباب؛ ولعلنا نعرض لذلك في كتاب غير هذا، إن شاء الله. 2. قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]: هذا الصنف من الشورى، ينقسم إلى قسمين: ا- مشاورة الخليفة الرباني لسواه: وهذا يلحق بما ذكرناه من مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأصحاب؛ لأن الخليفة يكون له من العلم ما لا يحوزه الثقلان في زمانه. ومشاورته للناس لا تكون منه إلا تنزلا رضي الله عنه. لهذا السبب، كنا نقول في كتاباتنا: إن الشورى مع الخليفة تكون معلمة لا ملزمة. ب- كل شورى غير القسم الأول: وهذه تكون على قدر المستشار والمستشير. فإن كان المستشير ملكا والمستشار ربانيا، فإنها تكون ملزمة عند الله، والحاكم قد يُدرك ذلك وقد لا يُدركه. فإن كان المستشار عالما بأحكام الدين، ممن هم دون الربانيين في المرتبة، فإنها تلحق بالإلزام إن كانت المسألة واضحة لا خلاف عليها؛ وأما إن كانت مما يتطرق إليه الاختلاف، فإن الشورى تكون غير ملزمة وقتئذ؛ وعلى هذا تقاس مشاورة الخبراء في مختلف المجالات. وأما تشاور الناس فيما بينهم، فيُنظر فيه المستشار إن كان أعلى مكانة في العلم الحق، فإن المشاورة تكون ملزمة عند الله حينها، وإن لم يعلم المستشير. وأما إن كان الناس من طبقة واحدة، فإن الاستشارة تكون من السعة بحسب المسألة ومكانة الناس. وأما المقصود من الشورى العامة، التي هي سمة للمجتمع المسلم، فهو تغطيتها لكل مستويات اتخاذ القرار، بدءا مما هو متعلق بالأحياء، ومرورا بما هو متعلق بشؤون القرية والمدينة، وانتهاء بما هو من شؤون البلد والدولة. وهذه المستويات ينبغي أن تبدأ من الأسفل ولا بد، ليفرز كل مستوى المستوى الذي فوقه، إلى أن ينتهي الأمر إلى صفوة الناس في المستوى الأعلى. وهذا غير ما يكون من الديمقراطية، وإن شابهت الصورة الصورة؛ لأن الديمقراطية تُفرض على المجتمع من منتصف الطريق، عندما ترشح الأحزاب أشخاصا تقترحهم على الناس. والشورى ببدئها من البداية، تكون تعبيرا حقيقيا عن إرادة الناس (الجماهير)، لا عن إرادة النخبة. وهذا هو ما يخيف المتحكمين بغير حق، ويجعلهم يفضلون الديمقراطية على الشورى. ولا بد الآن من إيراد مواضع الاختلاف بين الشورى والديمقراطية، حتى يزداد أمرها وضوحا في الأذهان: 1. لقد ذكرنا في الفصل السابق أن الشورى لا تكون إلا في ظل نظام إسلامي. والنظام الإسلامي هو نظام الخلافة، سواء كانت الخلافة تامة كما هي خلافة الاثني عشر الوارد بهم الحديث، أم كانت خلافة ظاهرة فحسب (مُلك)، كما هي الحال في سائر الأزمنة مما سوى أزمنة الخلافة التامة. والشورى في النظام الإسلامي هي الوسيلة التي يوصل بها الناس آراءهم إلى الخليفة أو الملك، حتى يكون على علم برغبات الشعب وحاجاته، كما هي ومن دون تصرف من قِبل النواب الذين قد يؤتمنون على الآراء وقد لا يؤتمنون. وكما هو جلي، فلن يتمكن الناس من العمل بمبدأ الشورى، إلا إن كانوا سواسية في الاعتبار؛ لا يفضُل بعضهم بعضا إلا بمقدار التقوى، وبالمكانة العلمية والإتقان؛ إن كان الأمر متعلقا بما يدخل في التخصصات الضيقة، أو بما هو عائد إلى الأهلية في العمل المراد. 2. إن النيابة في إبلاغ الرأي من طرف النقباء والعرفاء بحسب العمل بمبدأ الشورى، هي نيابة تبليغ لا نيابة تمثيل بالمعنى الديمقراطي. وعلى هذا، فإن النقيب ليس له أن يضيف أو ينقص مما أُمر بتبليغه من قِبل جماعته شيئا، وإن كان يرى هو خلاف رأيها. وهكذا، فإن الآراء سترتفع صعودا من أدنى طبقة في الشعب إلى الحاكم، إما مباشرة وإما بعد المرور بمجالس شورية وسيطة تسهل العملية إداريا فحسب. ومن المناسبات أننا نعيش في هذه الأيام ما يسمى "ثورة السترات الصفراء" التي بدأت من فرنسا وصارت تنتشر في البلدان الأوروبية الواحد بعد الآخر. ومن مطالب أصحاب هذه الحركة الاحتجاجية، الانتقال من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية الشعبية. وهم لا يعنون بالديمقراطية الشعبية، إلا ما ذكرناه نحن هنا، من أمانة التبليغ لدى النواب، ومن عدم إمكان تصرفهم في رأي الجماعة (الشعب). ولو نظرنا إلى الأنظمة الديمقراطية في العالم، لوجدناها تتحاشى العمل بنظام الشورى وإن بدا صلوحه جليا لكل ذي عقل، لكونه لا يخدم النخبة السياسية ويخدم الجماهير العريضة. وهذا لا تعلم النخب معه، إلى أين يؤول الأمر... نعني أن النظام العالمي نفسه، لن يقبل بهذا النظام، لخشيته من انفلات الزمام من يديه. هذا، بخلاف ما يُقال في الظاهر من إرادة لخدمة الشعوب ورعاية مصالحها. 3. إن كان الزمن زمن خلافة تامة، فإن الشورى تكون معلمة لا ملزمة؛ بسبب كون الخليفة متلقيا عن الله كما ذكرنا سابقا، وأنه قد يكون على علم في المسائل ليس لغيره. فإن أشار بعد سماع رأي الشعب بخلاف ما سمع، فتنبغي طاعته من غير أدنى شك. وأما أهل الديمقراطية في المقابل، فهم مقطوعون عن الله، وإن كانوا مسلمين؛ بسبب إيثارهم حكم الجاهلية على حكم الله (الخلافة). وقد قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ . أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49، 50]. وحكم الله في الظاهر، ليس إلا موافقة شرعه؛ فمن أراد معرفة مقدار قرب نظام حكم ما من حكم الله، فلينظر إلى مدى التزامه لأحكام الشريعة فحسب. وأما إن كان الزمن زمن ملك، أو زمن دول وطنية لا تمثل إلا شطرا من الأمة، فيحسن أن تكون الشورى ملزمة، بسبب كون الحاكم عاميا من جملة العوام من حيث المرتبة الدينية. ويفضل أن يكون للشورى وقتئذ مجلس أعلى، يبت في مهمات الأمور مع الحاكم، تجنبا للوقوع في الاستبداد الذي كثيرا ما تكون أضراره متعددة ومتعدية. 4. إن كانت وسيلة الديمقراطية الانتخاب السري (الصناديق)، فإن وسيلة الشورى الانتخاب (بالمعنى اللغوي) العلني الذي يكون من غير تصويت؛ وإنما باقتراح الأصلح ومناقشة أمره جماعيا في جلسة مفتوحة (بحسب مكانة المجلس المعني لا عامة دائما كما قد يُفهم). ويبدأ ذلك من أدنى مستويات الجماعة، كجماعة الحي أو جماعة القبيلة، وينتهي إلى أعلى مستوى في الدولة. والفرق بين الانتخابين، هو أن الانتخاب الشوري يكون الأمر فيه أقرب إلى الصدق من حيث هو مواجهة بين أفراد الجماعة جميعهم. ونعني من ذلك أن الانتقادات والاعتراضات تلزم أصحابها بإقناع عموم الجماعة، بخلاف التصويت الديمقراطي الذي قد يكون عن هوى أو عن بيع للصوت بمقابل مادي، فيخون بذلك الفرد نفسه ويخالف ما يعلم حقيقة. 5. الشورى لا ترشُّح فيها كالديمقراطية، وإنما تعتمد الترشيح. نعني أن الشخص الذي ينوب عن الجماعة في إبلاغ رأيها إلى الحاكم، ينبغي أن تفرزه الجماعة من نفسها، وبمعاييرها الخاصة؛ لا أن يترشح هو من نفسه، أو بوقوف جهة ضغط ما خلفه. فهذا مما لا يُسمح بوجوده في مجتمع مسلم، تُبنى حياته على الشفافية والوضوح. وأما منع الترشح من النفس، فلأنه يكون عن هوى ولا بد؛ وعاقبة الهوى غير مأمونة على العمل الجماعي إن هو داخله. والهوى هنا، مبناه على تزكية النفس التي يقول الله فيها: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِنَّا وَاللَّهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ.» [1]. وإغفال الإسلاميين لهذا الأصل، مع النهي الرباني ومع التشديد النبوي الذي يدل عليه اللفظ، لا يمكن أن يأتي بخير؛ وهو دخول في النظام الجاهلي عن عزم وقصد لا يليقان بمن يرفع شعارات دينية جملة وتفصيلا. ولو عاد العاملون للإسلام بعد إخفاقاتهم المتعاقبة إلى الأصول الشرعية، لعلموا من أين أُتوا. 6. نستنتج مما سبق، أن الشورى يعمل بها الرجال، أقوياء الشخصية، الذين لا يهابون مواجهة الخصوم في ساحات الجدال الجاد. وأما الديمقراطية، فهي خليقة بالجبناء، الذين لا طاقة لهم بالانتصار لآرائهم -إن كانوا من ذوي الرأي- بالحجة والبرهان. ويظهر من هذا بالنتيجة، أن النظام الديمقراطي، يصلح لأن يتخفى تحت غطائه مَن يمنع الدينُ من اشتغالهم بالشأن العام، ومن هم راعون للفساد بجميع صنوفه، بخلاف الشورى التي لا تُقدّم إلى الصف الأمامي إلا من يكون جديرا بالتقدم. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّهَا سَتَأْتِي عَلَى النَّاسِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ يا رسول الله؟ قَالَ: السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ.» [2]. وإن نحن أمعنا النظر، فإننا سنجد هذه الآفات الواردة في الحديث مرافقة للعمل بالديمقراطية؛ وسنجد الرويبضة لا يتمكن من تقدم الصفوف إلا معها حصرا. فما أدق العبارات النبوية، وما أصدقها في وصف ما نحن عليه في زماننا!... وقد يقول قائل: بما أن الشورى تنطلق من الشعب، فهي تشبه الديمقراطية في مبدأ حكم الشعب لنفسه بما يرتضي!... فنقول: الأمر مختلف!... ففي الشورى، يكون الشعب مقيدا بالشريعة، لا تجوز له مخالفتها. وإن أدلت الجماعة برأي مناقض لأصل من أصول الشريعة، فإنه يُرد عليها تلقائيا، من قِبل أي عالم يبلغه الأمر، أو من قِبل الحاكم الذي ينبغي أن يعرض كل الأقوال على علماء مختصين، يعلم منهم ما هو موافق للشريعة مما هو مخالف. وأما الديمقراطية فالشعب لا يتقيد فيها إلا بما يقيد نفسه، وإن كان الاختيار بادي السوء لدى النخبة من أهل الرأي من البداية. وهذا هو سبب وقوع الشعوب الإسلامية فيما يناقض الشريعة، ومع ذلك تمضيه الحكومات ويُعمل به، رغم النتائج الكارثية التي لا تلبث أن تظهر عقبه. وما نذكره هنا، يعيدنا إلى ما أكدنا عليه سابقا من عدم خلو الديمقراطية من تحايل على الفرد وعلى الجماعة. فلو عمل المسلمون بالشورى، فإنهم لن يستطيعوا أن يمرروا في برلماناتهم ومجالس حكوماتهم ما يخالف الشريعة أبدا ومن البداية؛ أما مع الديمقراطية، فإن الاستغفال قد يستمر عقودا من الزمن، إن لم يجد من يقوم له من العلماء الناصحين. بل إن الشعوب، حتى مع قيام العلماء، لا تعود تملك من أمر تغيير ما أمضته المؤسسات الدستورية شيئا، بسبب التمثيل والنيابة (البرلمانية) التي نزعت منها حق الكلام منذ إعلان فوز المرشح بثقتها زعما. وأما ما تضطر إليه الشعوب عند فقدها الثقة في نوابها، من مظاهر احتجاجية مما تسمح به الديمقراطية مبدئيا، كالمظاهرات والمسيرات والوقفات، فإنه لا أثر له في الغالب لدينا، وإن كان له بعض أثر لدى الشعوب الغربية، بسبب التباين في مدى الالتزام بالديمقراطية من الجهة العملية. وهذا هو ما يجعل الأنظمة المتخلفة لدى الشعوب المتخلفة، تلجأ إلى العنف في قمع المتظاهرين الرافضين لسياسات بلدانهم؛ في تنكر للديمقراطية وللشورى معا. في النظام الإسلامي الشوري، وفي زمن الملك لا زمن الخلافة، إن رأى الشعب خروجا عما أقرته المجالس الشعبية المحلية، في مجال السياسات العامة أو في مجال السياسة الخارجية، فإنه يمكنه التصدي لذلك بإعلان الرفض في جميع مجالس الشورى، والتي تنتهي إلى وقوف المجلس الوطني لما يراه مخالفا؛ فيكون ذلك عصيانا تاما سلميا، يشل كل أجهزة الدولة وإداراتها، إلى حين العودة عما اختلف فيه. وهكذا لا يتمكن الحاكم من إمضاء ما يريد، وهو يرى الشعب كله في مواجهته، أو وهو يعلم من البداية، أن في مقدور الشعب تنحيته إن هو أصر على ما فيه الضرر. وحتى تنحية الحاكم، فإنها تتم في نظام الشورى بأسهل طريقة ممكنة؛ لكنها في الآن ذاته، لا تكون متعجلة ولا عن هوى، بسبب اتساع دائرة الشورى نفسها. وهذا بخلاف ما يقع في الأنظمة التي تتدثر بدثار الديمقراطية، والتي يُمكن أن يُقلب النظام فيها في ليلة واحدة، إن أحسن محركو الجماهير إتقان عملهم بالإعداد الجيد ودقة التنفيذ. ولو تساءلنا: لم لا تعمل الشعوب بنظام الشورى (ما يشبهه)، حتى في البلدان غير الإسلامية، إن كان أمر الحكم اجتهاديا يُعمل فيه بكل ما هو أقرب إلى الكمال في ضبط المعاملة بين الحكام والمحكومين؟ فإننا سنصل إلى حقيقة أن الحكام حيثما وُجدوا، يبغون إبقاء هامش لمناوراتهم الشخصية، التي يمكنهم بها العمل ببعض هواهم إن لم يكن بجله، في غفلة من الرقابة الشعبية الحق، مع زعم خدمة الشعب في جميع الأحوال. وإن أسوأ مظهر من مظاهر التحايل على الشعوب، ما عرفته الأنظمة الاشتراكية الشمولية، والتي بدعوى خدمة الشعب، لم تتوان عن التنكيل به وقمع حريته بما لا يُقارن مع سواها من الأنظمة. وأما ما يرومه الجهلة من تسوية بين النظام الإسلامي والنظام الثيوقراطي الأوروبي في القرون الوسطى وما قبل عصر "النهضة"، فهو تلاعب بالألفاظ وخلط في المعاني. ذلك لأن الكنيسة لم تكن "ربانية" كما كان يدعي أهلها؛ وإنما هي منظمة شيطانية متسترة خلف ستار الدين، لدى شعوب لا تعلم من أمر الدين شيئا؛ إلا ما ورثته عن أسلافها من معتقدات مضطربة ومخاوف مَرَضية -ناتجة عن إرهاب ممنهج طويل- يرسخها رجال الكنيسة من أجل التحكم في الرقاب بالإكراه. أما في الإسلام، فالقيادة (هكذا يُفترض) ربانية على صلة بالله حقيقة؛ والشريعة عمل بأحكام الله حقيقة، لمصلحة عباد الله أفرادا وجماعات حقيقة. والشورى في النظام الإسلامي هي كالجهاز الدموي للجسم الإنساني، عندما يكون سليما نقيا ومنيعا، تعمل على إيصال النفع إلى كل الأعضاء مهما بعدت عن مركز القرار، بالقدر الذي تدعو إليه الحاجة والصلاح العام، لا بحسب الانتماءات الضيقة العرقية أو الحزبية أو غيرها... ولا بد -حتى نزداد فهما لحقيقة أوضاعنا، أن نقرر أن العمل في الأزمنة المتأخرة بنظام الشورى، لم تبلغه أي من الشعوب الإسلامية إلى الآن، لأسباب منها: 1. الجهل بالشورى وضبابية إدراكها، مما يجعل كل نظام غيرها يُقدم عليها من حيث هو تصور منضبط وقابل للتطبيق العملي؛ أو هكذا يراد للأمر أن يبدو. والمسؤول عن الفراغ التنظيري (التأصيلي) هنا، هم فقهاء الدين الذين أغفلوا هذا الجانب من الفقه لسبب من الأسباب. 2. جهل الناس بطريقة العمل (بمبدأ الشورى) التي كان عليها الخلفاء الأولون، لعدم بلوغ التفاصيل التاريخية كاملة وكما هي في سياقاتها دائما؛ ولاختلاف الدولة الأولى عن الدولة الحديثة المتضخمة. فإن الحرية الفردية والجماعية في الصورة الأولى للدولة، لا يمكن لأحد أن يتصورها اليوم تحت هيمنة الدولة بجميع أجهزتها وأذرعها على كل الجوانب الحياتية. ولن نبالغ إن قلنا إن الدولة الحديثة مخالفة للإسلام من بداية نشأتها، بسبب كونها تعمل على التحكم في الناس إلى حد يقارب الاستعباد غير المعلن. وإن الجهل بمقدار الحرية الفردية في التشريع الإسلامي، هو الذي سمح لأنماط من الحكم أن تظهر بين المسلمين، ما كان لها أن تبقى يوما واحدا لو أن الناس كانوا على فقه بدينهم. 3. تعرّض الشعوب الإسلامية لغزو فكري، يقدم نظام الحكم الديمقراطي الغربي على أنه النموذج البشري الأكمل، والموافق لجميع أصناف الشعوب. والحقيقة هي أن ذلك كله مقدمة لاستعمار أوسع وأكثر شمولا من الاستعمار الذي عرفته بعض البلاد في القرن الماضي. إنه مقدمة للنظام الدجالي العالمي، الذي لن يقوم إلا بعد أن تتخلى كل الشعوب عن خصوصياتها؛ خصوصا منها الشعوب الإسلامية التي هي وحدها المالكة للتصور الأكمل، لنظام حكم عادل بالمعنى الحق لو كانت تعلم. لا بد في ختام هذا الفصل من أن نقول: إن نظام الحكم في الإسلام لا ينفصل عن شؤون الدين الأخرى كلها، لأنه مبني على مقتضياتها وما يوافقها، في انسجام كلي ينبغي أن يظهر في صورة جمالية هي أقصى ما يمكن أن تكون عليه الحال في الحياة الدنيا. فهو (نظام الحكم) لا يبعد عن مبدأ التوحيد الذي يعبد بمقتضاه المسلمون الله وحده، ويكفرون في المقابل بالطاغوت، الذي يمكن أن يكون شخص الحاكم إن هو نسي حقيقته وتربّب، أو يكون نظام الحكم الجاهلي الذي يُلزم الناس بما لا أصل له من الدين، كاستعباد الناس أو تكليفهم بغير ما يليق بهم أو بما هو فوق طاقتهم. كما ينبغي لنظام الحكم الإسلامي عدم مصادمة العبادات المفروضة، كإقامة الصلوات في وقتها، وصيام شهر رمضان، بما يجعل الإتيان بها صعبا أو متعذرا؛ لأن الفوز بالآخرة مقدم على كل أمر دنيوي في مجتمع المؤمنين. وأما من الجهة الأخلاقية، فلا يخفى ما ينبغي أن يشيع في المجتمع المسلم تحت نظام الحكم الإسلامي من صدق وأمانة ونصيحة وتعاون عام على البر والتقوى. وأما مراعاة أحوال المسلمين والمسلمات، فيما يعود إلى الضرورات، وإلى ضمان عدم المس بكرامة الآدمي وعدم الحط من قدره، فينبغي أن تكون من أولى الأولويات، التي تُحرك من أجلها الجيوش إن اقتضى الأمر ذلك؛ لأن الدين ما شُرع في الأصل إلا لرفعة العباد ماديا ومعنويا، قلبيا وبدنيا. ولو أردنا الاستدلال لهذا الجانب من القرآن والسنة، للزم الإتيان بهما على تمامهما، لعدم خروج شيء من التشريع عما ذكرنا. فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة!... [1] . أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [2] .أخرجه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه. |