انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2023/11/27
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (8)
الفصل السابع: فلسطين ليست صنما يُعبد
إن الأمم إذا فقدت دينها، وخرجت إلى تديُّن وضعي بعد انفصالها عن النور النبوي، فإنها تتخذ أصناما من الأثاث الديني الذي كان فرعيّا، لا لتجعله في مواجهة التديّن، فتكون مخلّة بالترتيب؛ ولكن لتصير عابدة له من دون الله؛ لتوهم نفسها بأنها على الدين باقية. وهذا الفعل معلوم من إبليس، إذا أراد أن يُضل قوما بعد هُداهم. وإن ما يبلغ به اللعين غايته من الأمة الواحدة، إدخالها في الجدل، الذي عرفنا جوانبه الكبرى في الفصل السابق، حتى تقع المخاصمة، ويحدث التدابر، لتتعبّد الطريق أمام الاقتتال الداخلي الذي يصير متوّجا لكل الموبقات السابقة له. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ؛ ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ.}»[1]. ولقد اتخذ بعض المسلمين عند طروء الغفلة عليهم القضيةَ الفلسطينية محورا تدور عليه بعض العقائد التفصيلية، ليُقنعوا أنفسهم بأنهم على الأصل عاملون، وليسهل عليهم استتباع العامة الذين لا يُجارونهم في العقائد المعقّدة، أو في التنظيرات المتطلّبة لدرجة عقلية ما، في حدّها الأدنى. ولنلاحظ الآن ما يلي: 1. اختزال العداوة الدينية، في اليهود وحدهم؛ وكأن المعادي لليهود لا بد أن يكون على الحق. والشيطان الذي هو أكبر الأعداء، والذي ورد فيه قول الله تعالى: {إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ لَكُمۡ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا یَدۡعُوا۟ حِزۡبَهُۥ لِیَكُونُوا۟ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلسَّعِیرِ} [فاطر: 6]، قد جعله بعض هؤلاء الزاعمين لعداوة اليهود، صديقا حميما، ومستشارا أمينا. ونحن نعلم أنه هو من يُضخّم عداوة اليهود في نظر العامة من المسلمين، ليُشغلهم بها عن التوجّه إلى رب العالمين، الذي تقوم عليه العبادة لله في أصلها. ولسنا هنا ندعو إلى رفع الحواجز بين المسلمين واليهود، كما قد يحلو للجهلة أن يفهموا؛ ولكن نريد أن نأخذ الأمور بالأقدار (الأحجام) الشرعية لها، حتى لا يصير الأصل فرعا، ولا الفرع أصلا. وذلك لأن الخلط في الترتيب، هو أول أسباب وقوع الناس في الضلال. وسنعود إلى مسألة العداوة في فصل آخر، لنتبيّن أصلها... 2. دخول بعض اليساريّين في مسألة فلسطين بحماس يفوق حماس أهل الدين، وهم إمّا ملحدون (بالاصطلاح المعاصر)، أو مشركون، أو غير ذلك مما لا يمتّ إلى الدين إلا بصلة ثقافية تاريخية واهية؛ لا يجرؤ أصحابها على إعلان قطعها، لسبب من الأسباب، والتي على رأسها في الغالب، الجُبن الذي يكون عليه المشركون... 3. توهُّم الشعوب عند نشوب المعارك في فلسطين، وعند هبوب ريح الحماسة عليها، أنها حيّة؛ إذا صدر عنها اضطراب في الفعل والحركة، كالذي يصدر عمن يتخبطه الشيطان من المس. ثم ما تلبث بعد ذلك، أن تعود إلى سباتها التاريخي والحضاري، وكأنها قد أدّت ما عليها. والمغرضون من السياسيّين الذين على رأسهم الإسلاميون، يقنعون من الشعوب بتلك الهبّات التي يُوظّفونها من أجل ابتزاز أنظمة الحكم، عندما تظهر تلك الشعوب وكأنها متابعة لهم ومناصرة... 4. اتخاذ موالاة الفلسطينيّين عقيدة دينية، تحل محلّ العقائد في الله ورسوله في التفاصيل. فالمسلم صار هو من ناصر فلسطين بالكلام الأجوف والتظاهر الاصطناعي، والكافر من خالف أو تقاعس؛ من دون اعتبار لما هو شطر من الفلسطينيّين أنفسهم عليه، من فسوق في الدّين، ومن انقسام في المواقف والعمل. فالشيوعيون والاشتراكيون والليبراليون من الفلسطينيين، ربما يسهل التنصل منهم، بعد لأي؛ ولكن "حماس" مثلا، يُعدّ من يُراجعها في فعل من أفعالها صهيونيّا، مشكوكا في إسلامه ذاته!... عجبا!... وكل هؤلاء الذين يقعون فيما ذكرنا، يكونون قد اتخذوا دينا وضعيا، صاغوه بأنفسهم، بديلا عن الدين الربّاني الذي جعله الله لعباده. وقد سبق أن قلنا إن الأمم عندما تفقد الدين الأصلي، تخرج إلى عبادة ما سوى الله، بزعم التديُّن ذاته. ومن هذا الباب، عُبد العجل([2]) عند بني إسرائيل الأوّلين؛ وتطور العجل مع اليهودية إلى عجول؛ وعُبد عيسى بن مريم من دون الله عند النصارى، عندما فقدوا الصلة بربهم. وأما المسلمون، فمنهم من يعبد "السلف"، ومنهم من يعبد كذَبة الشيوخ من المتصوّفة، أو القيادات كما هو حال الإسلاميين من المتأدلجة. وهكذا، فإن فلسطين (وسواها من شعائر الدين)، لدى أصناف المنحرفين، ليست إلا بضاعة سياسية رائجة، لا يمكن ألا يستثمروها، من أجل بلوغ الغايات الفاسدة؛ مع أنها كانت عند المسلمين قبلهم، أرضا مقدّسة يتعبدون الله بالعناية بها وحفظها عن تلاعب أيدي الغادرين... ولقد سبق لنا القول في فصل سابق، بأن بيت المقدس هو قلب العالم، والقلب ينبغي أن يُحافَظ على نقائه وطهارته، حتى يصلح مسكنا للرب؛ لا أن يصير هو ربّا يُعامل معاملته، في تغييب لمعاملة الرب التي هي الدين حقّا... وبيت المقدس يأتي في مقابل القلب من الإنسان أيضا؛ وكما أن بيت المقدس ينبغي أن يُطهّر من الأصنام التي كانت عبادتها منتشرة في الشام كبعل، الذي اشتُقّ من اسمه اسم مدينة "بعلبك"، فإن قلب الإنسان أيضا ينبغي أن يُطهّر من الأصنام المعنوية. فإذا جُعل بيت المقدس في الزعم صنما في القلب، صار التناقض صارخا، وظهر مدى تلاعب الشيطان بالعباد. وذلك لأن اللعين عندما يمعن في الاستهزاء ببني آدم، فإنه يستخرج لهم من مفردات الدين ما يَصنع منه لهم أصناما يُضاهي بها عجل بني إسرائيل؛ حتى إذا عبدوها ضحك منهم وسخر... ولقد تداول الصوفية حديثا نبويّا، لم يثبت عند أهل الحديث؛ ولسنا ندري هل ردّوه من جهة السند أم من جهة المتن. فإن كان الرد من جهة المتن، قياسا على ما ردّه ضعفاء العقول وضعفاء الإيمان من متونٍ غيره، فإن ذلك الردّ لا يُعتبر؛ وإن كان الرد لعلة في السند، فإنه يُنظر فيه؛ لأن كثيرا من الأحاديث تصح من جهة المعنى، ولا تصح عند أهل الحديث، كهذا الحديث القدسي الذي جاء فيه: «ما وَسِعَنِي سَمائِي وَلا أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ.»[3]. ونحن نؤكد على صحة معنى الحديث، من جهة الذوق. والربّاني عندنا، لا يكون ربانيا حتى يسع قلبه الربّ، وإلا فإن ربانيته تكون من قبيل ربانية التوجه لا من قبيل ربانية المواجهة. ولنذكّر بدليل الربّانية بصنفيها، من القرآن الكريم؛ ولنبدأ بربانية التوجه التي يقول الله فيها: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُؤۡتِیَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا۟ عِبَادًا لِّی مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُوا۟ رَبَّـٰنِیِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ} [آل عمران: 79]، وأما دليل ربانية المواجهة، فهو قوله تعالى: {لَوۡلَا یَنۡهَىٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِیُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ عَن قَوۡلِهِمُ ٱلۡإِثۡمَ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُوا۟ یَصۡنَعُونَ} [المائدة: 63]، وكذلك كل دليل على النبوة هو دليل عليها؛ لأن النبوة هي أعلى مراتب ربانية المواجهة، ولأن الوراثة تندرج فيها كما يندرج كل فرع حكما في أصله. ونعني من كل هذا، أن المسلمين إما أن يكونوا من أهل المواجهة، وهي مرتبة الإمامة في الدين؛ وإما أن يكونوا من أهل التوجّه، وهو ما يُفترض أن يكون عليه المأمومون والأتباع. وأما من ليس لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، كحال جُلّهم في زماننا، فإنه يكون من الفئة الهالكة ولو بالمعنى الجزئي. ولقد حضرت مع شيخنا سيدي حمزة أبي دشيش رضي الله عنه مجلسا ليلةً، طلب من أحد الحاضرين أن يدعو في ختامه؛ ولكن الرجل بعد بضع دعوات، عاد إلى الشيخ يسأله أن يدعو بتحرير القدس، فرد عليه الشيخ فورا (وهذا ما يكون عليه الربانيّون)، وهو يشير إلى صدره الشريف: "إذا تحررت هذه القدس، فستتحرّر تلك.". وكان هذا الجواب جامعا لعلوم كثيرة، منها ما كنا نحن بصدده؛ ومنها ما فيه إشارة جلية إلى تقابل قلب العالم وقلب الإنسان، الذي نقرره في هذه الصفحات. وتحرير قلوب المسلمين، الذي هو إيذان بتحرير بيت المقدس، يكون بالعودة إلى الدين في صورته الأصلية، بعيدا عن جهل الفقهاء وجهالاتهم، وبعيدا عن المـغرضين من الإسلاميّين؛ ولا يكون ذلك إلا بتطهير القلب من الأدناس التي لا تزيلها إلا التزكية الشرعية على يد إمام وارث. فإذا عاد المسلمون إلى حال السواء القلبي، فإن الله يأذن بتطهير بيت المقدس من جميع المشركين، الذين هم بالنظر إليه أدناس غير لائقة به. يقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِنَّمَا ٱلۡمُشۡرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا یَقۡرَبُوا۟ ٱلۡمَسۡجِدَ ٱلۡحَرَامَ بَعۡدَ عَامِهِمۡ هَـٰذَاۚ} [التوبة: 28]، وليس المقصود بالمسجد بيت الله الحرام وحده الذي خصّته الآية، ولكن كل المساجد التي يُعبد فيه الله تعالى، وعلى الرأس منها: المسجد النبوي والمسجد الأقصى. واليهود والنصارى مشركون، وشطر من المسلمين اليوم مشركون بالمعنى الذي لا يُخرِج عن الملّة؛ فلا يغتر أحد بشهادته لنفسه، أو بشهادة مـُمالئيه له، المشاركين له في العقيدة البدعية التي هو عليها، أو في التوجه السياسي الذي يميل إليه؛ فإن أقل من ذلك، أو مثله، هو ما أهلك اليهود والنصارى من قبل. ثم إن اعتبار المشركين نجاسة، هو حكم معنوي شرعي؛ وليس عنصريّة تحاكي عنصرية الصهاينة. فعلى من يبلغه كلام الله، أن يحتاط من الفهم الخاطئ، الذي قد يأخذه عن مجتمعه، أو عن الفكر البشري السائد في زماننا؛ أو الذي قد تُروّج له عمدا الشياطين... ولا بد الآن من الكلام عن الإمامة([4]) في الدين، والتي عُمل على طمس معالمها منذ القرن الأول عند خروج معاوية على عليّ عليه السلام. ومنذئذ، والأمة من جهة عمومها، في تقهقر ستبلغ به مرتبة الكتابيّة، وتدخل جحر الضب الذي يُشار به إلى الفسوق عن الدين الرباني، كما دخلته اليهود والنصارى قبلها. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ! قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، آليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟!»[5]. ودخول اليهود والنصارى جحر الضب، إنما قد وقع لأنهم فقدوا الصلة بالله عن طريق فقد الصلة بالنبوة في زمانها التشريعي المناسب؛ وهذا مفهوم، ولا يخفى عن أقل فقهاء المسلمين علما؛ ولكن: كيف يدخل المسلمون جحر الضبّ وهم داخل الزمن التشريعي المحمدي، مع إيمانهم المجمل بالرسالة المحمدية والانتساب الظاهري إليها؟... وحتى نجيب عن هذا السؤال الذي لولا شهادة الحديث السابق له، لاتّهَمَنا علماء الدين في ديننا؛ ينبغي أن نجد نقاط الالتقاء بين عموم الأمة اليوم، والكتابيّين، ولنلاحظ: 1. إن الكتابيّين كانوا على دين في الزمنيْن التشريعييْن: الموسوي والعيسوي، وهم قد انقطعوا عنه إما لكفر داخل الزمن التشريعي المخصوص، وإما لانقضاء ذلك الزمن وبقائهم على موروثهم الذي يظنونه دينا، مع كونه مخالفا؛ وهو ما يُشير إليه مثل قول الله تعالى: {ٱتَّخَذُوۤا۟ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَـٰنَهُمۡ أَرۡبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوۤا۟ إِلَـٰهًا وَ ٰحِدًاۖ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَـٰنَهُۥ عَمَّا یُشۡرِكُونَ} [التوبة: 31]. والمسلمون بما أن الزمن التشريعي المخصوص بهم لم يَنقَضِ، فلا يكون كافرا منهم، إلا من ارتد عند كفره بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمن الصحابة، أو في زمن التابعين، كما حدث للمرتدّين زمن الرّدّة الأولى. وبما أن هذا الكفر جليّ ولا خفاء به، فلم يبق فيما بعد ذلك من الأزمنة، إن لم يخرجوا إلى الكفر الجلي، إلا أنهم قد انقطعوا عن الدين بسبب تصوراتهم الموروثة عن أئمة الضلال منهم، عندما ظنوهم أئمة هدى، وأخذوا عنهم الدين. وكما أخبر الله عن بعض اليهود والنصارى، بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله؛ فكذلك المنحرفون من المسلمين سيتخذون فقهاءهم أربابا. وهذا، رغم أنهم في غالبيتهم لا يكادون يُقرّون بما أخبرنا، لاستحكام الآراء الفقهية منهم. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلُ.»[6]. والمخاللة مرتبة في المحبة، يكون أحد المحبّين كأنه متخلل لمحبوبه فيها، أو كأن محبه متخلل له. ومن هذا المعنى لُقّب سيدنا إبراهيم عليه السلام بخليل الرحمن؛ أي من شدة تحقّقه بالربانية التي تكلمنا عنها آنفا. وهذه المخاللة التي نبه إلى خطورتها النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، يستمد الخِلّ بها دين خليله من غير تعمّل، وإنما بالانجذاب القلبي الناتج عن التوجه فحسب. وقد دلّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه والمسلمين من بعدهم على هذا الأصل العظيم في الاستمداد، عندما قال لهم: «اَلْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ!»[7]؛ وذلك حينما قيل له (عليه السلام): "الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ ولَمَّا يَلْحَقْ بهِمْ؟"[8]. والمعية المذكورة في الحديث، هي معية دائرة وليست معية مرتبة؛ ونعني من هذا، أن من أحب النبي -مثلا- فإنه لا يصير نبيّا مثله، ولكن يصير ضمن دائرته التي هي الدين بصورة مجملة. وهو سيترقّى بتلك المحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد، من إسلام إلى إيمان إلى إحسان؛ ولكنه لن يصير نبيا قط؛ فعلى الناس اعتبار ما ذكرنا، حتى لا تختلط عليهم المعاني. فإذا تقرر ما ذكرنا، فعلينا أن نعلم أنّ الصحابة رضي الله عنهم، قد عملوا بهذا التوجيه النبوي، وقد وجدوا أثره بالحال. ونحن نذكر هنا الحال، لئلا يقصر السامع معنى المعية -كما يحدث من الفقهاء- على معنى المعية في الجنة، فإن ذلك معنى منوط بالآخرة، تسبقه معان تتحقق للعبد المؤمن في دنياه. ولو أمعن الناس النظر، لوجدوا الشطر الأكبر من دين الفقهاء، منزوع الأثر في الدنيا؛ لجهلهم أولا، ثم لقياسهم معاني الدين على ما يجدونه من أنفسهم؛ وما أبعدهم!... لكن يبقى السؤال الحارق هنا: كيف يتحقق المؤمنون بمحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يبلغوا درجة الخُلّة، وهم قد فقدوا شخصه عليه السلام، بعد وفاته؟... وهنا سيتبدّى لنا التنظير الفقهي الذي كان سببا في انقطاع الأمة عن نبيّها، حتى تمكّن منها الشيطان، وأدخلها جحر الضب الذي هو محلّ النجاسة الشركية... 2. إن الأمة الإسلامية، لم تخرج من الملّة، ولم تُعلن كفرها بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فما الذي طرأ عليها حتى نزلت إلى مستوى الأمم الكتابية؟... وهنا يأتي الكلام عن الإمامة الدينية، التي يُعامل بمقتضاها التابع متبوعه، معاملة الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من دون أن يعتقد فيه النبوة. وهذا، لأنه من دون إمام سيبقى المؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، في مرتبة الإيمان الخبري الذي لا يتجاوز مرتبة الإيمان المجمل إلا قليلا. وهؤلاء الأئمة هم مذكورون ضمنا، في كل آية من كتاب الله، تتكلم عن الأنبياء والرسل عليهم السلام؛ وذلك، لأن الوارث يأخذ حكم موروثه، في كل مقام بحسبه، وفي كل مجال بحسبه، كما نقول دائما. وقد أغفل الفقهاء هذا المعنى، مع أنه مما كان ينبغي أن يتناوله فقه الظاهر قبل الفقه الباطن؛ ولكنّه التحريف الذي طال الدين، قد فعل فعله في النفوس. ولو أن الفقهاء كانوا في هذا كله على جهل لكفاهم، فما القول عندما يصيرون معادين للأئمة حسدا وبغيا؟!... يقول الله تعالى: {وَدَّ كَثِیرٌ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ فَٱعۡفُوا۟ وَٱصۡفَحُوا۟ حَتَّىٰ یَأۡتِیَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیرٌ} [البقرة: 109]. وهذا دليل واضح، على أن الفقهاء الذين هذا حالهم (ونحن نعرف نفرا منهم)، قد نزلوا إلى مرتبة الكتابيّة التي حذّرنا منها مرارا. ومن الآيات العامة التي تشمل الأنبياء والورثة، نذكر -على سبيل المثال- قول الله تعالى: {وَمَنۡ أَحۡسَنُ قَوۡلًا مِّمَّن دَعَاۤ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا وَقَالَ إِنَّنِی مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِینَ} [فصلت: 33]؛ فكم لحق بهذه المرتبة في أمتنا، والتي هي بالأصالة لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم، من واحد من آل البيت الكرام ومن الصحابة المرضيّين، ومن أئمة الدين من كل زمان إلى يوم الدين!... ولسنا نعني بالدعوة إلى الله، ما يصطلح عليه سفهاء المسلمين اليوم، مما يدخل أحيانا في المعاصي لا في الطاعات؛ كمن يتعالم على الناس، أو يُرائي بأعماله وبذكر أحواله، أو يتخذ الدعوة إلى الدين حرفة حينما عجز عن اتخاذ حرفة يترزّق منها... وقد كثر هذا الصنف في الأمة، حتى بتنا نتساءل: ألم يبق فينا إلا مثل هؤلاء؟!... فالدعوة إلى الله بالاصطلاح القرآني، ليست هي الدعوة إلى الدين، وإن كانت هذه الأخيرة متضمَّنة فيها؛ بل هي تعريف العباد بربّهم بعد التحقُّق بمعرفته سبحانه، وهذا لا يكون إلا للأولياء الربانيين المتحقّقين. وعلى السامع ألا ينصرف ذهنه عند كلامنا عن التعريف، إلى ما يعهده من نفسه أو من أئمته، من تلقين للعقائد الكلامية؛ فإن ذلك يدخل عندنا ضمن المعاصي لا ضمن الطاعات، إلا أن يتجاوز الله!... 3. نصوص من الحديث تؤصّل لما ذكرنا: قبل أن نتفحص بعض الأحاديث النبوية الواردة في الإمامة، علينا أن نفرّق أولا في الاصطلاح بين الإمامة والخلافة؛ مع أنهما من جهة اللغة خلافتان وإمامتان؛ أي مشتركتان. فالإمام في الدين، خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهداية؛ والخليفة على الأمة من جهة السلطان، إمام بمعنى رئاسة الدولة اليوم. وقد اختلطت هذه المفاهيم، وبُنيت عليها عند اختلاطها عقائد لا يزال أصحابها يتخاصمون إلى اليوم، وإلى ما شاء الله. بينما الأمر عند من يفرق في المعنى بين الاصطلاحيْن سهل وهيّن. ونحن بما أننا نتكلم في هذا الفصل عن إمامة الهداية، فإننا سنقصر النظر في الأحاديث الدالة عليها؛ وأولها كما لا يخفى: حديث الغدير. - يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: "أَقْبَلْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّتِهِ الَّتِي حَجَّ، فَنَزَلَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ، فَأَمَرَ: الصلاةُ جامعةٌ! فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «أَلَسْتُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟» قَالُوا: بَلَى! قَالَ: «أَلَسْتُ أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ؟» قَالُوا: بَلَى! قَالَ: «فَهَذا وَلِيُّ مَنْ أَنَا مَوْلاهُ. اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، اَللَّهُمَّ عادِ مَنْ عاداهُ.»"[9]: ورغم أن هذا الحديث قد ورد في إمامة الدين (الهداية)، فإن الروافض جعلوه أساسا لرفضهم، مع أن الواقع([10]) يُؤكد ما نذهب إليه. ولكننا نعلم من أين دخل الشيطان على الروافض، وربما قد نكون تكلمنا عن ذلك في بعض كتاباتنا المتخصصة؛ أما هنا، فسنبقى على المعنى الذي ذكرنا. ومعنى الحديث هو أن من كان متبعا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يدله عليه من وسائل القرب والعبادة، فعليه أن يتبع عليّا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويهتدي بهديه. فإذا رآه -مثلا- يتخذ رأيا فيما هو من الدين، اتبعه، ولم يُخالف فيه؛ وإلا خاف على نفسه الفتنة. ويُشبه هذا الحديث، الذي بعده: - يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللَّهِ، وَعِتْرَتِي: أَهْلَ بَيْتِي.»[11]: وهذا يعني أن الإمامة في الدين يكون لها رجل من أهل البيت عليهم السلام في كل زمان؛ بغض النظر عن الاثنيْ عشر إماما الكبار، والذين يعتقدهم الشيعة وخواص أهل السنة. أما لماذا حكمنا بعدم خلوّ الزمان من إمام، فلأنه جاء في مقابل القرآن، والقرآن له تجلّ خاص في كل زمان. والدلالة على إمامة الإمام، هي إمامة القرآن نفسه؛ يقول الله تعالى: {وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِمَاماً وَرَحۡمَةً وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِیًّا لِّیُنذِرَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُحۡسِنِینَ} [الأحقاف: 12]. وإن كان كتاب موسى الذي هو التوراة إماما، فالقرآن أولى بهذه الصفة، خصوصا لمطابقته التامة للإمام المبين الذي جاء فيه: {وَكُلَّ شَیۡءٍ أَحۡصَیۡنَـٰهُ فِیۤ إِمَامٍ مُّبِینٍ} [يس: 12]، وهو هنا إما اللوح المحفوظ بالمعنى الأدنى، أو هو الحقيقة المحمدية الجامعة لكل الحقائق بالمعنى الأعلى. وعلى كل حال، فالقرآن هو إمام من كونه عنه ينبثق كل شيء، والرجل من العترة هو إمام لأنه النسخة القرآنية الآدمية في زمانه؛ فهما نسختان لكتاب واحد في عالميْن مختلفيْن؛ أو إن شئت قلت في مظهريْن مختلفيْن. وإن عدنا إلى حديث الغدير، فإننا سنفهم أن عليا عليه السلام، هو أول نسخة إمامية بعد النسخة النبوية العليا؛ وعلى هذا فإن الحديثيْن يكونان متعاضديْن، لا متعارضيْن. والآن لنسأل أمة الإسلام: من هو إمام هذا الزمان في الدين، الذي جعله الله ترجمانا للقرآن فيه؟ فإن عرفتموه واتبعتم هديه، فقد صدّقتم نبيّكم وعملتم بتوجيهه الشريف؛ وإن لم تعرفوه، نسألكم سؤالا متمِّما: هل دلكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذكره للإمام من العترة الشريفة، على معلوم أم على مجهول؟... فإن قلتم دل على معلوم. سألناكم: فمن هو؟ وهل سعيتم إليه وبذلتم الجهد في التعرف عليه؟... وإن قلتم: دلنا على مبهم مجهول؛ قلنا قد كفرتم، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن العبث!... فاختاروا أي الطريقيْن يُعجبكم. وهنا ينبغي أن نصحّح فهما خاطئا لدى علماء أهل السنّة، الذين يخلطون بين هذه الإمامة العليا في الدين، والإمامة في الفقه التي تكون لمجددي الفقه خاصة من كل قرن، والذين جاء اللفظ بما يدل في الظاهر عليهم وحدهم، في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللَّهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها.»[12]. وقد أخطأ الفقهاء في فهم معنى التجديد مرتيْن: - عندما صرفوه إلى معنى واحد، وهو التجديد الفقهي. - وعندما حجبهم التجديد الفقهي عن معنى الإمامة التي هي تجديد للدين كله، لا لجانب واحد من جوانبه فحسب. والآن لننظر في بعض مظاهر القصور الذي حجب الناس عن إمام زمانهم، إلا من رحم الله، فنقول: لقد ذهبت عقول العامة إلى اعتقاد الإمامة الدينية الكبرى، في فقهاء، قد لا يتحقق لهم السبق حتى في الفقه ذاته أحيانا؛ وهو ما وقع للرافضة مع الخميني الذي يلقبونه "روح الله"، وهو فقيه من عامة فقهائهم. وأما في جانب العقائد، فهو ضال من جملة الضّلّال. كذلك انحجب أهل السنة بالأئمة الأربعة، واعتبروهم أئمة في الدين، بينما هم أئمة في الفقه فحسب. وأما في الجانب المعرفي، فقد اشتغل الشيعة وأهل السنة جميعا، بما لم يُكلّفوا من كلام فيما يتجاوز أطوارهم، فبقوا على ضلال متجدّد، بدل أن يعيشوا تجدّد الدين!... وعندما اعتقد المسلمون الإمامة في الفقهاء الذين هم أدنى مرتبة من الإمام، انحجبوا بذلك عن الإمام، ولم يعرفوه؛ مع أنه موجود في زمانهم من غير شك، وربما قد يكون في محيطهم القريب. وقد استمر التقليد في هذه الآفة، واستمر الحجاب؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وليتحقّق لعموم الأمة دخول جحر الضبّ، كما أسلفنا. وهذا لأنه باتباع الإمام، ما كان للأمة أن تدخله!... فليُعتبر هذا!... ولا شك أنه سيتضح -الآن أو فيما بعد- أن الإمام موجود في كل زمان، ولكن الشيطان قد جنّد فقهاء السوء، ليصرفوا عنه الناس؛ فكانوا كسائر الكافرين الذين قال الله فيهم: {إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَصَدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ قَدۡ ضَلُّوا۟ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا} [النساء: 167]. وإن نحن عدنا إلى معنى الكفر في اللغة الذي هو الستر والحجب، فإننا سنجد المـنكِر لإمام زمانه، كالمنكر للقرآن، لا فرق؛ وإلا فلا معنى للمضاهاة بين القرآن والإمام التي دل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وحاشاه)!... وليحذر الذين يقرأون لنا، أن ينصرف ذهنهم إلى المعنى الذي تفهمه الرافضة، لأن أولئك مخطئون في صفة إمام الزمان؛ وقد انحجبوا عنها بإمامة المهديّ عليه السلام الذي هو إمام آخر الزمان. فهم بجهلهم يعتبرون إمامة المهديّ القادمة (وهو أمر جيّد)، ويُنكرون إمامة غيره والزمان غير زمانه. لكنّهم بخلطهم، جعلوا كل هذه الأزمنة منذ غيبته زمانه؛ ولو كان الأمر كذلك، ما تولّى الخلافة الغيبية (القطبية الغوثية) منذئذ أحد؛ والحاصل أنه قد تولاها عدد كثير، منهم من نعرف ومنهم من لا نعرف. هذا مع أن هذه الإمامة القطبية تقابل في الدلالة خلافة المهدي من جهة غيبه، لا إمامته؛ ونحن هنا نبرهن على تعدد الإمامة قبل إمامة المهدي، بتعدد الخلافة قبل خلافته، عليه السلام. فليعتبر القارئ، وليسأل الله التوفيق، فإن الروافض قد ضلوا بمعنى صحيح عن معنى صحيح آخر!... - يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «... فَعَلْيُكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُْلَفاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْها بِالنَّواجِذِ؛ وَإيَّاكُمْ ومُحْدَثاتِ الأُمورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ.»[13]. وقد غلط فقهاء أهل السنة عندما جعلوا المعنى مقصورا على الخلفاء الأربعة، لأن الخلافة تتعداهم بالمعنى الاصطلاحي إلى اثنيْ عشر خليفة، وتتعداهم بالمعنى اللغوي، إلى كل خليفة وارث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، في أي وجه من وجوه وظائفه في أمته التي ذكرها الله في قوله تعالى: {یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ} [الجمعة: 2]. فكل خليفة على إحدى هذه الوظائف، فهو خليفة بالمعنى اللغوي العام وإمام في مجاله. هذا زيادة على أن الخلفاء الذين يجمعون بين الإمامة في الدين والسلطان، وهم الاثنا عشر، لهم الهداية من جهة إمامتهم كغيرهم من أئمة الزمان، أو من الخلفاء على الوظائف. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التعريف بالخلفاء الجامعين قوله: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْقَضِي حَتَّى يَمْضِيَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً...»[14]. وقد يفوق إمامُ الزمان من حيث الإمامة، إمامةَ الخليفة الجامع، وهو ما يصطلح عليه الأولياء بالختم. وعلى هذا فالختم يكون هو الإمام الأكبر في الزمان، لا الإمام مطلقا؛ وهو أيضا ما زاد في اختلاط الأمر على الناس. ولقد خفيت هذه المعاني عن الروافض، وعن كثير من أهل السنة، فضلوا وهم شطر الأمة الأكبر، وهم يحسبون أنهم مهتدون. ومن أمعن النظر، عرف أن الله قد أكثر من الرجال الدالين على الحق في كل زمان، كلا بطريقته ومن مرتبته؛ وهذا كله من عنايته سبحانه بهذه الأمة، لو أنها فقهت عن ربها... وأما الآن، فلنعد إلى مسألة فلسطين وبيت المقدس، لنعلم كيف هو عمل الأمة من أجل إبعاد المشركين والكافرين([15]) الذين سينجسونه بعد تحقّق قداسته، كما تنجست قلوب شطر من المسلمين بالبعد ودخول الشرك عليهم من أبواب كثيرة، ربما عرضنا لأكثرها في مجمل ما كتبنا. وهذا المعنى الذي نذكره، قد كان يعلمه المسيحيّون -وأخذه عنهم النصارى فيما بعد- الذين حكموا بأنه لا يجوز لليهود أن يعمروا القدس بعد أن قدّسها المسيح عليه السلام؛ وهذا إبّان المسيحيّة الحقّ، لا في زمن النصرانية المحرّفة، كما لا يخفى. وينبغي لهؤلاء الذين فهموا هذا وحكموا به، أن يسألوا أنفسهم: فلِمَ غاب عنهم هذا المعنى بعد تقديس محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقدس؟... وهو من أمّ سائر الأنبياء عليهم السلام فيها ليلة إسرائه؟ يقول الله تعالى([16]): {سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلًا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ} [الإسراء: 1]. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي في الحِجْرِ، وقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عن مَسْرايَ؛ فَسَأَلَتْنِي عن أشْياءَ مِن بَيْتِ الْمـَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْها، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً ما كُرِبْتُ مِثْلَها قَطُّ. قالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لي أنْظُرُ إلَيْهِ، ما يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ. وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَماعَةٍ مِنَ الْأَنْبِياءِ، فَإِذا مُوسَى قائِمٌ يُصَلِّي؛ فَإِذا رَجُلٌ ضَرْبٌ (وسط)، جَعْدٌ (أجعد الشعر)، كَأنَّهُ مِن رِجالِ شَنُوءَةَ (قبيلة معروفة)؛ وَإِذا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي؛ أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ؛ وَإِذا إِبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ قائِمٌ يُصَلِّي؛ أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ. فَحانَتِ الصَّلاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قالَ قائِلٌ: يا مُحَمَّدُ، هذا مالِكٌ صاحِبُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فالْتَفَتُّ إلَيْهِ، فَبَدَأَنِي بِالسَّلامِ.»[17]. ولنتوقّف عند بعض معاني هذا الحديث فإنها من مقام القلب حقيقة: 1. إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي في الحِجْرِ»، معناه لقد وجدتُني؛ وليس هو من معنى الرؤيا المنامية. وربما هذا اللفظ، مع ضعف العلم، هو ما أدى ببعض مفسري الحديث إلى القول بأن الإسراء والعروج قد وقعا مناما؛ وهو غير صحيح. وقد قال بعضهم: لو وقع مناما، فما بقي مِن إعجاز به!... ونحن نضيف: إن الإسراء والعروج يقعان لكل سالك، إبّان مروره بمراتب الدين والتي هي الإسلام والإيمان والإحسان. وكل سالك يذوق منهما، البعض اليسير مما ذاقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وإن هذا الذوق الذي يحدث للسالكين، هو نفسه الدليل على الإسراء والعروج النبوييْن؛ من باب دلالة الشيء على أصله. وذوق السالكين، لا ينحصر في المنام وحده، بل إن المقامات تثبت في اليقظة لا في المنام... 2. وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَماعَةٍ مِنَ الْأَنْبِياءِ»، وهنا كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بجسده الشريف، الذي انتقل من مكة إلى بيت المقدس بمعجزة، خرق بها الهواء الفارق بين المكانيْن في وقت وجيز. وتبقى تفاصيل هذه الرحلة، منوطة بروايات أخرى لحادثة الإسراء، لن نطيل بإيرادها هنا. وهذا الذي وقع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، من الطيران بالسرعة الفائقة، أخبر بوقوعه كثير من الأولياء وراثة، فلا يستبعد أحد ذلك، ممن هو سيد الأولين والآخرين؛ ولا يجبُن أحد عن ذكر هذا ولو من باب الإيمان، ويظُنَّ أن هذا مما يناقض العقلانية؛ لأن العقلانية لا تكون عقلانية السفهاء الذين تقتات عقولهم على فُضلة المفكرين الكافرين أبدا!... بل العقلانية في أعلى مظاهرها، هي عقلانية الربّانيين!... ولقد قلنا بوجود الجسد الشريف ببيت المقدس، لأنه من عالم الأرض؛ أما العروج، فسيقع بالروح وحدها، لا بالجسد كما قال كثير من علماء الظاهر. وهذا، لأن العارج إذا عرج، يترك في كل عالم ما يُناسبه منه؛ حتى إذا جاوز سدرة المنتهى، جاوزها بحقيقته المجردة فقط. وعلى هذا، فإن الجسد النبوي ينبغي أن يبقى في الأرض، كما تقتضي حكمة الله. ولننبه هنا إلى مبدأ يُخطئ المؤمنون عند العمل به: وهو التعظيم بما يَخرج بالمـُعَظَّم عما يليق به من صفات، وذلك كمن يقول بغير علم إن العروج قد وقع بالروح والجسد معا؛ أو كمن يقول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن لجسده الشريف ظل... فهذا كله، مما يؤدّي إلى عكس ما يريد منه صاحبه، فليحذر طلبة العلم خصوصا، من الوقوع فيه!... فإن سأل سائل بعد هذا، عن الرحلة من مكة إلى بيت المقدس، وظن أنها من السماء لكونها طيرانا، فإننا نقول له: إنها كانت في الغلاف الهوائي للأرض، فهي إذاً من الأرض لا من السماء؛ والسماء الأولى تقع فوق الغلاف الجوي للأرض، فلا ينبغي الخلط. وما استطردنا هذا الاستطراد، إلا لعلمنا بطريقة تفكير العامة من الناس، والتي قد يدخلون بها فيما يعصف بإيمانهم كله، مع أن المسألة هيّنة؛ جعلنا الله بفضله، ممن يخاطبون الناس على قدر عقولهم!... 3. أما إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجميع الأنبياء، فإنها كانت منتظَرة منذ بدء الخلق، فهي الفرض المكتوب على عموم البشرية في مظاهر الأئمة من الأنبياء بالنيابة عن جميع أقوامهم. والإمامة في هذه الصلاة، لا تكون إلا لنبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم؛ من كونه الإمام الأكبر العام، والعبد الأكمل التام. وليس الإمام إماما من جهة الحقائق، إلا إن جمع حقائق كل مأموميه، وفضل عليهم بما يخصه دونهم. ولقد ذكرنا هذا المعنى مرة في محاضرة لنا، فقام أحد الإسلاميّين بردّ كلامنا على الملأ، ومن دون خشية أن يكون رادّا للحق. وهذا الفعل وحده من هؤلاء المتوهمين للعلم في أنفسهم، دليل على أنهم ليسوا من العلماء؛ لأن العالِم الحق، لا يكون جريئا في غير محل الجرأة. وإلى الله المشتكى مما نجد ونرى!... ومن مقتضيات هذه الصلاة الجامعة، كان من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، مؤمنا بجميع الرسل من غير تعيين؛ وكان من كفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، كافرا بجميع الرسل، وإن آمن بجميع الرسل من سواه. وهذا أمر ينبغي أن يعلِّمه فقهاء الظاهر للناس في المساجد وفي المجالس، ليعرفوا فضل هذه الأمة على سواها، من كونها تابعة للإمام الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الذي دللنا عليه، هو ما دلّ عليه قول الله تبارك وتعالى: {ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِۦۚ وَقَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۖ} [البقرة: 285]. ولهذا قيل بكفّر اليهود والنصارى، ما دام الدين واحدا، والإمام فيه واحدا، كما المعبود به سبحانه واحد. وقد كان الأنبياء في هذه الصلاة بأرواحهم وأجسادهم؛ لأن أجسادهم الشريفة متروحنة، قد اكتسبت خواص الروح. ولكنهم عندما سيقدم عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سماواتهم المخصوصة، فإنهم سيكونون هناك بنفوسهم؛ أي بأرواحهم المتصورة بصور أجسادهم. وبعد هذا التوضيح، يحق لنا أن نسأل من باب الجدل العلمي: لماذا يفرّق الناس بين رسالات الله، والله واحد، جعلها متعاقبة وناسخة بعضها لبعض بحسب المنطق التاريخي؟ وليعتبر القارئ هنا: كيف أن المرء قد يُحصّل جزءا من الفهم، فإذا غاب عنه المعنى بالتمام، ضل بذلك الجزء، مع أنه حق في نفسه وقتيّا!... ثم: أليس للتاريخ كله منطق ناظم يُفضي عند إجادة قراءته، إلى نتيجة كبرى، يكون النظر إلى التاريخ من دون اعتبارها، وعدم النظر سواء؟!... ونحن قد أوضحنا سابقا، أنه يحرم على الأمة أن تترك الحرم القدسي في يد غيرها من الأمم، مهما كلّف الأمر؛ من وجه اعتبار إمامتها لسائر الأمم، كما أبان الله بقوله سبحانه: {وَكَذَ ٰلِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَیَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَیۡكُمۡ شَهِیدًاۗ} [البقرة: 143]. لكن، هل هذا التكليف العام، يؤخذ بإطلاقه، كما قد يفهم من لا علم له؟ كلا!... والتفصيل هو: 1. إن لأهل فلسطين المجاورين حكما ليس لغيرهم، وهو الذود عن بيت المقدس بكل ما أوتوا؛ من كونهم مجاورين، والمجاور يختلف حكمه عن حكم غيره. فمن مات في سبيل ذلك منهم، فهو شهيد، ومن بقي حيّا، فله أجر المرابط على ثغر من ثغور الإسلام عظيم. ومن هذا الوجه، يُتجاوز لجماعة حماس عما فعلته، بعد تحقُّق إضرار الصهاينة بالمسلمين، عن طريق أخذ أرضهم، وأسر رجالهم ونسائهم وأطفالهم؛ وهو ما لا يحل السكوت عليه بحال من الأحوال!... وأما من وجوه أخرى تفصيلية، فعمل "حماس" لا يصح، لعلة كونه مخالفا للشريعة؛ فهو منطلِق من التنظيرات الإخوانية والأساليب الجاهلية. وهي، أي جماعة حماس، من هذا الوجه تكون فاسقة وعاصية. ويكفي في الدلالة على هذا التركيب في الحكم، قول الله تعالى: {وَءَاخَرُونَ ٱعۡتَرَفُوا۟ بِذُنُوبِهِمۡ خَلَطُوا۟ عَمَلًا صَـٰلِحًا وَءَاخَرَ سَیِّئًا عَسَى ٱللَّهُ أَن یَتُوبَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِیمٌ} [التوبة: 102]، والخلط المذكور في الآية ليس هو الخلط في الأعمال بين عمل صالح وعمل آخر طالح فحسب؛ ولكن هو أيضا الخلط في العمل الواحد بين وجوه صالحة ووجوه أخرى فاسدة. وإن تقصير فقهاء الظاهر في تفكيك المسائل إلى ما تحتمله من وجوه عند النظر، واعتمادهم في الغالب تعميم حكم واحد عند تغليب وجه واحد، لهو من أكبر الخلل الذي يعتور الفقه، فليُعتبر هذا التفصيل فإنه نافع جدا ونحن مـُقبلون بإذن الله على تجديد استثنائي عام!... ولقد كنّا نحن سألنا "حماس" سابقا أن تحلّ نفسها، حتى يكون عمل أفرادها ضمن الشعب الفلسطيني كله، شرعيا ومقبولا بإذن الله؛ وحتى لا يوظّف جهلها من قِبل إسرائيل نفسها، ولو بطريقة غير مباشرة. ولكنّ الظاهر أنها لم توفَّق إلى الآن، للعمل بما دللناها عليه، وعسى أن يمنّ الله عليها بذلك، فيما يأتي من الأيام. ومع هذا الذي نقول، فإننا نترك الفصل في مقدار الصواب في عمل جماعة حماس، ومقدار الخطأ، لله وحده الذي يعلم ظواهر العباد وبواطنهم؛ ويعلم ما اتحدت عليه جماعتهم مما اختلفت فيه؛ وهو سبحانه بعد هذا، الغفور الرحيم... 2. وأما الأمة الإسلامية، مما هو خارج بلاد الشام، فلا يجوز لها الدخول في حرب ولا سلام الآن([18]) مع دولة الصهاينة؛ وذلك لأنه لا إمام لها. ولسنا نعني من الإمامة هنا إلا معنى الهداية الدينية، لا الحكم؛ لأن الحكم لا يكتمل فيه الأمر إلا مع الخلافة الخاتمة، وهي لم تأت بعد. والأمة عند عدم اتخاذها للإمام، قد أسقطت عن نفسها جميع التكاليف الجماعية، ولم يبق لها إلا ما هو فردي؛ والشيعة يُدركون هذا الأصل، بأكثر مما يدركه أهل السنة. فإن أرادت الأمة مناصرة الفلسطينيّين، بما يقع من صور المناصرة في زماننا، مما هو من قبيل المظاهرات التي ليست من الأساليب السنّيّة في تغيير المنكر، أو من قبيل ابتزاز الحكام في المواقف من أجل نيل أغراض مستندة إلى الأهواء، فإنه يحرم عليها كل ذلك؛ لأن تلك الأفعال كلها، تدخل ضمن الفتنة المنهي عن إيقادها وتسعيرها. والدليل على هذه الأحكام الشرعية التي صارت مجهولة بين فقهاء الدين قبل العامة، هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في قوله:"كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هَذا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قالَ: «نَعَمْ«! قُلتُ: وهلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ.» قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ.» قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا.» قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بأَِلْسِنَتِنَا.» قُلتُ: فَما تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمـُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ.» قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ[19]«.. ونقول بعد التبرك بنقل الحديث الشريف: صدقت يا رسول الله صلى الله عليك وآلِكَ وسلم، وجزاك الله خيرا يا سيدنا حذيفة رضي الله عنك؛ فقد كنت سببا لنا في علم جمّ، الأمة بأمسّ الحاجة إليه الآن. ولننظر في الكنوز التي ينطوي عليها هذا الحديث: 1. الحديث يُبرز معالم المراحل التديُنيّة المختلفة كلها، والتي ستمر بها الأمة الإسلامية. والذي لا ينبغي إغفاله، هو ضرورة اعتبار الفروق المميزة بين تلك المراحل: أولا لفهم تاريخ الأمة، وثانيا: لضبط التوجه العام السليم في كل مرحلة. وهذا حتى لا يقع الناس كلهم فيما وقع فيه جُلّهم، وهو توهم أن الأمة تعيش إسلاما بصورة واحدة، في كل مراحل عمرها؛ وهو ما لا يصح البتة. وهذا الاختلاف بين صور التديُّنات، ليس دائما داخل دائرة الإسلام، بحيث نحكم بعدم خروج أصحابه عن الملّة؛ ولكن قد يصل أحيانا، إلى خروجٍ لا مناص من الإقرار به، وهو ما ستدل عليه الألفاظ النبوية... 2. سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما بعد الخير الأول، وهل يكون شرّا؛ فأجاب نعم. ولم يُفصّل فيه، عليه السلام، ولا الصحابي طلب ذلك. فبقي علينا أن نعلمه نحن بتوفيق الله مما مرّ من التاريخ، وليس إلا انقلاب الدين وتحريف وجهته على يد معاوية. وقد كان الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، يُسمّي هذا الفعل انكسارا تاريخيا، وهو وصف لا نُخالفه عليه من جهة الدلالة اللغوية؛ لكننا نمتنع عن استعماله كما استعمله هو وجماعته، لأن ذلك الاستعمال يوحي بأنه كان يُمكن غير ذلك. وهذا الأمر انجرار خلف ما يعطيه الفكر المجرّد، ونحن نتحرّى موافقة الدين لا الفكر... 3. وأما الخير الذي بعد الشر، فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه مخلوط؛ وهو ما يدعو الناظر إليه إلى أن يعرف منه ويُنكر. وليس المخلوط به كما يُثبته التاريخ، إلا ما تسرب إلى الأمة المحمدية من عقائد الأمم الأخرى ومن فلسفاتها. وهذا سيتفاقم مع مرور الأيام، إلى أن يُفضي إلى ما هو أخطر منه؛ وهو الشر الماحق الذي أطل برأسه في زماننا. 4. وأما الشر الذي بعد الخير المخلوط، فهو الذي ينبري الدعاة فيه إلى الدعوة إلى المخالفات الصريحة للدين، وإلى موافقة الدعوات الشيطانية التي لا مرية فيها. كل هذا، يحدث داخل الأمة الإسلامية، تحت نظر العامة والخاصة من المسلمين؛ وهذه المرحلة هي التي نحن فيها الآن. ولما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة أئمة الضلال المبين هؤلاء، لم يزد على أن ذكر أنهم منّا وأنهم يتكلمون بلساننا. وهذا يعني أن طائفة من المسلمين قد كفرت، وهي سواء أعلنت كفرها أم لم تعلنه، قد أصبحت خادمة لأغراض الأعداء بجميع المعاني. 5. ولمـّا سأل الصحابي الكريم عن العمل الذي عليه أن يلتزمه بإزاء كل التغيّرات الطارئة على التديّن، دله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بداية على القاعدة العامة التي ينبغي العمل بها، ما وجد العباد إلى ذلك سبيلا، وهي: ملازمة جماعة المسلمين وإمامهم. والجماعة هنا هي بالمعنى الشرعي الذي يستلزم وجود الإمام، لأن الجماعة بهذا المعنى لا تكون إلا مع وجود الإمام؛ بعكس ما يفهمه الإسلاميّون وما يعملون عليه. وهذه الجماعة، هي مجموع المسلمين الباقين مع الإمام حال وجوده، لا كل جماعة يؤسّسها مفكر إسلامي. والإمام هنا، هو إمام المسلمين الجامع لكلمتهم، إما من الإمامة الدينية، وإما من الخلافة؛ وإن تضاءل حكمه، أو تفرّق عنه بعض أطراف البلاد. وهذه الحال، هي ما كانت عليه الخلافة العثمانية، قبل أن تسقط نهائيا في 1 نوفمبر عام 1922م. وأما بعد هذه المرحلة، فلم تبق للمسلمين جماعة بالمعنى الشرعي، ولا إمام. وهذا يتأكّد باختلاف المسلمين، واتباع كل فرقة منهم لإمام أو عدة أئمة في الدين. والشيعة في هذه المسألة، مرة أخرى أفقه من أهل السنة؛ لأنهم حتى في الفقه، لا يُجيزون اتباع الأموات. وهذا علم صحيح، لو أنهم أدركوه على وجهه!... 6. وأما عندما لا يبقى للمسلمين جماعة ولا إمام، فقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفرد المسلم باعتزال الفرق كلها، مع التمسك بالتديُّن الفردي الصحيح؛ حتى يُدركه الموت وهو على تلك الحال. وهذا يعني حرمة مناصرة فرقة إسلامية على أخرى، ويعني عدم الانتصار لإمام بالمعنى الجزئي (القطري) على آخر، إلا بشروط تفصيلية ليس هذا أوان الدخول فيها. وهذه المرحلة هي التي نعيشها الآن، وهي المرحلة التي ليس بعدها إلا خلافة المهدي. ونحن نقول هذا، حتى لا يطمع المـُغرضون من الإسلاميّين أو غيرهم في بلوغ الحكم بنظام الخلافة قبل أوانه. وكل من سعى إلى الخلافة الآن، فإنما يكون من أولئك الذين يدلّون على أبواب جهنم، باتباع الشيطان اتباعا لا شبهة فيه. وجماعة حماس، كنظيراتها من الجماعات الإخوانية تعمل على هذا الأساس الباطل، وتدخل بمن هم تحت حكمها في غزة، في معصية كبرى، لن تجلب على جميع من عمل لها إلا البلاء المبين... وعند انتشار الدعوات الشيطانية في الأمة الإسلامية، سينتهج أصحابها نهج التلبيس والتدليس بلا شك، حتى يتمكنوا من استتباع السفهاء؛ فهم كما أسلفنا سيدّعون الانطلاق من أسس شرعية غير ممحصة في مخالفة الحكّام، وسيدْعون إلى خلافة لن تكون إذا كانت إلا شيطانية، وسيزعمون مواجهة إسرائيل والعمل على استعادة عِزة الأمة بما لا يصح. وفي هذه البيئة الفاسدة من جهة العقيدة ومن جهة العمل معا، سيجعل هؤلاء الدعاة إلى جهنم فلسطين صنما معبودا من دون الله. وصار الإسلام عند هؤلاء الضالين من أئمة ومأمومين هو: معاداة اليهود بحق وبباطل، وكراهيتهم باعتماد الجهل وحده المرتكز على العنصرية المقيتة. فعلى الشعوب الإسلامية، التي لا تقطن الشام، أن تتوقف الآن عن كل أشكال مناصرة فلسطين؛ لأنها لن تكون إلا سببا في مزيد من الفتن. ونحن نخص بالكلام الشعوب لا الأنظمة، لأن الأنظمة لها شأنها ضمن المجموعة الدولية، والذي هو مختلف. وعليها (أي الشعوب) إن كانت تريد ذلك حقيقة، أن تعمل على تصحيح تديُنها الفردي والجماعي في بلادها؛ فإن ذلك سيكون -لا شك- ترميما للأمة كلها، ولو بعد حين. ولن يتأتى لها ما ندلها عليه من خير، في مقابل الشر الماثل أمامها، والذي تعيش فصولا متنوعة منه في كل حقبة من تاريخها، إلا بعد أن تعرف مكانة الإمامة في دينها، وأن تعمل على اتباع إمام ترى عليه علامات الربّانيّة من بلادها أو من غيرها من بلاد الإسلام، اتباعا دينيا لا سياسيا؛ يجمع ولا يفرّق؛ يُصلح ولا يُفسد؛ يؤلّف فيما بين المسلمين من دون أن يجمعهم على عداوة أحد من العالَمين. وسيأتي الكلام عن الموالاة والمعاداة بمعناهما الشرعي إن شاء الله في الفصل الموالي، عند كلامنا عن الجهاد. وفي ختام هذا الفصل نقول بوضوح وبصراحة: إن الله هو المعبود، والدين هو وسيلة للعبادة مشروعة فقط؛ وإن الدين إذا انقطع معه العبد، سيُصبح معبودا من دون الله، لا وسيلة؛ وقد وقع في هذه الآفة كثير من الناس، على مر القرون. والعناية ببيت المقدس، هي واجب ديني؛ فإن غطى بيت المقدس على نهج الشريعة، إلى الحد الذي تختلّ معه الأحكام، فإنه يصير هو أيضا معبودا من دون الله. والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَاۤ أُمِرُوۤا۟ إِلَّا لِیَعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ حُنَفَاۤءَ وَیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَیُؤۡتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَ ٰلِكَ دِینُ ٱلۡقَیِّمَةِ} [البينة: 5]... [1] . أخرجه الترمذي، وابن ماجة، وأحمد، عن أبي أمامة الباهليّ. |