انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2023/10/16
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (2)
الفصل الأول: تأسيس بما أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي صراع ديني بالدرجة الأولى، فلا بد من العودة فيه إلى الأساس الذي تتأسس عليه حقيقة تديّن كلٍّ من الطرفيْن المعنييْن: اليهود والمسلمين، لمعرفة مدى موافقتهما لما يزعمان كلاهما أنه منطلقهما. وفي البداية، لا بد من التأكيد على أن الدين حقيقته واحدة جامعة، ما دام مِنْ جعل ربّ واحد؛ وهذا رغم اختلاف الأمم واختلاف الرسالات، ورغم اختلاف أسماء الرب الإله عند الأمم. وإن كثيرين من سُكّان العالم (ومنهم مسلمون) يتوهّمون أن الإله الفلاني عند قوم، ليس هو الإله عندهم؛ لا لشيء إلا لاختلاف الاسم، أو اختلاف بعض الصفات لديهم. وأما من كان يعتقد أن الرب الواحد لا يشرع أكثر من شريعة، فلا كلام معه، لأنه على جهل كبير!... والحقيقة التي يشهد لها التوحيد الكشفيّ المؤيّد بالوحي، هي أن الإله الرب واحد، رغم كل ما ذكرنا. يقول الله تعالى: {وَإِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهٌ وَ ٰحِدٌ لَّاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ٱلرَّحِیمُ} [البقرة: 163]. وسنأتي إن شاء الله على ذكر بعض التفاصيل الضروريّة لتبيّن الفوارق بين مختلف أصناف التديّن، التي تغطّي في أحيان كثيرة على الأصل الأول المشترك، مع تقدّمنا في الكتاب. وعلى من كان يريد البناء على أساس متين، أن يعود إلى كتابنا "مراتب العقل والدين"، لأننا هنا سنتناول الموضوع من الجهة التي تخدم هذا الكتاب خاصة، ولن نتوسّع كثيرا فيما يتعلق بالعقائد. ولنبيّن بعض الأصول التي قد يغفل عنها المسلمون قبل غيرهم: 1. يقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبًا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرٌ} [الحجرات: 13]. ولنلاحظ أن الخطاب للناس لا لفئة مخصوصة منهم، وهذا يعني أن الأمر عام، وهو بمثابة المبدأ العام في التديّن كلّه. فكون الناس ذكورا وإناثا يعني أن تصنيفهم خِلقيّ أوّليّ، يسبق كل التصنيفات الأخرى، والتي منها اختلاف الأمم واختلاف الرسل. ثم يأتي ذكر جعل الناس شعوبا وقبائل، تابعا للمستوى الأول؛ بل هو امتداد له فحسب. وهذا يعني أن الشعوب والقبائل، ليسوا إلا مجموع الذكور والإناث الذين بلغوا العدد في الزمن المخصوص. والغاية من هذا الخلق والجعل، هي التعارف الذي يدركه كل واحد بحسب مرتبته: فالعامة لا يعلمون من التعارف إلا ما يدخل ضمن الثقافات عموما، والخواص قد يعلمون ما يميّز الملل والمذاهب، وأما خواص الخواص فإنهم يعلمون ما وراء ذلك كله مما ليس هنا محل عرضه. والتعارف يؤخذ هنا بالمعنى المقابل للتناكر المؤدّي إلى الاختلاف، بما يعني أن عيش الناس في سلام، رغم اختلاف الدين (وسنبيّن فيما بعد لمَ كان الدين واحدا ثم صار أديانا)، هو مقصد دينيّ أكبر؛ وأن الحروب التي تكون بين الناس تنشأ بسبب تغليب مستوى على مستوى آخر من الاعتبار فحسب. لكنّ هذه الحروب تنطوي على علم من الحقيقة معتبر، وليست كما تظن العامة فسوقا ولا بدّ... ونعني من هذا أن الحروب لا تُقصد من الناحية الشرعية، ولكن يُستعدّ لها من كونها حتميّة. وحتميتها تأتي من مستوى حقيقي لن نتناوله في هذا الكتاب الذي أردناه مـُيَسّرا للعموم... وإن إثبات الله لحكمه على المختلفين، بأن أكرمهم عنده هم أتقاهم له، يُفيد بأن كل الناس، وكل الشعوب والقبائل المتفرعة منهم، متساوية عند الله من حيث الخلق والجعل، ولا يكون التفريق إلا من حيث الحكم الناتج عن معيار أوحد، هو التقوى: التي هي مدى التزام الأحكام والأوامر الشرعية. فهل حافظت الأمم والشعوب على هذا المعيار؟ أم هي قد انحرف إدراكها للتشريع الإلهي؟ أم قد جعلت معايير وضعية بدلا عنه؟... وهل القوانين الوضعية لها وجه ربانيّ أم لا؟... إن نحن نظرنا إلى عموم اليهود وإلى عموم المسلمين، فإننا سنجدهم حاكمين على أنفسهم من الجانبيْن، بأنهم خير الناس؛ من غير عودة إلى حكم الله في الوقت. وهذا لا يكون منهم إلا بالاستناد إلى أحكام ربانية جزئية، أو وقتية، يجعلونها محل الحكم العام. وهذه مغالطة من كل أمة لنفسها، وإن كانت التفاصيل ستؤيّد بعضا دون بعض مبدئيا. ومما وقع لليهود، ما حكم الله به لهم في وقت ما، بقوله سبحانه: {یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ وَأَنِّی فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ} [البقرة: 122]، فجعلوا تفضيلهم عاما ينسحب على أفرادهم في مقابل أفراد كل الأمم الأخرى، وفي كل الأزمنة؛ وهو ما لا يصحّ البتة. زد على هذا، أن من أفرادهم من هو متّق لربه، ومنهم من هو غير متّق؛ مما يعني أن المعيار العام الأول، وإن كان يختلف بحسب الأزمنة التشريعية، فإنه ينبغي أن يبقى حاكما على المعايير الأخرى التي تأتي دونه في المرتبة، وإلا وقع الزيغ والانحراف. ويؤكد هذا الذي نقول، قول الله تعالى: {وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٍ یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِینَارٍ لَّا یُؤَدِّهِۦۤ إِلَیۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَیۡهِ قَاۤىِٕمًاۗ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوا۟ لَیۡسَ عَلَیۡنَا فِی ٱلۡأُمِّیِّـۧنَ سَبِیلٌ وَیَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ یَعۡلَمُونَ} [آل عمران: 75]. وهذا كما لا يخفى مخصوص بالتقوى العملية في تفاصيل المعاملات. ونرى هنا البَوْن الفارق بين من بقوا على الحكم العام من أهل الكتاب فيه، والآخرين الذين انطلقوا من كونهم أفضل من غيرهم، فخرجوا إلى الكذب على الله وإلى اتباع أهوائهم المتمثلة في الاستيلاء على أموال الأغيار؛ مع أن الله في حكمه العام اشترط التقوى في التفضيل، من دون اعتبار للأمة المخصوصة. وأما قول الله عن أمة الإسلام: {كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ} [آل عمران: 110]، فالخيرية فيه مقيّدة بما ذُكر من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؛ أي بالتزام التشريع الإلهي على نور وبيّنة، وهو ما تركه المسلمون في عمومهم منذ عقود وربما منذ قرون. وهذا الفسوق العام، يجعل الأمة الإسلامية، لا تختلف عن اليهود -مثلا- إلا من حيث الزمن التشريعي. ونعني من هذا، أن المسلمين باقون ضمن الزمن التشريعي المخصوص بهم، ما دامت البعثة المحمدية تنسحب على الزمان إلى قيام الساعة، بخلاف اليهود الذين خرجوا من زمنهم التشريعي مع البعثة العيسوية. وسنعمل على تفصيل هذه المسألة بأكثر من الآن، عندما نبلغ اختلاف صنوف التديّن... وإن المخالفة لأمر الله، مع الإبقاء على الدعوى بالأفضلية، لا تستحكم في العامة من أمة من الأمم، إلا إن حوّلها فقهاؤها (أحبارها) إلى قاعدة دينية، يجعلون من يُخالفها مخالفا للدين نفسه. وهذه الآفة هي أساس "الأنا" الجمعية التي توحّد المنتمين إليها زورا، بعد أن كان توحّدهم ينبغي أن يبقى محصورا في طاعة ربهم وحدها... 2. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا؛ إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِأَنْفِهِ! إِنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ: إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ! النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ.»[1]. - «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا»: ومن الفخر بالآباء تسمية الأماكن بأسمائهم، وتسمية الأشياء (كما تُسمِّي حماس كتائبها باسم القسّام إلا أن يكونوا على كشف صحيح في ذلك)، وشبيه هذا موجود بكثرة لدى اليهود الذين هم أشدّ تعظيما للأسلاف. بينما لو عدنا إلى السيرة النبوية الطاهرة، لوجدنا الغزوات تُسمّى بأماكنها (بدر، أحد...)، أو بما ميّزها (الخندق)، أو بأسماء الأقوام (غزوة بني سليم، بني قينقاع...)؛ وهذا يعني أن التسمية واقعية بدهية، لا تُضخِّم معنى ما ولا أمرا ما على حساب غيره، وإنما يُقصد منها التعريف فحسب. وهذا لأن ذلك التضخيم، لا بد أن يكون سببه الافتخار المنهي عنه... ولقد ساد هذا المنطق الجاهليّ حتى صار الناس يُسمّون شوارعهم وأحياءهم بأسماء المعظّمين من قومهم، ولعل بعضهم يكون من أهل النار... وصدور هذا الفعل عن الكافرين قد يُفهم ضمن سياقه، لكن صدوره عمن يزعمون أنهم مؤمنون هو ما يتطلب إعادة نظر... - «إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ»: الخطاب لمن كان آباؤهم على جاهلية كعموم العرب قبل الإسلام. وأما أنبياء بني إسرائيل ورسلهم عليهم السلام، والأئمة من آل البيت من المسلمين، والخلفاء الراشدون، والصحابة المبشرون بالجنة، فإنه يحرم التنقيص منهم لثبوت خصوصيتهم عند الله؛ هذا مع عدم المغالاة في عبد من العباد كائنا من كان. وهذا المبدأ قد يتلاعب فيه الشيطان ببعض الجهلة، فيتوهّمون أن التعظيم مطلق؛ وهو باطل. ومن تأمل عتاب الله لرسوله في القرآن، أو توعُّده إياه، فإنه لا بد أن يفهم ما ذكرنا. ولقد رأينا من العامة الذين يعدّون أنفسهم خاصة، من يختلط عليهم الأمر، على شدة وضوحه وجلائه. بل إن العامة من المؤمنين، الذين تكون عقيدتهم موافقة لظاهر الوحي، يكونون على خير كبير إن قورنوا بمن أسلفنا. لهذا، فالذين حَكَم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عليهم من الآباء بأنهم من فحم جهنّم، فهم من ماتوا على الكفر، لا غيرهم. وهذا من التغليب في الكلام، كما هو معروف من أساليب العربية... ولا بأس هنا من أن نذكر أمرا له مدخل في تعظيم الآباء، وهو على كثرة شيوعه، لا يكاد يتبيّنه أحد: وهو أن النفوس تعظّم آباءها وأجدادها، لا لأنهم كانوا أنبياء أو أولياء (لأن هذا إن لم يتجاوز حدّه يُعتبر من تعظيم حرمات الله، وهو سبب من أسباب تقوية الإيمان؛ والله تعالى يقول: {ذَ ٰلِكَۖ وَمَن یُعَظِّمۡ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ} [الحج: 32]؛ وشعائر الدين التي هي معالمه، لا تنحصر في المعلوم منها اصطلاحا؛ وإنما تشمل أهل الله من الآدميّين الذين جعلهم الله أنوارا لهدايته ودالّين على طريقه) ولكن لأن الآباء ينتسبون إلى النفوس بطريقة معاكسة لخطّ سير الزمان. وهذا التعظيم لا يكون تعظيما للآباء في الحقيقة، وإنما يكون من تعظيم النفوس لنفسها، بطريقة قد تخفى على العامة. وهذا يجعل النفوس مبارِزة لربّها، بجعلها من ينتسبون إليها، أندادا لشعائر الله. والنفوس لا تقع في هذه الآفة، إلا من جهة ربوبيتها الباطنة. وهذه الربوبية، هي التي عبّر عنها فرعون بقوله: {أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ} [النازعات: 24]. فمن كانت هذه الربوبية مستقرّة في باطنه، فإنه يُعظّم أباه وجده، لأنهما أبوه وجدّه؛ لا لاعتبار آخر؛ ويُعظّم زوجته وابنه، لأنهما زوجته وابنه؛ وكأنه هو محور التعظيم. ومن أراد أن يتبيّن هذا المرض القلبي، فليحضر إحدى جنازات العوام؛ فإنه سيسمع من مناقب الميّت على أفواه أقاربه، ما يكاد يجزم معه بأنه كان من أكابر الأولياء أصحاب الكرامات!... ونحن ما ذكرنا هذا كله، إلا لنبيّن لليهود وللمسلمين جميعا، أن تعظيمهم لمن ينتسبون إليهم من الأصول والفروع، لا يكون دائما داخلا تحت التعظيم المشروع. لذلك، فليتواضع العبد لربّه، وليُنصت بقلبه، لعله ينتفع... - «أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخُرْءَ بِأَنْفِهِ!»: أي هؤلاء المفتخرون، سيكونون جزاء فخرهم أقل مرتبة عند الله من حشرة الجعل (الخنفساء) التي جعلها الله مشتغلة بالخبائث تفككها وتنقلها من مكان إلى مكان. وإن التشبيه النبويّ لا يُقصد منه هنا التقليل من شأن هذه الحشرة التي هي مخلوقة لتلك المهمة، ولكن يُقصد منه تقبيح فعل من يُعظّم آباءه، حتى يكون كالمتمرّغ في الخبائث من جهة معناه. ومن كان عند الله أهون من الجعل، كيف يواجه الناس بكبريائه وخيلائه!... ألا يكون ذلك منه إعلاما لهم بخبث نفسه وصغارها!... - «إِنَّ اللهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ: إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ. النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ.»: العُبّيّة: الكبر. ولقد كان من آثار الجاهلية فخر الأبناء بآبائهم، وجعل ذلك الفارق بين الشريف منهم والوضيع. وهذا، كما يبدو جليا، مخالف للمعايير الربانية التي هي مؤسَّسة على التقوى، التي هي شعار العبودية والتواضع. فانقسم الناس بتقسيم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى فريقيْن لا ثالث لهما، وهما: فريق المؤمنين الأتقياء، وفريق الفُجّار الأشقياء. فمن جاوز هذا التقسيم، فتقسيمه مردود عليه!... وقبل أن نمضي في الكلام، نجيب من قد يخطر في باله: لمَ نكلّم اليهود بنصوصنا، وهم غير مقرّين بها؟... فنقول: نحن لا نتبع تصوّراتهم وترتيبهم للأمور، ولكن نتبع الأصول العامة الحاكمة علينا وعليهم. والنصوص الدينية التي لدينا، حاكمة علينا وعليهم، علموا أم لم يعلموا. وسنفصّل القول في هذه المسألة في الفصل الذي بعد هذا، إن شاء الله تعالى... وأما تذكير النبي عليه السلام بأصل بني آدم المشترك الذي هو آدم، فهو تنبيه لهم بأن قوما ما لا يليق بهم أن يزعموا أنهم أفضل من غيرهم وهم مشتركون معهم في الأصل، إلا إن كانوا جاهلين!... وإن ردّوا هم بجهلهم أفضليتهم إلى عرق مخصوص كما تفعل اليهود، أو إلى لون مخصوص كما يفعل الآريّون، أو إلى لسان مخصوص كما قد تفعل العرب وغيرهم، فإنهم يكونون مخالفين للحق في المسألة. وكل من يزعم الأفضلية لنفسه، فإنه يكون مناقضا لها، وكأنه يدّعي إلى غير أبوة آدم عليه السلام. وقد جاء في الحديث: «مَنِ ادَّعى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعى قَوْمًا لَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ، وَمَنْ دَعا رَجُلًا بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ (عَنْهُ): عَدُوُّ اللهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلّا حَارَتْ (عادت) عَلَيْهِ.»[2]. وأما من يدّعون ذلك من الفِرَق الضالّة التي صرنا نسمع بها في زماننا، من الداروينيّين وأشباههم، فإنهم يكونون قد جمعوا سوءا إلى سوء، وجهلا إلى جهل فحسب، ويكونون في الغالب دالّين على مرتبة حيوانيتهم لا آدميتهم. ولقد سمعنا وزير الدفاع الإسرائيلي، يصف أهل غزة بأنهم حيوانات بشرية، ونحن ننزه الشطر الأكبر منهم عن هذا الوصف؛ لكنه لم يكن مخطئا في ذكر المسألة والإحالة إلى أصلها، لأن كثيرا من بني آدم حيوانات على هيئة بني آدم، وأكثر اليهود على هذه الصفة. ولكن لهذه الصفة حقيقة تنبغي الدلالة عليها، ولها معيار يحكمها: - فالحقيقة، هي أن كل إنسان هو حيوان قبل أن يكون إنسانا، وعلى هذا فحيوانيته مضمّنة في إنسانيته؛ وهذا لا يُنكره عاقل... - وأما المعيار، فهو حصول الترقي عن الحيوانية بالإيمان؛ لا بالدعوى الجوفاء وحدها، كما تزعم اليهود الآن. يقول الله تعالى: {لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمً ثُمَّ رَدَدۡنَـٰهُ أَسۡفَلَ سَـٰفِلِینَ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونٍ} [التين: 4-6]. فأسفل سافلين هي مرتبة حيوانية الإنسان، ولا داعي إلى إنكارها وقد أُنزل إليها كل فرد من أفراد الإنسانية. والخروج من هذه الحيوانية لا يكون إلا بالتزكية الشرعية، التي يترقّى بها الإنسان من الأسفل إلى الأعلى. وأما من بقي على إيمان مجمل، فحيوانيته ثابتة مع إيمانه؛ لذلك وجب منع العامة من الإمامة في الدين، كما يحدث اليوم. وهذا حتى لا تنقلب أمور الأمة، ويعود ما كان يُرجى به الترقي، أدعى إلى البقاء في السفل. وهذا الذي نقوله واضح جليّ، لولا أن الناس قد حرّفوا الدين وجعلوا أسافلهم أئمتهم!... وأما التنصيص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن آدم مخلوق من تراب، فهو تذكير لكل الناس بأنهم من ذلك التراب متفرعون. والتراب هو أثقل العناصر الطبيعية وأذلها، ولولا ذلته ما وطئه الناس كلهم بأقدامهم. وهذا من مطابقة الحسّ للمعنى، لا من الخرافة كما سيتوهم كليلو العقول. كل هذا من جهة الظاهر، وأما من جهة الحقيقة فالإشارة بالتراب هي إلى الصورة الآدمية الحسيّة، والصورة الحسيّة عدميّة الأصل، وما كان عدما في أصله، كيف يُفتخَر به؟!... فظهر من كل الكلام أن تفاخر اليهود على المسلمين لا يليق بهم وهم يزعمون -جدلا- أن مرجعهم الوحي من عند الله؛ وظهر أن تفاخر المسلمين على اليهود، هو جهل بالإسلام نفسه ولو من مرتبة ما. ولقد وقع المسلمون في هذه الآفة، وتفاقمت لديهم مع مرور الزمان، لاتباعهم فقهاءهم دون الوحي الربّانيّ. وقد دخلت عليهم، عندما نظروا إلى ختمية الشريعة المحمدية، وبدل أن يُبقوا التفاضل محصورا في الجانب التشريعي، وعن علم، تجاوزوا به إلى أتباع الشريعة الذين قد تثبت لهم النسبة العامة مع كونهم مخالفين لأحكامها في التفاصيل، فضلّوا بقدر تلك المخالفة. وسيأتي بيان هذا، لأنه الآن لن يَبين بالقدر المطلوب... 3. ولو عدنا إلى سبب نزول قول الله تعالى: {وَلَا تُجَـٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِینَ یَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِیمًا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ یُبَیِّتُونَ مَا لَا یَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطًا . هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ جَـٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَمَن یُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَم مَّن یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ وَكِیلًا . وَمَن یَعۡمَلۡ سُوۤءًا أَوۡ یَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ یَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ یَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًا رَّحِیمًا . وَمَن یَكۡسِبۡ إِثۡمًا فَإِنَّمَا یَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمًا . وَمَن یَكۡسِبۡ خَطِیۤـَٔةً أَوۡ إِثۡمًا ثُمَّ یَرۡمِ بِهِۦ بَرِیۤـًٔا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَـٰنًا وَإِثۡمًا مُّبِینًا . وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّاۤىِٕفَةٌ مِّنۡهُمۡ أَن یُضِلُّوكَ وَمَا یُضِلُّونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا یَضُرُّونَكَ مِن شَیۡءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمًا.} [النساء: 107-113]، والذي نزل في تبرئة يهوديّ من السرقة، مع ما يتضمنه من توعُّد للمفترين من الصحابة وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم. ولنذكر ما جاء في التفاسير من أصل المسألة، مع ما يظهر لنا أثناء تتبع الكلام بفضل الله... - {وَلَا تُجَـٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِینَ یَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِیمًا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ یُبَیِّتُونَ مَا لَا یَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطًا}: يقول الطبري في جامع البيان: [اختان رجل عمًّا له درعاً، فقذف بها يهودياً كان يغشاهم، فجادل عمّ الرجل قومه، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم عذره، ثم لحق بأرض الشرك، فنزلت فيه: {وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ} [النساء: 115]... الآية.]. ونقول نحن: إن النهي الوارد في الآية متوجه إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لئلا يُدافع عمن لا يستحقّ أن يُدافع عنه. وهذا، لأن الله ينظر إلى عباده نظرة سواء فيما يتعلّق بمعاملاتهم الدنيوية التي تكون بينهم: فمن كان بريئا فهو بريء، بغض النظر عن دينه أو عن مكانته في مجتمعه؛ ومن كان جانيا فهو جانٍ، وإن كان من كبراء القوم. ثم يضيف الطبري: [يستخفي هؤلاء الذين يختانون أنفسهم ما أوتوا من الخيانة، وركبوا من العار والمعصية، من الناس الذي لا يقدرون لهم على شيء إلا ذكرهم بقبيح ما أوتوا من فعلهم وشنيع ما ركبوا من جرمهم، إذا اطلعوا عليه حياء منهم، وحذراً من قبيح الأحدوثة. {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ} الذي هو مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وبيده العقاب والنكال وتعجيل العذاب، وهو أحقّ أن يستحيا منه من غيره، وأولى أن يعظم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه {وَهُوَ مَعَهُمْ} يعني: والله شاهدهم، {إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ} يقول حين يسوّون ليلاً ما لا يرضى من القول فيغيرونه عن وجهه، ويكذبون فيه.]. {وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً}: قلنا: الإحاطة هي عدم عزوب شيء عن علم الله، فهي صفة للصفة. ومن كان مؤمنا بأن علم الله محيط، فإنه لا يغيّر من الواقع شيئا، بل يكون كلامه مطابقا له؛ فإن فعل وغيّر، فإنه يكون شاهدا على نفسه بعدم الإيمان وإن كان مسلما. وهو هنا كمن قال الله فيهم: {قَالَتِ ٱلۡأَعۡرَابُ ءَامَنَّاۖ قُل لَّمۡ تُؤۡمِنُوا۟ وَلَـٰكِن قُولُوۤا۟ أَسۡلَمۡنَا وَلَمَّا یَدۡخُلِ ٱلۡإِیمَـٰنُ فِی قُلُوبِكُمۡۖ} [الحجرات: 14]. - {هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ جَـٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَمَن یُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَم مَّن یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ وَكِیلًا}: يقول الطبري: [يعني جلّ ثناؤه بقوله: {هَـأَنْتُمْ هَـؤُلاء جَـٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} ها أنتم الذين جادلتم يا معشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا. والهاء والميم في قوله: {عَنْهُمْ} من ذكر الخائنين. {فَمَن يُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنْهُمْ؟} يقول: فمن ذا يخاصم الله عنهم يوم القيامة؟: أي يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم، فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم، ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك أنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلّ بهم من أليم العذاب ونكال العقاب. وأما قوله: {أمَّنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} فإنه يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلاً يوم القيامة؟!...: أي ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة؟!... وقد بينا معنى الوكالة فيما مضى، وأنها القيام بأمر من توكل له.]. - {وَمَن یَعۡمَلۡ سُوۤءًا أَوۡ یَظۡلِمۡ نَفۡسَهُۥ ثُمَّ یَسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَ یَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًا رَّحِیمًا}: يقول الطبري: [يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يعمل ذنباً، وهو السوء، أو يظلم نفسه بإكسابه إياها ما يستحقّ به عقوبة الله، {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ} يقول: ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظلم نفسه ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبه وتذهب جُرمه، {يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} يقول: يجد ربه ساتراً عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبة جرمه، رحيماً به. واختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية، فقال بعضهم: عني بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله: {وَلاَ تُجَـٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء: 107]. وقال آخرون: بل عني بها الذين يجادلون عن الخائنين، الذين قال الله لهم: {هَٰأَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ جَٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا} [النساء: 109]؛ وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنه عنى بها كل من عمل سوءاً أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرهم في الآيات قبلها. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.]. ونضيف نحن: إن الاستغفار من البهتان الذي هو إلحاق التهمة بغير صاحبها، لا يكون إلا بتصويب الأقوال، وبإلحاق الذنب بصاحبه. وأما الاستغفار الكلامي، فلا عبرة به؛ بل هو يدخل ضمن الاستهزاء بالدين، فيضيف به العبد ذنبا جديدا إلى ذنبه الأول... - {وَمَن یَكۡسِبۡ إِثۡمًا فَإِنَّمَا یَكۡسِبُهُۥ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمًا}: يقول الطبري: [يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يأت ذنباً على عمد منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وبال ذلك الذنب وضرّه وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق الله، يقول: فلا تجادلوا أيها الذين تجادلون عن هؤلاء الخونة، فإنكم وإن كنتم لهم عشيرة وقرابة وجيرانا برآء مما أتوه من الذنب ومن التبعة التي يُتْبَعون بها، فإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم، فلا تدافعوا عنهم، ولا تخاصموا. وأما قوله: {وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} فإنه يعني: وكان الله عالماً بما تفعلون أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم بها. {حَكِيماً} يقول: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم، وتدبير جميع خلقه.]. ونحن نقول: من يكسب إثما من مسلم أو يهوديّ، فإنما يكسبه على نفسه؛ ولا يحتمل قوم ذنب آخرين. وكل ما يجري على العباد من موافقة لأحكام الله أو من مخالفة، فهو من حكمته سبحانه؛ فلا ينبغي للعباد أن يبقى بعضهم مع بعض في مستوى الأفعال، ولكن عليهم التسليم لربهم في علمه بما يخلق فيهم، والتسليمُ لحكمته بترتيب ذلك ضمن سياق عام شامل، لا يُحيط بتفاصيله إلا هو سبحانه. والآية تتوعّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرف خفيّ، فلا ينبغي أن يُغفل هذا الوعيد... - {وَمَن یَكۡسِبۡ خَطِیۤـَٔةً أَوۡ إِثۡمًا ثُمَّ یَرۡمِ بِهِۦ بَرِیۤـًٔا فَقَدِ ٱحۡتَمَلَ بُهۡتَـٰنًا وَإِثۡمًا مُّبِینًا}: يقول الطبري: [يعني بذلك جلّ ثناؤه: ومن يعمل خطيئة، وهي الذنب، أو إثماً، وهو ما لا يحلّ من المعصية. وإنما فّرق بين الخطيئة والإثم، لأن الخطيئة قد تكون من قبل العمد وغير العمد، والإثم لا يكون إلا من العمد، ففصل جلّ ثناؤه لذلك بينهما، فقال: ومن يأت خطيئة على غير عمد منه لها، أو إثماً على عمد منه ثم يرم به بريئاً، يعني بالذي تعمده بريئاً، يعني ثم يصف ما أتى من خطئه أو إثمه الذي تعمده بريئاً مما أضافه إليه ونحله إياه {فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً} يقول: فقد تحمل بفعله ذلك فرية وكذباً وإثماً عظيماً، يعني وجرماً عظيماً على علم منه وعمد لما أتى من معصيته وذنبه. واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله: {بَرِيئاً} بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البريء من الإثم الذي كان أتاه ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل. فقال بعضهم: عنى الله عزّ وجلّ بالبريء رجلاً من المسلمين يقال له لبيد بن سهل. وقال آخرون: بل عنى رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السمين، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. وممن قال كان يهودياً، ابن سيرين. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} قال: يهودياً. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا شعبة، عن خالد، عن ابن سيرين، مثله. وقيل: {يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} بمعنى: ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن من هو بريء مما رماه به، فالهاء في قوله «به» عائدة على الإثم، ولو جعلت كناية من ذكر الإثم والخطيئة كان جائزاً، لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعل. وأما قوله: {فَقَدِ ٱحْتَمَلَ بُهْتَـٰناً وَإِثْماً مُّبِيناً} فإن معناه: فقد تحمل هذا الذي رمى بما أتى من المعصية وركب من الإثم والخطيئة من هو بريء مما رماه به من ذلك بهتاناً، وهو الفرية والكذب، وإثماً مبيناً، يعني وزراً مبيناً، يعني أنه يبين عن أمر عمله وجراءته على ربه وتقدمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمره.]. وأما نحن فنضيف: إن الله لا يعتبر في نسبة الأفعال إلى العباد إلا الحق، فمن ارتكب الجرم ينبغي أن يلحق به، ومن كان بريئا فإنه عند الله بريء وإن تواطأ الناس على ظلمه. وهذا يعني أن أقوال المسلمين عن أنفسهم أو أقوال اليهود عن أنفسهم لا تُعتبر إلا إذا كانت مطابقة للواقع، وأما ما يكون من آفة التعصّب للقوم والانتصار لهم بكل طريق، كما ظن أولئك الجهلة من الصحابة، فإنه لا يُنبئ إلا عن بعد القائلين بذلك عن الدين، وعن ضعف عقولهم لظنهم أن ذلك قد ينفعهم في شيء أو قد يعزب عن علم ربّهم. وحتى لو نفع البهتان صاحبه في الدنيا، فهي أيام قليلة يقدم بعدها على ربه ليجازيه عما ارتكب من إثم عظيم، معدود ضمن الكبائر (شهادة الزور). هذا، وقد كان أهل المروءة ينفرون من هذا الفعل بطباعهم السليمة وقبل اعتبار التشريع كما كان الشأن في زمان الفترات، وإن كان في ذلك حتفهم... - {وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ وَرَحۡمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّاۤىِٕفَةٌ مِّنۡهُمۡ أَن یُضِلُّوكَ وَمَا یُضِلُّونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡۖ وَمَا یَضُرُّونَكَ مِن شَیۡءٍ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمۡ تَكُن تَعۡلَمُۚ وَكَانَ فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكَ عَظِیمًا}: يقول الطبري: [يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} ولولا أن الله تفضل عليك يا محمد فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن، فكففت لذلك عن الجدال عنه، ومدافعة أهل الحقّ عن حقهم قبله {لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ} يقول: لهمت فرقة منهم، يعني من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم، {أَن يُضِلُّوكَ} يقول: يزلوك عن طريق الحق، وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادّعي عليه، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه، فقال الله تبارك وتعالى: وما يضلّ هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درع جاره، إلا أنفسهم. فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسهم؟ قيل: وجه إضلالهم أنفسهم: أخذهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذ بها فيه من سبله، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قد كان تقدم إليهم فيما تقدم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان والأمر بالتعاون على الحقّ، فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105]، معاونة من ظلموه دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم، فكان سعيهم في معونتهم دون معونة من ظلموه، أخذاً منهم في غير سبيل الله، وذلك هو إضلالهم أنفسهم، الذي وصفه الله فقال: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ} وما يضرّك هؤلاء الذين همّوا لك أن يزلوك عن الحقّ في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته من شيء، لأن الله مثبتك ومسدّدك في أمورك ومبين لك أمر من سعوا في ضلالك عن الحقّ في أمره وأمرهم، ففاضحه وإياهم. وقوله: {وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ} يقول: ومن فضل الله عليك يا محمد مع سائر ما تفضل به عليك من نعمه، أنه أنزل عليك الكتاب، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء، وهدى وموعظة، {وَٱلْحِكْــمَةِ}: يعني وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة، وهي ما كان في الكتاب مجملاً ذكره، من حلاله وحرامه، وأمره ونهيه وأحكامه، ووعده ووعيده. {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} من خبر الأوّلين والآخرين، وما كان، وما هو كائن. ذلك من فضل الله عليك يا محمد مذ خلقك، فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك بالتمسك بطاعته، والمسارعة إلى رضاه ومحبته، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن، ولا أحد من دونه ينقذك من سوء إن أراد بك إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه واتبعت هوى من حاول صدّك عن سبيله. وهذه الآية تنبيه من الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على موضع حظه، وتذكير منه له الواجب عليه من حقه.]. ونحن نضيف: إن في الآية وعيدا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شديدا، من حضرة الربوبية بأنك لو أطعت من أرادوا إضلالك لأخذناك بذنب نسبة الجرم إلى البريء، ومؤاخذة النبيّ أعظم من مؤاخذة عوام المؤمنين، بعكس ما يظنّ من لا علم له. وهذا كله، لأن الله يحكم على عباده من عليائه، ولا ينظر إلى ما يُميّزهم فيما بينهم، حتى ينظر في حق ربوبيته عليهم. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم من عبوديته التامة، لا يجرؤ على مخالفة حكم ربه وهو يعلم؛ وقد تفضل الله عليه بعصمته عن أن يُضلّه المضلّون. وعلَّمه من لدنه علوما خاصة، وقاه بها سبحانه اتباع هوى أهل الأهواء. فكانت هذه الآية من حق الله على نبيّه، ومن أسباب تذكير العباد كلهم، بأن الله إن لم يكن يتجاوز بالنِّحلة (الزور) لأحب الخلق إليه، فما أبعد أن يتجاوز بها لأحد غيره!... وأشبه ما يكون بهذا الخطاب من الله، خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعموم قومه من حضرة رسالته، عند نزول قول الله تعالى: {وَأَنذِرۡ عَشِیرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِینَ} [الشعراء: 214] فقام عليه السلام قائلا: «يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ؛ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا! يا بَنِي عبدِ مَنَافٍ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شيئًا! يا عَبَّاسُ بنَ عبدِ المـُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شيئًا! ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسولِ اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا! ويَا فَاطِمَةُ بنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي ما شِئْتِ مِن مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شيئًا!»[3]، ويُشابه هذا الكلام ما وقع عند إرادة قريش الشفاعة في سرقة: وذلك "أنَّ قُرَيْشًا أهَمَّهُمْ شَأْنُ المـَرْأَةِ المـَخْزُومِيَّةِ الَّتي سَرَقَتْ، فَقالوا: ومَن يُكَلِّمُ فِيهَا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالوا: ومَن يَجْتَرِئُ عليه إلَّا أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ! فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ؟!... ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا.»[4]. فيظهر من هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحرص الناس على نسبة الفعل إلى أهله، وعلى إقامة حدود الله ولو على أحب الناس إليه؛ لأنه كما لربه عليه حق في نفسه، فله هو من مرتبة رسالته حق على أتباعه؛ لأنه إمام لهم في العبودية، وليس مَلِكا قد يعاقب الضعيف، ويُعفي أقاربه والنافذين من قومه. كل هذا، حتى لا يظنّ مسلم أنه بنسبته لفعل ما إلى اليهود ظلما، سيسلم من غضب الله ورسوله. وعلى العكس من ذلك، فإن الله ورسوله يُحبّ من المؤمنين أن يكونوا شهداء بالحق ولو على أنفسهم. يقول الله تعالى: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَۚ} [النساء: 135]. وقد سألت مرة أحدهم، وكان قد جاءني ينصحني في أمر: لو تخاصم أبوك وجاره إلى القاضي وأنت تعلم أن أباك ظالم، فهل تشهد بشهادة الحق أمام القاضي؟ فأجابني فورا: كلا!... وهو يظن أنه بار بوالده موافق للدين؛ فقلت له: إنك تكون عاصيا لله بذلك!... فسكت من دون أن يتراجع عن معتقده. وهذا الذي نطق به الرجل، هو من التديّن القوميّ الزائف، الذي فشا في المسلمين، لا من التديّن السليم. وها قد جاء أوان الكلام عن صنوف التديُن في الفصل التالي بإذن الله تعالى... [1] . أخرجه الترمذيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه. |