انتهاء الاعتصام بعد
1255
يــــــوم
بسم الله الرحمن الرحيم. يُنهي شيخ الطريقة العمرية عبد الغني العمري الحسني، إلى علم الرأي العام، ومن بعده إلى علم أتباع الطريقة العمرية في أنحاء العالم، أنه: 1. قد عزم على إيقاف اعتصامه مع عائلته داخل بيته نهاية يوم الثلاثاء 15-5-2018م، بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم لعام 1439ه. وللإشارة، فإن هذا الاعتصام قد بدأ يوم الاثنين 8-12-2014م، واستمر طيلة 1255 يوم. 2. سيغادر مدينة جرادة التي كانت محل اضطهاده وعائلته من طرف السلطات المحلية والأجهزة الأمنية، مع توظيف الأوباش والسفهاء من أهل المدينة في هذا العمل الشنيع. وسيكون مقر الشيخ المقبل إن شاء الله بمدينة سلا، مرفوقا بجميع أفراد عائلته. حرر بجرادة ليلة الأربعاء: 16-5-2018م. شيخ الطريقة العمرية: عبد الغني العمري الحسني
Translated
Sheikh's Books |
2023/10/25
القضية الفلسطينية: من المنظوريْن: الديني والعقلي (4)
الفصل الثالث: مكانة بيت المقدس
إذا اعتبرنا المطابقة التي بين العالم والإنسان، فإننا سنجد بيت المقدس بمنزلة القلب من الأرض. والقلب هو محور التديُن الذي تعود عليه الأنوار الناتجة من الأعمال المشروعة كلها. ولهذا، كانت النبوات تدور حول بيت المقدس، وكان الأنبياء لا بد لهم من الحلول به ولو لفترة من الزمان. ومرتبة القلب يُقابلها من الدين مرتبة الإيمان الذي هو قلبه، لهذا فإن لبّ الدين هو الإيمان الذي يكون مطمح أهل مرتبة الإسلام العام، ومنطلَق أهل الإحسان الذين هم أهل مرتبة الإسلام الخاص. وإن نحن حصرنا الكلام في الأمم الثلاث: الموسوية والعيسوية والمحمدية، فإننا سنجد الأولين على إسلام عام دخلوه في مصر مع بداية الدعوة الموسوية؛ ثم انطلقوا يسعون إلى بيت المقدس طلبا للتّحقّق به. ولكن استعدادات القوم لم تكن تسمح بذلك، فكانوا يُخالفون موسى كثيرا في أثناء الطريق، ولم يرضوا بما قسم الله لهم من أرزاق، وارتكسوا إلى الوثنية التي هي نزول حتى عن الفطرة؛ فحكم عليهم ربّهم بسبب ذلك بالتيه في صحراء مصر أربعين سنة جزاء لهم على سوء أدبهم وعلى مخالفتهم لرسولهم. ولم يتمكنوا من دخول فلسطين إلا في عهد يوشع بن نون إمامهم بعد موسى وهارون، على الجميع السلام؛ ولم يستقرّ لهم المقام بعد ذلك كما سنرى إلا قليلا بالنظر إلى عمر أمتهم. ويُقسّم المؤرّخون تاريخ اليهود في فلسطين إلى ثلاث حقب: الأولى: حقبة القضاة (حوالي 1250 ق.م): والمراد بها أن يوشع بن نون عليه السلام لما فتح الأرض المقدسة، قسم الأرض المفتوحة على أسباط بني إسرائيل، فأعطى لكل سبط قسماً من الأرض، وجعل على كل سبط رئيساً قاضيا من كبرائهم، وجعل على جميع الأسباط قاضياً واحداً يحتكمون إليه فيما يقع بينهم من خلاف؛ وهو الرئيس على جميعهم. واستمر هذا الحال ببني إسرائيل قرابة أربعمائة عام فيما يذكر اليهود، كان بينهم وبين أعدائهم فيها، من الأمم المجاورة، حروب دائمة، تارة ينتصرون هم، وتارة ينتصر الآخرون. الثانية: حقبة الملوك (من 1020 إلى 930 ق.م): وهي الحقبة التي بدأ فيها الحكم يتبلور في صورة المـُلك، بسبب الحاجة إلى من يتزعمهم في القتال ضد أعدائهم. وقد أخبرنا الله بخبر أول ملوكهم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} [البقرة: 246]، فجعل الله عليهم طالوت ملكاً، فقبلوه على كره منهم، ويسمونه في كتبهم شاؤول. وقد كانت الأنبياء من بني إسرائيل يسوسون قومهم من الناحية الدينية، ويسوسهم الملك من الناحية العسكرية بإذن من النبيّ المعاصر له أو المـُساكن؛ إلى أن جاء عهد داود عليه السلام، ثم ابنه سليمان عليه السلام، حيث جمع الله لهما بين النبوة والمـُلك، وهو ما يُسمّى اصطلاحا في الدين: الخلافة. فكانت هذه الخلافة أكثر عهود بني إسرائيل ازدهارا، وإن لم يكونوا هم يعلمون حقيقتها. وسنجد اليهود فيما بعد لا يذكرون داود وسليمان إلا من كونهما ملِكيْن فحسب، وهو ما يؤكّد ما ذهبنا إليه من جهل الغالبية منهم بحقيقة الأمر. الثالثة: حقبة الانقسام (حوالي 930 ق.م): وهي الحقبة التي تلي عهد سليمان عليه السلام، حيث تنازع الأمر بعده رحبعام بن سليمان عليه السلام ويربعام بن نباط، فاستقل رحبعام بسبط يهوذا وسبط بنيامين، وكوَّن دولة في جنوب فلسطين عاصمتها بيت المقدس، وسُميت دولة يهوذا نسبة إلى سبط حكامها، وهو سبط يهوذا الذي من نسله داود وسليمان عليهما السلام وملوك تلك الدولة. واستقلَّ يربعام بن نباط بالعشرة أسباط الأخرى، وكوَّن دولة في شمال فلسطين، سُميت دولة إسرائيل وجعل عاصمتها نابلس. وأهل هذه الدولة يسمون لدى اليهود بـ (السامريين)، نسبة إلى جبلٍ هناك يسمَّى (شامر) اشتراه أحد ملوكهم وهو (عِمْري)، وسُميت أرضهم عليه بالسامرة. ويلاحظ أن السامريين -وهم شعب دولة إسرائيل- غيَّروا قبلتهم من بيت المقدس إلى جبل يسمى (جرزيم) ويعتبرهم اليهود من شعب يهوذا ملاحدة وكفاراً؛ لتغييرهم القبلة. ثم إنَّ الدولتين كان بينهما عداء وقتال، يتخلله في بعض الفترات من تاريخهما توافق وتعاون. وكانت دولة إسرائيل كثيرة القلاقل والفتن، وتغيَّرت الأسرة الحاكمة فيها مراراً عديدة. أما دولة يهوذا فاستقر الحكم بها في سبط يهوذا من ذرية سليمان بن داود عليهما السلام، كما أسلفنا؛ وكانت تقع على الدولتين حروب من جيرانهم الأراميين، والفلسطينيين، والأدوميين والموآبيين. كما أن الدولتين وقع من حكامهما وشعبيهما عبادة للأصنام في كثير من الأوقات؛ وخاصة دولة إسرائيل واليهود السامريين. وبعد حقبة الانقسام ستأتي حقبة الشتات المتعدّد، التي لا تعنينا الآن، بما أن مرادنا هو إبراز مكانة بيت المقدس حصرا. وينبغي أن نلاحظ بعد هذه النبذة التاريخية الموجزة ما يلي: 1. أن بني إسرائيل في حقبة القضاة، كانوا ما يزالون متبعين للشريعة الموسوية، على ما يعتريهم من ضعف في معاملة الله بها، كما هو معلوم من أحوالهم. فالشريعة قبل كل شيء لديهم، هي قانون ينظم حياتهم الاجتماعية، وينتظم شعائرهم في معبدهم. وهذا يُشبه ما يكون عليه العامة من المسلمين في كل زمان... 2. أنهم دخلوا في صراع مع جيرانهم عن قريب، وهو ما دعاهم إلى طلب تنصيب الملوك عليهم. ورغم أنه كان بإمكانهم تحقيق ترقّ إلى مرتبة القلب (الإيمان) من الدين، مع داود وسليمان عليهما السلام، فإن غالبيتهم قد بقيت على معاملة ظاهرية وسطحية لربها معهما. وهو ما يجعل مَن تحقق بالإيمان منهم، يبقون قلة، سينفصلون عن فساقهم انفصالا يجعل دولتهم دولتيْن بعد أن كانت واحدة كما يُفترض أن تكون. 3. انفراد دولة يهوذا ببيت المقدس، يدل على أنهم هم من كانوا تابعين لنهج داود وسليمان ولو جزئيا؛ لأن إيمانهم هو ما سيجذبهم إلى بيت المقدس كما سبق أن أشرنا، للمناسبة التي بينه وبين الإيمان. وأما دولة السامرة التي يمكن أن نسميها باصطلاحنا من داخل الدائرة الإسلامية: دولة الضرار، فإن أهلها لم يلبثوا أن تركوا الدين الحق ودخلوا في أديان الوثنيّين المجاورين لهم عندما كانوا يتغلّبون عليهم في الحروب. ودليل فسوق الإسرائيليين، هو مقاتلتهم المرة بعد الأخرى ليهوذا؛ لأن القتال في الظاهر، لا يكون إلا بعد الانفصال من جهة الباطن، وهو أمر يغفله الناس كثيرا. والذي ينبغي أن يُذكر هنا، هو أن فسوق اليهود وكفرهم، سيجعل بيت المقدس (الإيمان) ينفيهم عنه. وهو ما وقع لهم مع كل شتات، وإن كانوا هم لا يربطون بين واقع الأمر وأحوالهم، بسبب ضعف عقلهم الدينيّ. 4. ولنلاحظ أن دولة "إسرائيل" اليوم قد تسمت باسم دولة إسرائيل القديمة، ولم تتسمّ بدولة يهوذا. وهذا لأن اليهود اليوم على الكفر الذي كانوا عليه إبان عصر الانقسام، وهو ما يؤكّد الكفر الذي حكم الشرع به عليهم منذ مجيء عيسى عليه السلام على وجه الخصوص؛ وكأنهم مع البعثة العيسوية، قد ازدادوا كفرا على كفرهم فحسب. غير أن اليهود سيعملون على إعادة صلتهم ببيت المقدس، من دون أن يعيدوا النظر في شروطها الباطنية؛ لذلك سيبقون غرباء عنه، وإن أقام به بعضهم وقتيّا، أو تعلّق به آخرون في الشتات؛ كما يكون الغافل غريبا عن قلبه في حال غفلته، حتى لَيكاد يُنكر مع ذلك نفسه. بل إن حكم الشرع على من هذه حاله، هو أنه لا قلب له. يقول الله تعالى: {إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِیدٌ} [ق: 37]. ومعنى هذا، أن من الناس من لا قلب له حكما، بحسب مفهوم المخالفة... وإن الإسرائيليّين عند تغييرهم للقبلة، كانوا موافقين لحقيقة ما هم عليه؛ وكأنهم يُخبرون عن أنفسهم بأنهم بعد أن كانوا على إيمان (مجمل)، صاروا وثنيّين ومادّيّين لا يعقلون شيئا من معاني الدين. ومن كان له اطلاع على عقائد اليهود، فإنه سيجد ذلك سمة مميّزة لهم. وإن أغلب ما طرأ على عقائد اليهود من تطوير كالقبالا (في العربية: القبول)، فهو من احتكاك اليهود بعقائد النصارى في القرن الأول الميلادي. وسيظهر تطوير آخر عند احتكاك اليهود بالكلام عند المسلمين (اللاهوت الإسلامي)، بدءا من القرن السابع الميلادي. وهذا التطوير في التديّن اليهودي، كان ينبغي أن يُبرز لدى الدارسين، وأن يُبحث فيه عن نقاط التلاقي والافتراق، وعن الشخصيات المحورية من الأمم الثلاث، والتي يمكن الربط فيما بينها في مجال العقائد، أو على الأقل في منهجية تناول العقائد. وأما المسيحيّون، فإن عيسى عليه السلام جاء ليدعوهم إلى مرتبة الإيمان مباشرة، بعد أن رقّاهم عن معاملة الله بظاهر الشريعة وحده كما يفعل ذلك عندنا عموم الفقهاء، ومن يتبعونهم من المادّيّين المسلمين. وبتحقق المسيحيّين (وهم غير النصارى الذين سيأتون بعدهم) بمقامات الإيمان وأحواله، فإنهم صاروا مستحقّين لأن يسكنوا بيت المقدس عن جدارة؛ إلى أن غدر بعيسى يهوذا الأسخريوطي ووشى به عند السلطة الرومانية التي حكمت عليه بالقتل. غير أننا نحكم على ما جرى لعيسى بعد المحاكمة، بما حكم به الله تعالى، لا بما يظنّه النصارى عند نزولهم عن مرتبة الإيمان، وعودتهم إما إلى الإيمان المجمل الذي يكون عليه أهل مرتبة الإسلام، وإما إلى الكفر عند غلبة الظلمة، ودخول عمل الشيطان عليهم. ولسنا نعني إلا قولهم بصلب المسيح وقتله، عليه السلام. ولقد أخبرنا الله بالحق في هذه المسألة بقوله تعالى: {وَقَوۡلِهِمۡ إِنَّا قَتَلۡنَا ٱلۡمَسِیحَ عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمۡۚ وَإِنَّ ٱلَّذِینَ ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ لَفِی شَكٍّ مِّنۡهُۚ مَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّۚ وَمَا قَتَلُوهُ یَقِینَۢا} [النساء: 157]. وما زالت النصارى لا يتمكنون من الإيمان بما أخبر الله به، لغلبة الحسّ عليهم ونزولهم هم أيضا عن مرتبة الإيمان المجمل، إلى الكفر؛ خصوصا وأن منظّريهم قد جعلوا مسألة القتل التي يقوم عليها القول بالفداء، محورية في عقيدتهم. وبهذا صاروا كمن قيّد نفسه عن الحركة، وإن كان يزعم أنه يسعى إلى التقدّم بالمعنى الديني. وهذا مما يفعله الشيطان بالناس، من إضلال مركّب، يجعلهم يُحافظون عليه من أنفسهم، من دون أن يُتعب هو نفسه معهم في تثبيتهم عليه، إلا ما يكون من تعهّد له بين الوقت والوقت. وبما أن بيت المقدس هو قلب العالم، كما أخبرنا، فإنه سيكون محل تأثّر بكل ما يقع فيه من أحداث؛ كما يتأثر القلب بما يقع لجميع جوارح الجسم. والمقصود من كل المعاملات البدنية، هو أثرها على القلب، لا عينها كما هو معلوم؛ وذلك حتى يترّقى القلب ويتزكّى، طورا بعد طور. وكما أن القلب يتأثر بأعمال الجوارح، فإنه يؤثّر فيها من كونه الحاكم عليها. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ!»[1]. والمعنى هو أن الصلة بين البدن والقلب جدليّة: فالقلب يتنوّر بأعمال البدن الموافقة للشرائع، والبدن يصلح إذا تنوّر القلب، وصار محلا لإلقاء الملائكة. وعلى هذا، فإن العالم، إذا فسدت أقاليمه، وساد الظلم فيها، فإن ذلك يعود على بيت المقدس بالاضطراب والفتنة المتواصلة، وهذا هو ما يُميّز أحداث فلسطين في آخر الزمان، وما يجعلها مركز الأحداث الكبرى. كما أن ما يحدث في فلسطين يتأثّر له العالم كله، كما هو جليّ في وقتنا هذا، إلى أن يأتي وقت الملحمة الكبرى، التي هي بحسب التعبير الشائع: حرب عالمية. ولذلك سيكون بيت المقدس ملتقى كبار المؤثّرين من الأخيار ومن الأشرار جميعا: فمن الأخيار عيسى والمهدي عليهما السلام، ومن الأشرار المسيح الدّجّال. ولنلاحظ أن هؤلاء الأشخاص كل واحد يمثل أمة من الأمم الثلاث: فالمهدي يمثل المسلمين، وعيسى بعد النزول يمثل المسيحيين ضمن الإسلام، لا النصارى، إلى أن ينتقل المهدي الذي هو خاتم الخلافة الخاصة عن الدنيا، فيخلفه على المؤمنين في خلافة عامة بالنيابة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهذا، لأنه عند نزوله سينزل تابعا محمديّا، ولا يليق به إلا هذا. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد رأى صحيفة من صحائف أهل الكتاب بيد عمر رضي الله عنه، ومشيرا إلى فرادته في النبوة والرسالة: «أتَتَهوَّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً. لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُونَكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُونَهُ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُونَهُ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتْبَعَنِي.»[2]. ولنتفحص الآن معاني هذه العبارات: - «أتَتَهوَّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ!»: أي أتشكّون فيها وتضطربون؟... والضمير يعود على السبيل المشروعة، بشقّيها العقدي والعملي. وهذا تعجّب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سنرى سببه... - «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً»: هذا القسم من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم عظيم، لأنه يُقسم بنفسه وهي أعظم مخلوق ربّاني، ويُقسم بربه الذي أخرج من حقيقته كل ما ظهر من العوالم. وهو يُقسم على أنه جاءنا بالشريعة بيضاء نقيّة، أي في أعلى درجات الوضوح والصلوح والنفع. وهذا، لأن الرسل متفاوتون في شرائعهم، وإن كانت كلها من عند الله لاعتباريْن: الأول: مرتبة الرسول، والتي لا يبلغ أحد من الرسل السابقين فيها محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وإن عظمت مكانتهم كإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم... وهذا لأن النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم هو ختم النبوة كما أسلفنا. فهو بمثابة قطب المقام المعروف لدى الصوفية في مقاماتهم. ووجه مرتبة الرسول، يحكم على مراتب الورثة الذين يرثون من علومه في إمامتهم لهذه الأمة بعده عليه السلام. والثاني: استعدادات الأتباع. ونعني من هذا أن للشريعة منطقا تتبعه، فلو أنها جاءت بأعلى مما يُدركه قوم، لما تمكنوا من اتباعها. ولهذا فإن الشريعة الموسوية كانت من المرتبة الأولى، ثم صارت مع ترقية عيسى لها، من المرتبة الثانية؛ وأما الشريعة المحمدية، فهي من المرتبة الثالثة العليا. وهذا الوجه من الشريعة، يحكم على أهل الدين كلهم من أتباعها، ممن هم دون الورثة؛ لأن الورثة مندرجون في مرتبة موروثهم، وهم بهذا في طور المواجهة لا في طور التوجّه؛ والدين كله توجّه، فليُعتبر هذا التفصيل فإنه عظيم الأثر، وتنشأ عنه أحكام فقهية صارت مجهولة لأغلب المسلمين، منذ الانحراف الأول. وإذا قورنت الشريعة في مرتبة دنيا، مع الشريعة في المرتبة العليا، فإنها تظهر وكأنها أقل بياضا ونصاعة وأقل نقاء، وكأنه خالطها من غبش الأهواء (الدخان) والعقول (الظلمة) ما خالطها. وهما إن تعاظما عليها، يخرجان بها إلى الأيديولوجيا الدينية التي نحذّر منها نحن دائما. - «لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُونَكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُونَهُ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُونَهُ»: اللام هنا للنهي والنهي للتحريم، وليست للإخبار وحده. والمعنى هو أنه يحرم على المسلمين النظر في كتب أهل الكتاب، لأنهم يكونون في ذلك بين حاليْن: - إما أن يسمعوا منهم (أو يقرأوا) حقا، فيكذبونه بسبب جهلهم؛ فيكونون عند الله من المكذّبين بالحق الذي يوافق القرآن، فيُعدّون من المكذّبين، وهو ما يفر منه كل مؤمن يخاف على نفسه الهلاك. - وإما أن يسمعوا منهم باطلا اختلقوه، فيصدقونه بحسن الظن، أو لشبهة تعرض لهم؛ فيكونون من المصدقين بالباطل، فيُكتبون عند الله من ذلك الصنف. وهو أمر يفر منه كل مؤمن أيضا. وأما إن سأل سائل: فلمَ نظر بعض أئمة الدين في كتب أهل الكتاب؟... فهل يكونون قد خالفوا النهي النبوي؟ أم إن المسألة لها وجه آخر؟... قلنا: إن أئمة الدين لا تجوز عليهم مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهم إنما فعلوا ما فعلوا، لأنهم ليسوا كالعامة معرّضين للخطريْن المذكوريْن آنفا؛ بل هم في مأمن، لأنهم على كشف تام. ونعني من هذا، أنهم بمجرّد النظر إلى الكتاب من كتب أهل الكتاب، يُميّزون منه بين ما هو أصلي وما هو محرّف؛ ويعرفون بالنظر إلى الأصلي، ما يوافقه من القرآن، أو ما يكون له أصلا، إن كان الكلام يدخل عندنا في باب الفروع. ولقد كنّا بحمد الله عند كتابتنا لأجزاء "الحوار الغائب"، نتابع ما في التوراة وما في الإنجيل سطرا سطرا، وكنّا نعرف ما ذكرنا بيُسر والحمد لله. - «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتْبَعَنِي.»: أما الآن فقد وصلنا إلى الخلاصة، وهي أن العبد في الزمن التشريعي المحمدي، لا يُقبل منه أن يتبع شريعة منسوخة كشريعة موسى أو كشريعة موسى مع التوجيه العيسوي. وهذا لأنه لو افترضنا أن موسى أو عيسى، كانا حيَّيْن في الزمن التشريعي المحمدي، الممتد من البعثة الشريفة إلى قيام الساعة، لوجب عليهما اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كسائر المؤمنين. وهذا لأن ختمية النبوة التي لنبيّنا، تحكم بإمامته لمن هم دونه في المرتبة، وكل مأموم حضر إمامُه، وجب عليه التأخر إلى صفوف المأمومين. ومن هذا الحكم كان هذا الإخبار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع موسى له لو كان حيّا. ومنه أيضا كان تأخر عيسى في الصلاة مع المهدي، عندما أراد المهديّ أن يُقدّمه. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظاهِرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَمِيرٌ؛ لِيُكْرِمَ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ.»[3]. ولنتناول عبارات هذا الحديث واحدة واحدة، لاستخراج الأحكام الشرعية المناسبة منها: - «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظاهِرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»: وقد تعرّضنا لهذه الطائفة سابقا، وذكرنا أنهم المجاهدون من أهل الشام. وعلينا أن نعلم أن المرابطة وحدها، ومن دون قتال هناك، هي جهاد مستمر إلى يوم الدين. وهذا فضل على الأمة، حتى لا يغيب فيها عمل الجهاد في زمن من الأزمنة، عندما تنقسم الأمة ولا يكون لها إمام، كما هو الشأن في زماننا. وهكذا، فإن أهل الشام يكونون قائمين بالفرض الجهاديّ كفاية عن جميع الأمة؛ فجزاهم الله عنها خير الجزاء. - «فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أَمِيرٌ»: أي ينزل عيسى وارثا محمديّا، وتبقى رسالته باطنة في وراثته. ولولا هذا، لم تكن لتصحّ إمامة خليفةٍ (المهدي) لرسول (عيسى)، وهو أعلى منه مرتبة. ومن هنا، وبسبب جهل الناس بأحوال القلوب، كان يُسنّ لهم أن يؤمّهم أقرأهم للقرآن إن كان على صلاح عام، وأما إن كان فاسقا ويحفظ القرآن فيُقدّم عليه الصالح غير المتم لحفظ الكتاب. وهذه أحكام شرعية، تستند إلى أحوال باطنية ينبغي اعتبارها. وتقديم عيسى للمهديّ في الصلاة هو عن حكم شرعيّ لاعتبار آخر أسبقنا الإشارة إليه، وهو: أن رسالة عيسى تكون باطنة في ذلك الوقت، وخلافة المهديّ ظاهرة، والحكم للظاهر عند تعارض الأحكام. وفي تقديم المهدي أيضا اعتبار ثالث وهو: تأدب عيسى مع محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، كما يتأدّب المريد مع ابن شيخه، وهو قد لا يبلغ مرتبته ومقامه. - «لِيُكْرِمَ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ»: والمعنى ليكرمها بي، حيث تظهر كرامتها عند إمامة واحد منها، لنبيّ رسول. ومن هذا الباب سؤال موسى أن يكون من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تكلم أهل الحديث في الروايات الواردة في هذا المعنى، ونحن نؤكد صحته من جهة الباطن؛ وذلك لأن جميع الأنبياء السابقين ليسوا أنبياء بالأصالة، إنما بالنيابة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحسب. ومن كان محمد إمامه في النبوة، فهو (أي الثاني) يكون داخلا في أمته بلا شك. وهذا يعني أن من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم: الأنبياء والرسل السابقون، بالإضافة إلى أفرادها من الخواص والعوام المعلومين من كل الأزمنة. وهذه الكرامة من خصائص محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يظهر فضله في كل مرتبة وكل مقام، على جميع المخلوقين. والدليل على ما ذكرنا من كتاب الله، قوله تعالى: {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ لَمَاۤ ءَاتَیۡتُكُم مِّن كِتَـٰبٍ وَحِكۡمَةٍ ثُمَّ جَاۤءَكُمۡ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَ ٰلِكُمۡ إِصۡرِیۖ قَالُوۤا۟ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُوا۟ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ} [آلا عمران: 81]: - {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ}: أخذ عليهم العهد... - {لَمَاۤ ءَاتَیۡتُكُم مِّن كِتَـٰبٍ وَحِكۡمَةٍ}: أي بحق ما أوحيت إليكم، وجعلتكم أئمة لأممكم... - {ثُمَّ جَاۤءَكُمۡ رَسُولٌ}: أي جاءكم الرسول بـ "الـ" العهدية؛ والتنكير هنا للتعظيم، وهو أسلوب من أساليب العربية. والمعنى أنه إذا جاء، فإن الرسالة ستعود إليه بأكملها، وتعودون أنتم من خواص المؤمنين الأتباع... - {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمۡ}: أي يوافق ما يأتي به ما تعلمونه من كتبكم ومن أنفُسكم. والموافقة التي نعنيها هنا هي موافقة البعض للكل، بما أن القرآن هو الجامع لكل الكتب، وهو المهيمن عليها. - {لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ }: أي لتؤمنُنّ به وجوبا، كما يُؤمن بكم أتباعكم؛ ولتنصرُنّه وجوبا، كما هو واجب على أتباعكم نصرتكم... - {قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَ ٰلِكُمۡ إِصۡرِیۖ قَالُوۤا۟ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُوا۟ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّـٰهِدِینَ}: أي إن الله بعد أن بين ميثاقه لأنبيائه، جعلهم يُقرّون عليه، وبعد ذلك أشهدهم عليه، ليشهدوا على أنفسهم، ويشهد بعضهم على بعض؛ وهذا عملا بما تعطيه الشريعة في باب المكاتبات والعقود. ثم شهد هو سبحانه على الجميع، حتى يُحاسبهم على مقتضى ما جاء في هذا الميثاق الخاص. وإن عيسى عليه السلام سيتحقق له ذلك ظاهرا، بعد نزوله، كما تحقق له باطنا بمعية كل الأنبياء عليهم السلام. وهذه المكانة التي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لم نجد من عوام الفقهاء من يدل عليها وعلى أحكامها، وعلى تبعات أحكامها لدى الأمم السابقة، مع ظهور أدلتها من القرآن ومن السّنّة. وهذا قصور سيكون من نتائجه المباشرة، عودة كثير من المسلمين إلى مرتبة الكتابيّين. وسنعود إلى هذا الحكم من وجوه أخرى، عندما يحين أوان ذلك إن شاء الله... وأما الآن وتتميما لهذا الفصل، فينبغي علينا أن نبيّن لمَ بدّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبلة في الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة من بيت الله الحرام. وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد بدأ دعوته متواضعا لربه، مقتديا بالأنبياء السابقين له عليهم السلام. وكان ذلك يقتضي منه أن يستقبل بيت المقدس في صلاته، وقد دام ذلك ما يقارب السنتيْن من العهد المدنيّ. وبعد انقضاء مرحلة الدعوة القلبية، أذن الله لنبيه أن يجعل قبلته الكعبة المشرّفة، ليصل بها صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة بينه وبين إبراهيم عليه السلام، الذي كان أول من دعا إلى مرتبة الذات. يقول الله تعالى: {وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ} [البقرة: 127]. والعودة إلى دعوة إبراهيم تقتضي العودة إلى الإسلام التام، لا إلى الإيمان المنتكس؛ أي الذي كان إيمانا، ثم عاد كفرا. يقول الله تعالى: {مَا كَانَ إِبۡرَ ٰهِیمُ یَهُودِیًّا وَلَا نَصۡرَانِیًّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِیفًا مُّسۡلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ} [آل عمران: 67]؛ وهذا، لأن ما طغى على الدين المنحرف، هو اليهودية والنصرانية الحالّتيْن محل الإسلام الموسوي والإسلام العيسوي؛ مع أن الأمر لا يستقيم. ثم يقول الله تعالى لمحمد في مواجهة الدعوات المنحرفة عن دعوة إبراهيم: {فَإِنۡ حَاۤجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِیَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡأُمِّیِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُوا۟ فَقَدِ ٱهۡتَدَوا۟ۖ وَّإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّمَا عَلَیۡكَ ٱلۡبَلَـٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِیرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} [آل عمران: 20]. ومعنى إسلام الوجه، لم يفهمه المفسّرون، وهو إسلام الذات، لأن ذات العبد هي وجهه، وليس المقصود هنا الوجه المعتاد. وعندما يصل العبد إلى إسلام الوجه، فإنه يكون تابعا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى قدم إبراهيم عليه السلام، أما غير هذا فلا. ومن هنا يظهر أن اليهود والنصارى لا قدم لهم في هذا الإسلام الذاتي. والآن عندما نسمع دعوة إبراهيمية بين بعض المسلمين وبعض اليهود وبعض النصارى، فإننا سنعلم حتما أنها ليست الدعوة الأصلية، لأن الدعوة الأصلية تبدأ من البداية مع إبراهيم، أو تبدأ من النهاية مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم. أما هذه الدعوة الإبراهيمية التي نسمع عنها، والتي تجمع بين نصرانية ويهودية وإسلام منقوص، فليست إبراهيمية على الإطلاق؛ بل هي دعوة ضلال، تصب في الدين الدجالي الذي بدأ أصحابه يخرجون إلى العلن. لذلك فالدين الحق هو الدين الذي أسسه إبراهيم، وأتمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلا مجال للتصرف فيه بحسب ما يعطي الهوى، وإلا خرج المتصرف إلى الأديان التجريبية الأخرى. ومرتبة القلب السابقة إن نحن قارنّاها إلى مرتبة الذات، فإننا سنجدها صفاتية، وأما الذات فإنها من وراء كل معاني الصفات. وهكذا يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد رفع مستوى الدعوة إلى أعلى ما يمكن أن تبلغه. وهذا، إنما هو بالنظر إلى أعلى مرتبة من أمته، وأما غيرهم وإن كانوا منها، فإنهم سيكونون من مرتبة القلب، لكن من طريقه، لا من طريق الأنبياء من بني إسرائيل. وسيكونون مع أئمة من مرتبة الذات، يحمونهم من الضلال الذي قد يدخل عليهم من الدعوات الجزئية. وحتى عيسى عليه السلام، الذي كان ذاتيّا في نفسه، من باطن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن أمته لم تكن على الاستعداد المناسب، وإنما كانوا في أحسن الأحوال من أرباب القلوب. ولكن عُلو مكانة عيسى، قد أعطتهم أن يرتقوا من جهة العقائد إلى ما لم يبلغه غيرهم من نظرائهم. وكذلك كان كل الأنبياء ذاتيّين في أنفسهم، وكان أتباعهم صفاتيّين، مع أن مرتبة الصفاتيّين تكون هي نفسها على مراتب. فالطبقة الدنيا من الصفاتيّين، والذين هم عموم جميع الأمم، لا يعقلون إلا أفعال الله، ومن جهة الإيمان بها، لا من جهة المشاهدة والعلم التفصيلي. وإن كان بيت المقدس يقابل القلب، فإن بيت الله الحرام يقابل الروح. والروح من القلب في الناحية المقابلة للجسم، لهذا ستنقسم مراتب الدين إلى إسلام بدني (مع إيمان مجمل)، وإيمان قلبي هو أغلب ما تعلقت به الأمم السابقة، والإحسان الذي أكمل الله به نعمته على هذه الأمة، حتى كان بعض أفرادها على مثل ما كان عليه الأنبياء في العلوم والأذواق، من غير أن يُنسبوا إلى النبوة. هذا مع وجوب التذكير بأن النبوة تتعلق هنا بما هو من طور المواجهة لا التوجّه، فلا ينبغي الخلط... ويجسد انطلاق النبي من مكة محل إقامته، إلى بيت المقدس، ثم إلى العرش، في ليلة الإسراء والمعراج، قطع مراحل الدين كلها: بدءا من الإسلام الذي كان رحلة أرضية، إلى الإيمان الذي كان رحلة سماوية، ثم إلى الإحسان الذي كان ما فوق سدرة المنتهى. وهذا الإسراء والمعراج هو صورة تديّن كل مؤمن من هذه الأمة، ولا يكون ذلك إلا لأهل السلوك والتزكية. وسدرة المنتهى، هي المطابِقة لما يُسمّى عند أهل الطريق: الوصول؛ لأنها تفصل بين ما هو من طور التوجه، وما هو من طور المواجهة. وبالوصول ينتهي الدين من حيث هو توجّه إلى الله (سير)، ولا يبقى بعده إلا التحقّق بالحقّ، وهو طور المواجهة، لمن شاء الله له بلوغه. وتأكيدا للمعنى السابق الذي ميّزنا فيه الدعوات القديمة، عن دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلنذكر أن النبي عند بلوغه في ليلة العروج إلى بيت المقدس، وكان لا بد له من الانطلاق منه نحو السماوات، قد أمَّ في صلاة جامعة بأرواح جميع الأنبياء، وصلى بهم؛ ليدل بذلك على أنه صاحب المرتبة بالأصالة، كما نقول دائما. وبيت المقدس كان نهاية الرحلة الأرضية (الإسراء)، وبداية الرحلة السماوية (العروج). والعروج نحو السماوات، هو الترقي في مقامات الإيمان. والأنبياء الذين وجدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السماوات، هم أقطاب مقامات الإيمان من الأنبياء لا من الأتباع. فالأتباع لهم أقطاب للمقامات في كل زمان، يكونون مع أقطاب الأنبياء المناسبين لهم في المقام، أي مأمومين لهم في سماواتهم لا آمّين. ولأجل هذا، كنا نسمع من بعض الأولياء أنهم يذكرون أنهم لقوا فلانا في السماء الفلانية، مما قد يُنكره من لا علم له. وهذا يكون، إذا اشتركوا في المقام، وهم يُخبرون به وهم بعد في الدنيا، لأن أرواحهم مقيمة هناك. وإذا اعتبرنا الترتيب الوارد في حديث العروج الذي أخرجه مسلم، فإن السماء الأولى: كانت لآدم، ومقامه: التوكل؛ وآيته: {فَتَلَقَّىٰۤ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَـٰتٍ فَتَابَ عَلَیۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ} [البقرة: 37]. والكلمات هي الأمداد القلبية التي تجعل العبد متوكلا على ربه وحده؛ والتوكلّ ثمرة للتوبة النصوح التي هي خلاصة مرتبة الإسلام، وإن كان سيبقى لها فروع في كل مقام بعدُ. والسماء الثانية كانت ليحيى وعيسى، ومقامهما: الزهد والتروحن؛ وآيتهما: {أَنَّ ٱللَّهَ یُبَشِّرُكَ بِیَحۡیَىٰ مُصَدِّقَۢا بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَیِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِیًّا مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ} [آل عمران: 39]. والزهد تصديق بالعمل وهو أعلاه، والسيادة لا تُنال حتى لا يتحكم في القلب شيء غير ربه، والحصر هو الامتناع عن شهوة النساء بالمقام. وقد غلط من قال إنه امتناع عن عجز، لأن العاجز لا فضل له. وأما آية عيسى فقوله تعالى: {وَءَاتَیۡنَا عِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَیَّدۡنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِۗ} [البقرة: 87]. والتأييد بروح القدس، هو بلوغ النفس مرتبة الروح؛ وإذا بلغ العبد هذا، قيل إنه تروحن، لأن أحكام الروح تغطّي منه على أحكام البدن. ومن هذا الباب يكون طي المسافات، والطيران في الهواء، وسماع البعيد ورؤيته والاكتفاء من زاد الأبدان بأقل القليل، إلى غير ذلك مما هو معلوم من سير الأولياء بالتواتر. ولقد جمع الله يحيى وعيسى في سماء واحدة، لتوثق الصلة بين الزهد والتروحن، بحيث يكون الواحد منهما شرطا في الآخر، مع أسرار أخرى ليس هنا محلها. والسماء الثالثة وكانت ليوسف ومقامه: الصبر؛ وآيته قول الله تعالى: {ٱقۡتُلُوا۟ یُوسُفَ أَوِ ٱطۡرَحُوهُ أَرۡضًا یَخۡلُ لَكُمۡ وَجۡهُ أَبِیكُمۡ وَتَكُونُوا۟ مِنۢ بَعۡدِهِۦ قَوۡمًا صَـٰلِحِینَ} [يوسف: 9]، وخلف هذا المعنى من جهة الباطن ما لا يكاد يُحصر من التفاصيل. وهذا المقام هو عمدة السلوك، فمن لا صبر له لا سلوك له. والسماء الرابعة كانت لإدريس ومقامه: الشكر؛ وآيته: {وَٱذۡكُرۡ فِی ٱلۡكِتَـٰبِ إِدۡرِیسَۚ إِنَّهُۥ كَانَ صِدِّیقًا نَّبِیًّا} [مريم: 56]، والصدّيقيّة والنبوة لا ينالهما إلا شاكر، وهما تبعثان على الشكر؛ فالشكر هنا في الاتجاهيْن: سبب وغاية. والسماء الخامسة كانت لهارون ومقامه: الخوف؛ وآيته: {إِنِّی خَشِیتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَیۡنَ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِی} [طه: 94]؛ والخشية هنا الخوف. والسماء السادسة كانت لموسى ومقامه: الرجاء؛ وآيته: {وَعَجِلۡتُ إِلَیۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ} [طه: 84]. وأما السماء السابعة فكانت لإبراهيم، ومقامه: الرضى والتسليم؛ وآيته: {فَلَمَّاۤ أَسۡلَمَا وَتَلَّهُۥ لِلۡجَبِینِ وَنَـٰدَیۡنَـٰهُ أَن یَـٰۤإِبۡرَ ٰهِیمُ قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡیَاۤۚ إِنَّا كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ} [الصافات: 103-105]. وأما محمد صلى الله عليه وآله وسلم فله الجولان في كل السماوات، ولكن مستقر روحه العرش، من كونه خليفة لله تعالى. وآيته: {وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ وَمَا یَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰۤ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡیٌ یُوحَىٰ عَلَّمَهُۥ شَدِیدُ ٱلۡقُوَىٰ ذُو مِرَّةٍ فَٱسۡتَوَىٰ وَهُوَ بِٱلۡأُفُقِ ٱلۡأَعۡلَىٰ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ فَكَانَ قَابَ قَوۡسَیۡنِ أَوۡ أَدۡنَىٰ} [النجم: 1-9]. والأفق الأعلى: هو العرش، والذّي علّم: هو الاسم الله، وقاب القوسيْن: هو الجامع بين حقيقة الاسم ومظهره الخِلقي. ونحن نخالف أهل التفسير الظاهر في تفسير هذه الآيات، لأن جبريل عليه السلام، الذي يذهبون إلى جعل الآيات منوطة به، لم يتجاوز سدرة المنتهى. وعلى كل حال، فإن ما ذهب إليه المفسرون، لا بد أن يبلغ بالسامع الاضطراب، عند اختلاط المعاني عليه. وعلى ضوء ما سبق ينبغي أن يُفهم ما لحق من السورة، ولولا مشقة الإطالة لأكملنا التفسير. ومن كلّ ما سبق، نستخلص حكم بيت المقدس في الزمن التشريعي المحمدي، والذي هو التبعية في المكانة لبيت الله الحرام، كما يتبع الفرع الأصل. ومن هنا وجب على المسلمين أن لا يتركوا بيت المقدس لأمة من الأمم في زمنهم، وإن كانت مجاورة في أكنافه؛ لأن تلك الأمم، كانت من أهله بالمرتبة في زمنهم التشريعي، وأما في زمن كفرهم، فإنهم قد انقطعوا عنه. وأما المسلمون فإنهم إن لم ينتسب هو (بيت المقدس) إليهم عند تحقّقهم بالذاتية، فإنهم سينتسبون هم إليه عند محافظتهم على الإيمان ولو من مرتبة الإسلام. فما الظن بعد هذا، إن علمنا أن الذاتيّين لا تخلو منهم هذه الأمة في كل زمن من أزمنتها!... وأما ما تزعمه اليهود من صلة تاريخية ببيت المقدس، فلا اعتبار له؛ لأن الأحكام الشرعية، لا تتبع الوقائع التاريخية، ولكن تتبع الحقائق الربانية!... ولو أن الناس استحلّوا البلدان بحسب الصلات التاريخية، لوجب أن يعود كل شعب إلى بلده الأصلي، ولصعب ذلك على كثيرين. فلو أخذنا مثلا شعوب الولايات المتحدة، وألزمناها بالعودة إلى بلدانها الأصلية، لعاد معظمهم إلى أوروبا، وشطرهم إلى أفريقيا، والباقي إلى الصين والبلدان العربية وهكذا... ولن يستحق المكوث هناك إلا من كان من سلالة السكان الأصليّين المسمَّوْن: الهنود الحمر. ولا فرق في هذه المسألة بين من كان تاريخه دينيّا، وغيره؛ لأن الدين نفسه تتغيّر أحكامه كما أثبتنا عند تغيّر الزمن التشريعي. وكل هذا، إنما هو بحسب القاعدة العامة؛ وأما ما هو متعلّق بالحال اليوم، فيحتاج إلى تفصيل أكبر، سيأتي أوانه في الفصول القادمة بإذن الله... من هنا يظهر أن الدين الإبراهيمي الذي اتفق طائفة من اليهود ومن النصارى ومن المسلمين على إحيائه زعما، والذي جعلوه خليطا من كل ما لدى كل طائفة، لن يكون إلا دينا فرانكنشتاينيا، لا يصلح لفرد ولا لجماعة؛ وأهم شيء: لا يصلح طريقا للعبادة؛ بما أنه خليط صنعته الأهواء المتجاذبة. فلن يبقى إلا أن يصير دينا دجّاليّا، يشوش به الشيطان على أهل كل ملة. ولقد كان الأولى بالناس إن هم أرادوا الارتباط بالدعوة الإبراهيمية، أن يكونوا في هذا الزمان محمديّين، لأن محمدا وحده هو الإمام في مرتبة الذاتية التي دعا إليها إبراهيم عليه السلام. ومن هذا التصحيح، ستظهر الإصلاحات الصغيرة الفرعية التي يحتاجها المجتمع البشري كله، لو أن الناس كانوا يبغون الإصلاح. فمن بقي بعد هذا التفصيل، على ما كان عليه من دين محرف، عند اليهود وعند النصارى وعند المسلمين، فليعلم أنه من أتباع الشيطان، وأنه قد استحوذ على عقله، يُوجّهه بأمور تبدو منطقية، ولكنها في الواقع ضلالات بيّنة، لا بد أن تكون نهايتها الشرك. وفي المقابل، فإنه لا يدعو من الإسلام المحمدي إلى الذات، إلا الأئمة؛ لذلك، فهم وحدهم من يجوز لهم أن يقودوا الأمة، إن كانت الأمة تريد أن تترقى إلى سنام الدين. وأما إن اتبع العامة الفقهاء الذين يكون أغلبهم من مرتبة الإسلام، لا خبر لهم عن إيمان ولا عن إحسان، فليعلموا أنهم قد خرجوا إلى الضلال الكتابيّ، وأنهم سيلتقون مع غيرهم من الكتابيّين على الدين الإبراهيمي المكذوب، لينخرطوا في حزب الشيطان انخراطا رسميا. ومن لم يمحص أمر نفسه بالمعايير الشرعية، وعن طريق الاستعانة بشيخ عارف بالأحكام من جهتي الظاهر والباطن، فإنه سيدفع بنفسه إلى المجهول، وإن كان انطلاقه من الدين الحق بحسب إدراكه. ولعل الأمور ستتضح بالتدريج، ومع تقدمنا في هذا الكتاب بإذن الله... [1] . متفق عليه، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما. |